لا شيء يثير الرّعب في نفوس الإيطاليين مثل لفظ «ندراغيتا»؛ الاسم الذي يُطلق على أخطر مافيا في أوروبا وأشدّها عنفاً وشراسة. ولا يتقدّم أي اهتمام عند الأجهزة الأمنية في إيطاليا على التصدّي لهذا التنظيم الإجرامي واحتواء تمدّده في النسيج الاجتماعي والسياسي، وتحكّمه في مفاصل حيوية من الاقتصاد الثالث في أوروبا.
«الشرق الأوسط» قصدت مسقط رأس هذا التنظيم عند أطراف محافظة كالابريا الواقعة في أقصى الجنوب الإيطالي على مرمى حجر من جزيرة صقلية، مهد المافيا العريقة التي ظهرت أواخر القرن التاسع عشر على أنها حركة اجتماعية تدافع عن الفقراء في وجه استغلال العائلات الإقطاعية.
في نهاية طريق جبلي متعرّج تطلّ قرية سان لوقا على كتف الجبل الذي تنتهي عند سفحه مفاعيل القوانين التي تحكم إيطاليا، وينبض قلب المنظمة الإجرامية التي يقتضي الدخولُ إلى دائرتها الضيّقة اغتيالَ أحد الأفراد المقرّبين من العائلة. لا يتجاوز عدد أفراد القرية 4 آلاف نسمة، يأتمرون بمشيئة أسرتين تديران منذ عقود كل أنواع الأنشطة الإجرامية في إيطاليا وأوروبا.
سان لوقا أشبه بجزيرة صغيرة منسيّة على المرتفعات، تعيش بعيدة عن هواجس إيطاليا وهمومها. هنا، لا حديث عن السياسة الإيطالية وأزمة الحكومة وسالفيني والمهاجرين الذين يتدفقون في مراكب الموت على السواحل القريبة. القرية ليست مكاناً لعبور المسافرين، بل هي تنتهي عند «دير العذراء» الذي كان يجتمع فيه قادة المنظمة مطلع شهر سبتمبر (أيلول) لتقاسم الغنائم وتوزيع الأدوار وحسم الخلافات المستجدة، وحيث احتجزت في ثمانينات القرن الماضي 147 رهينة لمقايضتهم بفدية مالية استخدمتها لتأسيس واحدة من كبرى الشبكات العالمية لتجارة المخدرات.
الغرباء ليسوا موضع حفاوة ولا ترحيب في هذه القرية التي لم تُجرَ فيها انتخابات بلدية منذ عام 2008، ويشرف على إدارتها مندوب حكومي يأتيها مرة في الأسبوع بحماية عسكرية. آخر رئيس للبلدية حُكم عليه بالسجن 5 سنوات لتواطئه مع المافيا، ومنذ ذلك التاريخ لا يجرؤ أحد على الترشّح للانتخابات البلدية. ويقول مندوب الحكومة إنّ أحد رجال الأعمال اقترح مؤخرا إنشاء مركز سياحي ترفيهي في القرية حول موضوع المافيا لتنشيط الحركة الاقتصادية فيها... «إنّها علامة دولية يجب أن نستغلّها». لكنّ سكان القرية يستهجنون هذا الاقتراح، على الرّغم من أنّ معظمهم عاطل عن العمل منذ سنوات ولا يجدون فرصاً في المؤسسات العامة بسبب قضائهم عقوبات في السجن لارتكابهم أعمالا إجرامية.
مشكلة خضوع المجالس البلدية لنفوذ المافيا ليست مقصورة على سان لوقا، بل هناك عشرات القرى والمدن الصغيرة والمتوسطة التي قرّرت الدول حلّ مجالسها وإعادة الانتخابات فيها أو تعيين مندوبين للإشراف على إدارتها بعد أن ثبتت سيطرة المنظمات الإجرامية عليها. وتقول روسي بيندي، وهي سياسية مخضرمة ترأس اللجنة البرلمانية لمكافحة المافيا: «تعيين مندوب حكومي للإشراف على إدارة البلديات الخاضعة لنفوذ المافيا ليس سوى حلٍّ مؤقت.. لا بدّ من برنامج طويل الأمد يركزّ على التأهيل وإعادة بناء النسيج الاجتماعي وتعزيز سيادة القانون والأجهزة القضائية». لكنّ سان لوقا قرية لا تشبه أي قرية أخرى في إيطاليا، فقد أصدر زعماء المافيا فيها قراراً منذ 12 سنة بتصفية الكاتب المعروف روبرتو سافيانو لأنه وضع كتابا موّثقاً عن نشاط منظمة «ندراغيتا»، لاقى رواجاً واسعاً، ولا يزال سافيانو إلى اليوم، يعيش تحت حراسة دائمة يؤمنها له 5 من رجال الشرطة يرافقونه كظلّه.
قرية سان لوقا... حيث تنتهي مفاعيل القوانين التي تحكم إيطاليا
مسقط رأس «ندراغيتا» ومهد المافيا التي ظهرت أواخر القرن التاسع عشر
قرية سان لوقا... حيث تنتهي مفاعيل القوانين التي تحكم إيطاليا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة