{يونيسكو} تسلط الضوء على مدينة الزهراء في قرطبة

بناها الخليفة الأندلسي عبد الرحمن الناصر

الرواق الكبير بمدينة الزهراء
الرواق الكبير بمدينة الزهراء
TT

{يونيسكو} تسلط الضوء على مدينة الزهراء في قرطبة

الرواق الكبير بمدينة الزهراء
الرواق الكبير بمدينة الزهراء

اتخذت لجنة التراث العالمي التابعة لليونيسكو التي عقدت اجتماعها في البحرين، برئاسة الشيخة هيا بنت راشد آل خليفة، الأحد، قرارا بقبول إدراج مدينة الزهراء ضمن قائمة المناطق الأثرية العالمية التي تجب المحافظة عليها.
وقد حضر اجتماع اليونيسكو، للدفاع عن ترشح مدينة الزهراء، رئيسة بلدية مدينة قرطبة، إيزابيل أمبروسيو، والمستشار في حكومة الأندلس المحلية، ميغيل أنخيل بيلاثكيث، ومفوضة الحكومة إستير رويث، ورئيس المجلس المحلي للمدينة، أنتونيو رويث.
وجاء في التقرير الذي قدمته إسبانيا إلى اليونيسكو للدفاع عن ترشح مدينة الزهراء، أن لك لكونها «تمثل تطور الحضارة الإسلامية في الأندلس، وتعكس فترة مهمة من القرن العاشر الميلادي، فترة إعلان الخلافة الأموية في قرطبة في منطقة الغرب الإسلامي».
تقع مدينة الزهراء التي بناها الخليفة الأندلسي عبد الرحمن الناصر (300 - 350 هـ) (891 - 961 م) غرب مدينة قرطبة، جنوب إسبانيا. واستمر ابنه الحكم المستنصر في بناء المدينة، وبذلك تكون مدة بنائها قد استمرت نحو أربعين عاما، وبعد وفاة الحكم، وتولي ابنه هشام المؤيد الخلافة، وكان صغيرا، سيطر الوزير ابن أبي عامر على السلطة، وبدأ ببناء مدينة أخرى قريبة من قرطبة، وأطلق عليها اسم الزاهرة، وبذلك بدأ اسم مدينة الزهراء ينحسر شيئا فشيئا، ثم بعد وفاة الوزير ابن أبي عامر شاعت الفوضى في الأندلس، ونهبت مدينة الزهراء وسرقت محتوياتها المهمة، حتى لم يعد لها ذكر.
نالت مدية الزهراء عناية خاصة من قبل الخليفة الناصر، الذي أولى جل اهتمامه لإظهارها أروع مدينة في أوروبا، فبنى فيها القصور الفخمة والرياض الفسيحة وزودها بالتحف النادرة والتماثيل الجملية، وينقل المؤرخون عن مسلمة بن عبد الله العريف المهندس قوله: «كان مبلغ ما ينفق فيها كل يوم من الصخر المنحوت المنجور المعدل ستة آلاف صخرة».
قال المقري في كتابه نفح الطيب: «لمّا بنى الناصر قصر الزهراء المتناهي في الجلالة والفخامة، أطبق الناس على أنه لم يُبن مثله في الإسلام ألبتّة، وما دخل إليه قط أحد من سائر البلاد النائية والنحل المختلفة من ملك وارد ورسول وافد وتاجر جهبذ، إلا وكلهم قطع أنه لم يرَ له شبها؛ بل لم يسمع به؛ بل لم يتوهم كون مثله»، ووصفها المؤرخ ابن حيان: «كانت أهول ما بناه الإنس، وأجله خطرا، وأعظمه شأنا».
وفي الوقت الذي كان الجميع مذهولاً لعظمة الزهراء والأموال الهائلة التي صرفت عليها، انبرى القاضي منذر بن سعيد لنقد ظاهرة البذخ في البناء. وفي إحدى خطبه بحضور الخليفة الناصر، بدأ منذر بن سعيد بذم تشييد المباني الفخمة والإسراف في الإنفاق عليها، وبعد الانتهاء من خطبته، قال الناصر لابنه الحكم: «والله لقد تعمدني منذر بخطبته، وما عنى بها غيري». وذكر ابن خاقان أن الناصر عندما أكمل بناء قبة مذهلة في قصره، رصّعها بالذهب والفضة، ثم دعا نخبة من أصحابه لمشاهدتها، وبعدها خاطبهم: هل رأيتم أو سمعتم ملكا كان قبلي فعل مثل هذا؟ فقالوا: لا والله يا أمير المؤمنين. فأبهجه قولهم وسرّه، إلا منذر بن سعيد الذي لم يكن مسرورا بذلك، ذكّر الخليفة بآيات من القرآن الكريم، فأطرق الناصر قليلا، ثم قال: الذي قلت هو الحق. وأمر بنقض القبة.
وفي إحدى المرات كان الناصر منهمكا في مراقبة البناء، فأنشد مفتخرا بحضور منذر بن سعيد:
همم الملوك إذا أرادوا ذكرها من بعدهم فبألسُن البنيان أوَما ترى الهرمين قد بقيا وكم ملك محاه حوادث الأزمان إن البناء إذا تعاظم شأنه أضحى يدل على عظيم الشان وبعد فترة أنشد منذر بن سعيد أمام الناصر: يا باني الزهراء مُستغرقا أوقاته فيها أما تمهل لله ما أحسنها رونقا لو لم تكن زهرتها تذبل يعلق المقري على هذه الحادثة بقوله: «لقد صدق القاضي نذر، رحمه الله تعالى، فيما ال، فإنها ذبلت بعد ذلك في الفتنة، وقُلب ما كان فيها من مِنحة مِحنة».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)