الترجمة... معنى أم تقنية؟

كتاب يتناول جانباً شبه مغيب في ثقافتنا

الترجمة... معنى أم تقنية؟
TT

الترجمة... معنى أم تقنية؟

الترجمة... معنى أم تقنية؟

يمكن إدراج كتاب «من تقنيات الكتابة والترجمة»، دار المدى، 220 صفحة، للشاعر المترجم العراقي صلاح نيازي، فيما يمكن أن يُسمّى «دراسات نقد الترجمة»، وهي أمر مطلوب وحاجتنا إليه ملحة بلا شك، وهو ما يوشك أن يكون شبه غائب أو مغيب في ثقافتنا. لكن الكتاب بدا لي على شيء من التشتت وعدم الترتيب، والافتقار إلى قدر أكبر من التركيز والتدقيق، والعناية بأن يظهر بشكل أكثر تكاملاً واكتمالاً، بدءاً من وحدة موضوعاته، مروراً بتحري الدقة في تحريره، وصولاً إلى شكله الطباعي وصورته النهائية.
يبدأ المؤلف بمقدمة يتحدث فيها بشكل عام وموجز عن تجربته مع الترجمة، ودخوله إليها «من الباب الخلفي»، كما يقول، فقد كان يثق بما يقرؤه من ترجمات حين كان أحادي اللغة، أما حين تسنّى له أن يتعلم الإنجليزية، ويقيم لفترة طويلة في بريطانيا، فقد تغير الأمر، إذ كشفت له دراسته لبعض الترجمات العربية عن احتوائها على «اجتهادات في الترجمة غير مستساغة، تبلغ درجة الأخطاء» التي لا يستقيم معها المعنى.
كانت الترجمة بالنسبة له بشكل من الأشكال وسيلة لمحاربة وتغيير الواقع إلى ما هو أفضل. من هنا، تأتت رغبته في ترجمة مكبث، التي «تنزف دماً.. دماً مغثياً حقيقياً، نراه ونحسه ونشمه في كل شيء»، في مسعى منه لعلاج أشرس الأدواء التي عانى منها العراق، وربما لا يزال، وهي «العنف والدم وأشعار الحماسة». فالمسرحية هذه «وصفة ناجعة للتقزز من الدم»، كما يصفها، ويلمح إلى أنها كانت أحد أسباب رفع عقوبة الإعدام في أوروبا.
وتحت عنوان «متى تجوز الإضافات في الترجمة؟»، ومن دون تمهيد كافٍ ومقدمة وافية، يقدم نيازي ملاحظات مفصلة حول ترجمة جبرا إبراهيم جبرا لمسرحية «مكبث»، ويذكر مآخذ وجيهة على تلك الترجمة، وإن كان يكنُّ كثيراً من الاحترام والتقدير الجليين لجبرا، كما يظهر ذلك في حديثه عنه.
وبالإضافة إلى مكبث، يتطرق المؤلف للحديث عن عملين رئيسين في ما يعرف بتراجيديات شكسبير الكبرى، وهما «هاملت» و«الملك لير»، ولا أدري لمَ لمْ يأت على ذكر الركن الرابع من هذه التراجيديات، وأعني بها «عطيل» بالطبع، ليكتمل عقدها. ولا يكتفي نيازي بنقد الترجمات السابقة المعروفة لمترجمين معروفين، مثل جبرا وعبد القادر القط، بل إنه يقدم أيضاً رؤى وتحليلات نقدية معمقة للتراجيديات الشكسبيرية، مع تركيزه على تقنيتي الحواس والمنظورية، كما يسميهما. هناك أيضاً مقالات أخرى تتناول موضوعات متفرقة ذات صلة بالترجمة، والكتابة بشكل عام، يعرض في إحداها لترجمة عبد الرحمن بدوي لقصيدة الشاعر الألماني هيلدرلن «خبز وخمر»، ويقارن ترجمته بالترجمات الإنجليزية للقصيدة نفسها، لينتهي إلى أن بدوي انحرف كثيراً أو قليلاً عن الترجمة الدقيقة والوفاء للنص الأصلي، وذلك راجع إلى تكيف الذائقة الشعرية العربية مع الشعر الغنائي.
يضم الكتاب أيضاً دراسة من جزأين حول ترجمة طه محمود طه لرواية الكاتب الآيرلندي جيمس جويس، يوليسيس، قدم فيها الكاتب نقداً على درجة كبيرة من الموضوعية، كشف عن أخطاء ومزالق يُستغرب وقوعها من قبل متخصص ودارس متعمق ليس في الأدب الإنجليزي بشكل عام، بل في أدب جيمس جويس نفسه، وهو ما يؤكد مرة أخرى على أنه «لا كبير في الترجمة»، وأن الحاجة ستبقى قائمة لإعادة ترجمة الأعمال الأدبية المهمة على فترات زمنية قد تتقارب وقد تتباعد، على حسب الحاجة، كما يحدث لدى الغرب في تقليد شبه راسخ.
وفي مقالة مهمة بعنوان «الترجمة: معنى أم تقنية؟»، وبعد ذلك في حوار مهم حول تجربة نيازي الطويلة في الترجمة أجراه عدنان حسين أحمد، يعقد نيازي مقارنة بين نوعين أو مدرستين من الترجمة: في الأولى يكون اهتمام المترجم منصباً على إيصال المعنى، وفي ذهنه سؤال «ماذا قال المؤلف؟»، أما في الأخرى فيكون اهتمامه متوجهاً لتقنية وأسلوب الكتابة الذي يتميز به كاتب عن آخر، والسؤال في هذه الحالة هو «كيف عبّر المؤلف عن فكرته؟». وما يرجحه نيازي ويميل إليه وينشغل به، كما يبدو، هو السؤال الثاني، وإن كانت هذه المسألة تحتمل كثيراً من الجدل حولها، حيث إن كيفية تعبير الكاتب عن فكرته، ويعني بها نيازي هنا أسلوب الكاتب، أمر لا ينفك في أغلب الأحوال عن طبيعة وخصائص وسمات اللغة التي يكتب بها، وهو ما لا يمكن المحافظة عليه في النص المترجم دائماً.
- كاتب سعودي


مقالات ذات صلة

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق المعرض يتضمّن برنامجاً ثقافياً متنوعاً يهدف إلى تشجيع القراءة والإبداع (واس)

انطلاق «معرض جازان للكتاب» فبراير المقبل

يسعى «معرض جازان للكتاب» خلال الفترة بين 11 و17 فبراير 2025 إلى إبراز الإرث الثقافي الغني للمنطقة.

«الشرق الأوسط» (جيزان)

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لأحد أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذه العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف عن سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى إن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفاعلية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني ويستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقية تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسمح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

من جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين بأن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق بوصفها مكاناً لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».