بروكسل نموذجاً لثنائية التهميش والتطرف

حركة «الشريعة من أجل بلجيكا» من بين أخطر الجماعات المتشددة في البلاد

امرأة مع طفلها تتسول في أحد أحياء بروكسل المهمشة (غيتي)
امرأة مع طفلها تتسول في أحد أحياء بروكسل المهمشة (غيتي)
TT

بروكسل نموذجاً لثنائية التهميش والتطرف

امرأة مع طفلها تتسول في أحد أحياء بروكسل المهمشة (غيتي)
امرأة مع طفلها تتسول في أحد أحياء بروكسل المهمشة (غيتي)

متى كانت بداية ظهور التيار الأصولي المتشدد في بلجيكا؟ وأي من الجماعات أو الأفراد الذين كان لهم دور بارز في نشر الفكر الراديكالي في البلاد؟ قد تختلف الإجابة في تحديد البدايات، فهناك من يرجع الأمر إلى التسعينات من القرن الماضي على يد شيخ سوري يدعى بسام العياشي كان له مركز إسلامي في بلدية حي مولنبيك بالعاصمة البلجيكية بروكسل، والبعض الآخر يشير إلى الدور الكبير الذي لعبه خالد زرقاني، الذي نجح في تجنيد عدد كبير من الأشخاص - وبخاصة من سكان مولنبيك - الذين تأثروا بالفكر المتشدد ونجحوا في إقناع أعداد أخرى بالسفر إلى سوريا والعراق للقتال في صفوف «داعش». وهناك رأي ثالث يحمّل «جماعة الشريعة» في بلجيكا التي كان يترأسها فؤاد بلقاسم المسؤولية، وتجنيد عدد غير قليل من الشباب للسفر إلى مناطق الصراعات، ومنهم عدد من شباب مولنبيك ببروكسل ومناطق أخرى من بلجيكا. لكن رغم الاختلاف في تحديد البدايات والمسؤولية... فإن القاسم المشترك في كل ما سبق هو بلدية مولنبيك.
يعزو عدد كبير من الباحثين الأوروبيين في شؤون الجماعات المتشددة، التي ترفع ألوية الإسلام، جذور الراديكالية في حي مولنبيك إلى عقد التسعينات من القرن الماضي عندما أسس بسام العياشي، وهو مهاجر سوري، ما يسمى «المركز الإسلامي البلجيكي». ويشتمل هذا المركز على مسجد عشوائي صار بؤرة لنشر الفكر الراديكالي. ويقول يوهان ليمان، وهو عالم أنثربولوجيا ومن الناشطين الاجتماعيين في حي مولنبيك، إنه «دق ناقوس الخطر حول أنشطة المركز، لكنه لم يتلق استجابة تذكر من السلطات المختصة». وتابع ليمان: إن «هذا الوضع استمر حتى بعدما أصبح معروفاً أن العياشي حضر رسمياً حفل زفاف أحد حركيي (القاعدة) من الذين كانوا ضالعين في هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، إلى جانب ضلوعه في جريمة اغتيال القائد الأفغاني أحمد شاه مسعود، الذي كان يعارض أسامة بن لادن وعملياته في أفغانستان».
في البداية، كانت بلجيكا «حاضنة» للتيار الراديكالي أكثر مما كانت هدفاً له. وبرأي المحلل البريطاني جون ليشفيلد، فإن «الهجوم الذي حصل في مايو (أيار) 2014 على متحف يهودي في بروكسل، حيث قتل أربعة أشخاص، كان هجوماً معادياً للسامية، وليس عملية موجهة ضد بلجيكا بخلاف الهجمات اللاحقة التي حصلت في وقت لاحق». لكن، وفقاً لتقارير إعلامية، تبدو بلجيكا اليوم مركزاً للتطرف والعنف الإسلاميين. وثمة أسباب وعوامل تقف وراء تمركز النشاط الراديكالي، في هذه الدولة الأوروبية الصغيرة، من بينها وجود أقلية مسلمة فقيرة، وارتفاع نسبة البطالة بين الشباب وسط هذه الأقلية، وسهولة الحصول على الأسلحة، وتطوّر وسائل الاتصال والتنقل عبر البلد، بالإضافة إلى نقص الموارد البشرية في الأجهزة الأمنية، وقلة الاستقرار السياسي الداخلي. وترى صحيفة «الغارديان» البريطانية أن بلجيكا، مثلها مثل سائر الدول، شهدت انتشاراً واسعاً لآيديولوجية العنف عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهي إذا لم تكن تشجع مباشرة على ممارسة العنف، فإنها ساهمت على أي حال، في نشر مشاعر الكراهية والتعصب والنظرة المتشددة والمحافظة إلى الغير».
وتتابع السلطات البلجيكية، راهناً، بقلق تزايد أعداد المسلمين الذين يعيشون في «غيتوهات» (معازل) تتفشى فيها آفات الفقر والبطالة والجريمة وتجارة المخدرات. وللعلم، تبلغ نسبة البطالة في حي مولنبيك – على سبيل المثال – أكثر من 40 في المائة. وذكرت مجلة «فورين افيرز»، أن عدد المقاتلين الراديكاليين الآتين من بلجيكا يصل إلى 600، عاد منهم من مناطق القتال والتوتر أكثر من 120 مقاتلاً. وذكر مكتب التحقيقات الفيدرالي البلجيكي، أنه فتح خلال العام الماضي 313 ملفاً يتعلق بالإرهاب في مقابل 195 في العام الذي سبقه.
وفي تقرير لها حذّرت أجهزة الأمن البلجيكية أخيراً، من أن «التيار الأصولي المتشدد يُعدّ في مقدمة التيارات المتطرفة التي تشكل تهديداً للأمن في المرحلة المقبلة». ورصد التقرير «ارتفاع منسوب نشاطات التيارات الراديكالية القتالية التي تسعى لعزل المسلمين ومنعهم من الاندماج في المجتمع». وأشار إلى «أن هذه الجماعات لا تعترف بالنظام الديمقراطي والمؤسسات المنبثقة التي تدير الدولة والمجتمع».
حركة «الشريعة من أجل بلجيكا» تعد حقاً من أخطر الجماعات المتشددة في البلاد. وأسس هذا التنظيم في الثالث من مارس (آذار) عام 2010 على غرار نموذج تنظيم «الإسلام من أجل بريطانيا». وينتمي معظم مؤسسي التنظيم إلى الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين العرب والمسلمين الذي جرى تجنيدهم في السجون، ومن خلال حملات دعوية في الشوارع والحدائق العامة. وكما سبقت الإشارة، فإن فؤاد بلقاسم، الملقب بـ«أبو عمران»، يعتبر العنصر الرئيس والفعال في التنظيم. وبلقاسم من أصول مغربية، وهو معروف بسوابقه القضائية قبل أن يتحوّل إلى التطرف. ولقد اكتسب شهرة واسعة في أوساط الشباب المهاجرين من شمال أفريقيا في مدن كثيرة منها انتويرب (أنفرس) وفيلفورد وبروكسل.
من جهة ثانية، أسست الجماعات الراديكالية قواعد لها في بلجيكا بأشكال متعددة بعيداً عن أنظار أجهزة الأمن، ولاحظ تقرير للاستخبارات البلجيكية، أن «تنامي التيارات الراديكالية ارتبط بشكل خاص بأئمة المساجد والدعاة». وأوردت صحيفة «لالبري بلغيا»، نقلاً عن مصدر أمني موثوق «أن ثلاثين من المساجد الموجودة في بلجيكا تخضع لنفوذ الراديكاليين... وأن أكثر من 70 مسجداً في بروكسل و320 مسجداً في عموم البلاد لا تخضع لعمليات المراقبة أو التفتيش أو الفحص الأمنية». كذاك، ذكرت صحيفة «ليكو» البلجيكية، أن «التشدد الديني في أوروبا يعبّر عن آيديولوجية تستغل الثغرات في الديمقراطية الغربية، كما أنها آيديولوجية لها حلفاء بالأهداف نفسها من اليمين المتطرف والراديكالية القتالية التي لا ترى في التطرف الديني سوى أنه نتيجة للتهميش الاجتماعي».
هذا، وعلى الرغم من توقف سفر الشباب إلى مناطق الصراعات انطلاقاً من بلدية مولنبيك في بروكسل، التي اشتهرت في الإعلام الغربي عقب تفجيرات باريس وبروكسل بأنها بؤرة التطرف في أوروبا، فإن السلطات المحلية تلجأ إلى كل الوسائل، ومنها الأنشطة الثقافية والاجتماعية لمحو هذه الصورة. ومن جانب آخر، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» قالت سارة تورين، مسؤولة ملف التماسك الاجتماعي وقضايا الشباب في بلدية مولنبيك، «الوضع هادئ الآن، وتوقف سفر الشباب إلى سوريا وغيرها... لكن يجب أن نظل على حذر لأنه ما زالت هناك حالة غضب في أوساط الشباب بسبب المشكلات التي يعانون منها وتحتاج إلى حلول. علينا أن نعمل على مشروعات تعيد للشباب الثقة بأنفسهم وفي المجتمع».
جدير بالذكر، أنه يعيش في حي مولنبيك غالبية سكانية من جنسيات عربية وإسلامية، وبخاصة من المغرب وتركيا وجنسيات أفريقية. وكان الجيل الأول منهم قد هاجر إلى بلجيكا في أواخر خمسينات القرن الماضي عمالاً لإعادة إصلاح ما دمرته الحرب العالمية الثانية. ومن ثم، نشأت هناك أجيال متعاقبة من المهاجرين يحتل البعض منهم مناصب مرموقة في مجالات مختلفة.
ويعيش ما يقرب من مليون شخص منهم في أنحاء بلجيكا، وبخاصة في بروكسل العاصمة من بين ما يزيد على 11 مليوناً هم إجمالي سكان البلاد. وكان حي مولنبيك قد تعرض لسمعة عالمية سلبية بعدما وصفته تقارير إعلامية أوروبية بأنه صار «بؤرة للتطرف»، والسبب أن منه خرج عدد من الشبان الذين تورطوا في عمليات إرهابية ضربت مدناً أوروبية عدة، ومنها باريس وبروكسل وغيرهما،. وبين هؤلاء صلاح عبد السلام، الناجي الوحيد من منفذي تفجيرات العاصمة الفرنسية باريس في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، التي أودت بحياة أكثر من 130 شخصاً. ولقد أدين بملف له صلة بإطلاق الرصاص على عناصر الشرطة البلجيكية في مارس 2016، وبعدها بأيام قليلة وقعت تفجيرات بروكسل التي أودت بحياة 32 شخصاً وإصابة 300 آخرين، وشملت مطاراً ومحطة للقطارات الداخلية بالقرب من مقار مؤسسات الاتحاد الأوروبي في بروكسل.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.