مهرجان دبي السينمائي الذي انتهت دورته العاشرة أمس هو أكثر من مهرجان واحد. هناك الكيان الأساسي وهو المهرجان كمحفل لعرض الأعمال السينمائية المصوّرة من حول العالم، تحت إدارة عبد الحميد جمعة رئيسا ومسعود أمر الله آل علي مديرا فنيا، وهناك الكيانات المكمّـلة من ورش عمل وصندوق دعم ومؤتمرات ولقاءات… كذلك هناك سوق دبي السينمائية التي يرأسها شاب مقدام وذكي اسمه سامر المرزوقي.
أسواق المهرجانات السينمائية هي خارطة طبيعية رحبة لتأكيد حضور المهرجانات على الساحة الصناعية والتجارية. والعادة جرت أن يتم إطلاق الأسواق السينمائية المجاورة لأعمال المهرجان وتظاهراتها الرسمية في الدول التي لديها سوق يستطيع المنتجون والسينمائيون الاعتماد عليها. لكن أن تُـقام السوق في بلد عربي فإن التحدي هو ضعف الصعوبة الكامنة في عملية إنجاح هذا التوجّـه.
ذلك لم يخف سامر المرزوقي ولا إدارة مهرجان دبي السينمائي بل زادهما اقتناعا بأن هذا التوجّـه هو طلب أساسي يتوزّع في اتجاهات ودروب عدّة: يضع دبي مجددا على ساحة النشاطات التجارية في عالم السينما، يساعد المنتجين والموزعين المحليين على ترويج أعمالهم ويدفع بالسينما العربية كلّـها للتعامل مع العالم المحيط من موقع عربي حاضر ومجهّـز بكل ما يحتاجه السينمائي غير العربي من فرص تواصل مع صانعي الأفلام وأصحاب المشاريع.
المهم هو أن لا يضيع أحد وقته حين يأتي لزيارة هذا المهرجان وأن يؤم الباب الذي يريد. وهناك أبواب عدّة السوق واحدة من أكبرها حجما وأهمية.
* أسواق مغلقة
* يتمنّـى المرء لو أن الأفلام المعروضة في المسابقة أو في جواراتها كانت في الوقت ذاته قادرة على أن تدخل عرين التوزيع. في بعض المهرجانات الكبيرة الأخرى، مثل صندانس وبرلين وفينيسيا يحتل المشترون والموزّعون مقاعدهم جنبا إلى جنب الجمهور من النقاد والضيوف ويعاينون ما يرونه على شاشة المسابقة الرئيسية، الذي عادة ما لا يكون مطروحا في السوق.
هذا ما يفتقر إليه دبي وسواه من المهرجانات العربية. ليس لأن المهرجان لا يدعو الزائرين جميعا لمشاهدة الأفلام المنتقاة رسميا، بل لأن المشترين والموزّعين يتحلّـقون حول ما تعرضه السوق لهم أساسا. لذلك معظم الأفلام المعروضة في المسابقة أو في تظاهرات المهرجان الرسمية هي هنا أملا في لفت الانتباه نقديا و- إذا ما أمكن - الخروج بجوائز تساعد الإنتاج على سد ثغراته أو تمكنه من استعادة بعض تكاليفه. لكن الأمل في أن تتمكّـن جل الأفلام العربية من أن تجد موزّعين يشترونها لأسواق أخرى معدوم.
ليس هذا تقصيرا من هذا المهرجان أو من سواه. لا يوجد كم كبير من المشاهدين العرب في الدول الآسيوية كما الحال مع السينما الهندية مثلا، والسوق الأميركية سوق شاسعة غير سهلة الوصول عمليا إلى صالاتها في المدن الكبيرة وتقف تكلفة القيام بذلك عائقا أمام كل المنتجين العرب. إلى هذا، فإن الدول الأوروبية تعرض عندها بعض ما تسهم في إنتاجه، لكن المساحة محدودة غالبا لا يخترقها سوى الفيلم الذي سبق له وأن عرف نوعا من التداول الثقافي المسبق بناء على اسم مخرجه أو تجربة ذلك المخرج السابقة.
المؤسف أن الأسواق العربية موصدة الأبواب والمفاتيح ضائعة. ولا علاقة للمتغيّرات والتبدّلات والثورات والحروب العربية القائمة بهذا المصير، بل هذه الأبواب أوصدت منذ فترة بعيدة فلم تعرف الأفلام العربية حسنات التداول، فلا الفيلم الجزائري أو التونسي يعرض في بيروت أو القاهرة، ولا يسافر الفيلم الخليجي إلى المغرب أو المغربي إلى صالات الخليج ولا الفيلم اللبناني أو العراقي قادر على التمتّـع بعروض جماهيرية في أي من البلدان المذكورة. بعض التجارب المحدودة (لبنانية أساسا) نفذت بنفسها وتم عرضها في الصالات التجارية في الإمارات وقطر خلال السنوات الخمس الأخيرة، لكن الاستثنائي لم يتحول إلى قاعدة. وليس هناك اهتمام بين معظم الدول العربية لتبادل ثقافي ما يتيح للأفلام التي تعرضها المهرجانات، على الأقل، العرض في الصالات المتخصصة.
هناك الكثير مما يمكن القيام به في هذا المجال ولا يستدعي أكثر من تفعيل خطّـة عملية ستردم بعض تلك الفجوات القائمة وستساعد المنتج الإماراتي على استعادة تمويله من عروض تجارية ربما ليس في المرّات الأولى، بل عبر التكرار وتنظيم المناسبات وتداولها.
ويبدو أن واحدا من الأفلام العربية الحديثة التي تسعى للتغلّـب على هذه المشكلة، هو «هز القصبة» Rock the Kasbah الذي هو من إنتاج مغربي لكنه يقصد أن يجمع في أركانه وجوها عربية متعددة من المصري عمر الشريف إلى الفلسطينية هيام عبّاس وإلى اللبنانية نادين لبكي (وباللهجة المغربية). بصرف النظر عن تقييمه النقدي ينجز إطارا واسعا يستحق المتابعة.
* هوية خليجية
* تجربة صناعة الفيلم العربي في دول الخليج ليست كباقي التجارب المذكورة. والفترة الراهنة اليوم تتطلّـب تحليلها على نحو صحيح بغاية معرفة أين هي اليوم؟ وهل لها مستقبل؟ ثم إذا ما كان لها ذلك المستقبل فكيف يمكن الوصول إليه؟
لقد حان الوقت، بداية، للفصل بين النوايا والرغبات والواقع الفعلي. إن عددا من المخرجين والكتّـاب والمخرجين يشكّـلون سينما أو لا يشكّـلون. فلب الموضوع هنا ليس عدديا، رغم أن الصناعة تتطلب الكثافة البشرية أساسا، بل كامن في أن الجمهور الذي من الممكن للسينما الخليجية أن تتوجه إليه لكي تستطيع أن تزاول مهام وتؤمن شروط الصناعة السينمائية ليس جمهور المهرجانات العربية بأسرها (وفي مقدّمتها الخليجية) بل جمهور صالات المول خارج أزمنة المهرجانات. هنا، لا يجب أن يغيب عن البال وجود أسباب جوهرية لهذا الوضع من بينها أن هذا الجمهور هو الذي يعلن الطلب وحين يعلن فإن الجهات الإنتاجية تستجيب لأنها ترى أن هناك مصلحة مادّية واضحة. لا يكترث الموزّع وصاحب الصالة إذا ما كان الفيلم آتيا من منطقة الخليج وحائزا على جائزة هذا المهرجان أو ذاك. ما يكترث له هو إذا ما كان الجمهور يكترث لدرجة أنه سيقبل على الصالة لمشاهدته أسبوعا وراء آخر.
هناك هوية واحدة تجمع بين دول الخليج العربي تستطيع السينما الخليجية الاعتماد عليها، وهي هوية تمتد عرضا وطولا في قاعدة الحياة الخليجية نفسها فهي موجودة وفاعلة في الجوانب التراثية والاجتماعية والثقافية المتقاربة لدرجة التداخل بين شعوب هذه المنطقة. هذا التداخل يجعل من إمكانية تحقيق تجانس بين مواهب كويتية وإماراتية وعُـمانية وسعودية وسواها، أعلى احتمالا وأكثر قدرة على النجاح فيما لو كان الإنتاج في شتى حقوله قائما بين شركات خليجية وأخرى من دول شمال أفريقيا. من دون أن يعني ذلك عدم توفير الدعم للمواهب العربية الأخرى، كما هو قائم اليوم، فإن بذل الجهد في توحيد مصير الفيلم الخليجي عبر نشره في الأسواق الخليجية (وهي خطوة قام بها بنجاح لافت نوّاف الجناحي ولو تحمّـلت عبء المحاولة الأولى) هو أمر حتمي لاستمرارية السينما الخليجية لا كدعم إنتاجي لمشاريع تتناول قضايا ومواضيع ليست خليجية، بل كصناعة محلية ذات هويّـة مؤكّـدة ومشروطة بالتجانس الإقليمي الواحد السائد في مجالات عمل أخرى.
مهرجان دبي السينمائي5: الأسواق العربية موصدة الأبواب والمفاتيح ضائعة
مهرجان دبي السينمائي5: الأسواق العربية موصدة الأبواب والمفاتيح ضائعة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة