مقهى الشابندر أهم شواهد بغداد التراثية العريقة ما زال يستقبل زواره

عمره أكثر من مائة عام

المثقفون العراقيون يجدون في مقهى الشابندر التراثي الذي يقع في شارع المتنبي وسط بغداد متنفسا لهم (أ.ف.ب)
المثقفون العراقيون يجدون في مقهى الشابندر التراثي الذي يقع في شارع المتنبي وسط بغداد متنفسا لهم (أ.ف.ب)
TT

مقهى الشابندر أهم شواهد بغداد التراثية العريقة ما زال يستقبل زواره

المثقفون العراقيون يجدون في مقهى الشابندر التراثي الذي يقع في شارع المتنبي وسط بغداد متنفسا لهم (أ.ف.ب)
المثقفون العراقيون يجدون في مقهى الشابندر التراثي الذي يقع في شارع المتنبي وسط بغداد متنفسا لهم (أ.ف.ب)

عمره أكثر من مائة عام، وهو من أشهر المقاهي البغدادية القديمة، بعضهم يصفه بأنه رئة بغداد الثقافية والسياسية وآخرون يعدونه مركزا تجاريا وثقافيا مهما، يجمع بين دفتيه كل شرائح المجتمع العراقي، علاوة على الزوار الأجانب من الأدباء والصحافيين الذين يجدونه المكان الأنسب لإجراء التقارير الصحافية ولقاء الناس والاقتراب من حياتهم اليومية، إنه مقهى «الشابندر» الذي يتوسط واحدا من أهم شوارع بغداد الثقافية؛ شارع المتنبي الشهير.
أُنشئ المقهى عام 1917 في بداية الاحتلال البريطاني لمدينة بغداد، ويعود إنشاء بنايته إلى نهاية القرن الـ19 الميلادي، وكان مخصصا سابقا لمطبعة الزوراء إبان الحكم العثماني المتأخر في العراق، يمتاز هذه المقهى بالطراز المعماري البغدادي الأصيل، وهو مشيد بالطابوق والجص، ونظرا لفخامة هذا البناء وانفراده من حيث التصميم والهندسة التي برع فيها المعمار العراقي، فإنه يعد من أهم المواقع الأثرية الشاخصة إلى يومنا هذا.
أما اسم هذا المقهى، فإنه اتخذ من اسم أصحابه من أسرة الشابندر العائلة البغدادية القديمة التي عرفت بالغنى والجاه، وأنجبت رجالا عرفوا في مجال التجارة والسياسة، وعميد هذا البيت هو الحاج محمد سعيد بن الحاج أحمد آغا الشابندر الذي كان والده رئيس التجار في بغداد، وعينا من أعيانها وكرمائها، وأخذ الاسم من هذه المهنة (رئيس التجار، أي شابندر التجار) وهو من سكان محلة (جديد حسن باشا) ويضم أرشيفا على جدرانه يحتوي على صور خليل باشا والي بغداد، والملك فيصل الأول، وكثير من الوزراء في العهد الملكي، إلى جانب أهل الفن، ومنهم الراحلة أم كلثوم وغيرها.
نال المقهى شهرة واسعة في بغداد وخارجها؛ ففيه يلتقي الناس وأصحاب الكفاءات العقلية، ويتبادلون وجهات النظر في أمورهم الخاصة والعامة، ويعقد فيها التجار والإشراف والأغنياء صفقاتهم التجارية الأولية ويتبادل الآخرون الأحاديث ومختلف النوادر والحكايات والأشعار والأفكار والآراء وقراءة الصحف المحلية كل يوم.
يقول الحاج محمد كاظم الخشالي صاحب المقهى: «يعد هذا المقهى من أقدم مقاهي بغداد، وموقعه الجغرافي المجاور لمقرات الحكومة العراقية، وعند تشكيل الحكومة العراقية وتنصيب الملك فيصل الأول، تشكلت الوزارات، فكان رواد المقهى من كبار موظفي الحكومة كونه مقابلا لمقراتهم، إضافة إلى مختاري بغداد والمراجعين لمقرات الحكومة.
وأضاف: «اعتزازي بتراث بلدي واحترامي للأدباء والفنانين، ابتعدت عن العقلية التجارية، وليكون مقهى الشابندر مكانا ورمزا للأدباء والمفكرين والفنانين، ورغم الإغراءات التي قدمت لي، فإنني رفضت كل شيء من أجل هذا المكان الذي بفضله ارتبطت بصداقات كبيرة بالوسط الثقافي والأدبي والفني».
وأكد الخشالي: «نتيجة جهودي ومتابعاتي واستغاثتي منذ التسعينات من القرن الماضي، حصلت على قرار اعتبار المقهى من المرافق السياحية والتراثية، ولولا هذا القرار لما حافظت على بقاء المقهى ولكان تحول إلى محلات تجارية، كما أني ومنذ امتلاكي للمقهى عام 1963 منعت جميع مظاهر الألعاب المعتادة في المقاهي كالدومينو والنرد، كي يكون منتدى أدبيا وثقافيا، وليأخذ الأدباء والشعراء متسعا للنقاشات، كذلك الطلبة في الكليات يستطيعون القراءة».
وعن أمسيات رمضان، يقول الخشالي: «شهد المقهى في السابق أمسيات رمضانية وقراءة المقام العراقي، لكن في الوقت الحاضر اقتصر حضور زواره في شهر رمضان على أيام الجمع والعطل».
الجدير بالذكر أن المقهى سبق أن تعرض إلى حادث تفجير إرهابي في مارس (آذار) 2005 نجم عنه تدمير شارع الثقافة بالكامل، وسقوط الكثير من الشهداء والجرحى كان من بينهم أربعة من أولاد الخشالي وحفيده، لذلك أطلق عليه صاحبه اسم «مقهى الشهداء» إضافة لاسمه المعروف للناس، بعد أن جرى إعماره بطريقة حافظت على جوهره التراثي.
وعن علاقته بالمقهى، يقول الإعلامي والشاعر حميد قاسم: «المقهى يعد منتدى ثقافيا وأدبيا له أثر بالغ في مد جسور التواصل مع جميع روادها وخاصة يوم الجمعة عند توافد الأدباء والمثقفين والفنانين إلى شارع المتنبي. ونحن الأدباء لنا علاقة وثيقة مع مقهى الشابندر، كونه هادئا ونستطيع التحاور ونتبادل الأفكار والآراء وما هو جديد على الساحة الفنية»، مبينا أن يوم الجمعة من الأيام المميزة في شارع المتنبي، لا سيما فيما يميز الأمسيات الثقافية والندوات التي يقيمها بيت المدى المجاور للمقهى.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».