قرية سان لوقا... حيث تنتهي مفاعيل القوانين التي تحكم إيطاليا

مسقط رأس «ندراغيتا» ومهد المافيا التي ظهرت أواخر القرن التاسع عشر

قرية سان لوقا لا يتجاوز عدد أفرادها أربعة آلاف نسمة
قرية سان لوقا لا يتجاوز عدد أفرادها أربعة آلاف نسمة
TT

قرية سان لوقا... حيث تنتهي مفاعيل القوانين التي تحكم إيطاليا

قرية سان لوقا لا يتجاوز عدد أفرادها أربعة آلاف نسمة
قرية سان لوقا لا يتجاوز عدد أفرادها أربعة آلاف نسمة

لا شيء يثير الرّعب في نفوس الإيطاليين مثل لفظ «ندراغيتا»؛ الاسم الذي يُطلق على أخطر مافيا في أوروبا وأشدّها عنفاً وشراسة. ولا يتقدّم أي اهتمام عند الأجهزة الأمنية في إيطاليا على التصدّي لهذا التنظيم الإجرامي واحتواء تمدّده في النسيج الاجتماعي والسياسي، وتحكّمه في مفاصل حيوية من الاقتصاد الثالث في أوروبا.
«الشرق الأوسط» قصدت مسقط رأس هذا التنظيم عند أطراف محافظة كالابريا الواقعة في أقصى الجنوب الإيطالي على مرمى حجر من جزيرة صقلية، مهد المافيا العريقة التي ظهرت أواخر القرن التاسع عشر على أنها حركة اجتماعية تدافع عن الفقراء في وجه استغلال العائلات الإقطاعية.
في نهاية طريق جبلي متعرّج تطلّ قرية سان لوقا على كتف الجبل الذي تنتهي عند سفحه مفاعيل القوانين التي تحكم إيطاليا، وينبض قلب المنظمة الإجرامية التي يقتضي الدخولُ إلى دائرتها الضيّقة اغتيالَ أحد الأفراد المقرّبين من العائلة. لا يتجاوز عدد أفراد القرية 4 آلاف نسمة، يأتمرون بمشيئة أسرتين تديران منذ عقود كل أنواع الأنشطة الإجرامية في إيطاليا وأوروبا.
سان لوقا أشبه بجزيرة صغيرة منسيّة على المرتفعات، تعيش بعيدة عن هواجس إيطاليا وهمومها. هنا، لا حديث عن السياسة الإيطالية وأزمة الحكومة وسالفيني والمهاجرين الذين يتدفقون في مراكب الموت على السواحل القريبة. القرية ليست مكاناً لعبور المسافرين، بل هي تنتهي عند «دير العذراء» الذي كان يجتمع فيه قادة المنظمة مطلع شهر سبتمبر (أيلول) لتقاسم الغنائم وتوزيع الأدوار وحسم الخلافات المستجدة، وحيث احتجزت في ثمانينات القرن الماضي 147 رهينة لمقايضتهم بفدية مالية استخدمتها لتأسيس واحدة من كبرى الشبكات العالمية لتجارة المخدرات.
الغرباء ليسوا موضع حفاوة ولا ترحيب في هذه القرية التي لم تُجرَ فيها انتخابات بلدية منذ عام 2008، ويشرف على إدارتها مندوب حكومي يأتيها مرة في الأسبوع بحماية عسكرية. آخر رئيس للبلدية حُكم عليه بالسجن 5 سنوات لتواطئه مع المافيا، ومنذ ذلك التاريخ لا يجرؤ أحد على الترشّح للانتخابات البلدية. ويقول مندوب الحكومة إنّ أحد رجال الأعمال اقترح مؤخرا إنشاء مركز سياحي ترفيهي في القرية حول موضوع المافيا لتنشيط الحركة الاقتصادية فيها... «إنّها علامة دولية يجب أن نستغلّها». لكنّ سكان القرية يستهجنون هذا الاقتراح، على الرّغم من أنّ معظمهم عاطل عن العمل منذ سنوات ولا يجدون فرصاً في المؤسسات العامة بسبب قضائهم عقوبات في السجن لارتكابهم أعمالا إجرامية.
مشكلة خضوع المجالس البلدية لنفوذ المافيا ليست مقصورة على سان لوقا، بل هناك عشرات القرى والمدن الصغيرة والمتوسطة التي قرّرت الدول حلّ مجالسها وإعادة الانتخابات فيها أو تعيين مندوبين للإشراف على إدارتها بعد أن ثبتت سيطرة المنظمات الإجرامية عليها. وتقول روسي بيندي، وهي سياسية مخضرمة ترأس اللجنة البرلمانية لمكافحة المافيا: «تعيين مندوب حكومي للإشراف على إدارة البلديات الخاضعة لنفوذ المافيا ليس سوى حلٍّ مؤقت.. لا بدّ من برنامج طويل الأمد يركزّ على التأهيل وإعادة بناء النسيج الاجتماعي وتعزيز سيادة القانون والأجهزة القضائية». لكنّ سان لوقا قرية لا تشبه أي قرية أخرى في إيطاليا، فقد أصدر زعماء المافيا فيها قراراً منذ 12 سنة بتصفية الكاتب المعروف روبرتو سافيانو لأنه وضع كتابا موّثقاً عن نشاط منظمة «ندراغيتا»، لاقى رواجاً واسعاً، ولا يزال سافيانو إلى اليوم، يعيش تحت حراسة دائمة يؤمنها له 5 من رجال الشرطة يرافقونه كظلّه.


مقالات ذات صلة

السياحة المغربية تشهد نمواً قوياً... 15.9 مليون سائح في 11 شهراً

الاقتصاد سياح صينيون يزورون مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء (رويترز)

السياحة المغربية تشهد نمواً قوياً... 15.9 مليون سائح في 11 شهراً

أعلنت وزارة السياحة المغربية، الاثنين، أن عدد السياح الذين زاروا المغرب منذ بداية العام وحتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) بلغ 15.9 مليون سائح.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
سفر وسياحة من بين الأدوات التي استخدمها المجرمون في قتل ضحاياهم (متحف الجريمة)

«متحف الجريمة» في لندن... لأصحاب القلوب القوية

من براميل الأسيد التي استخدمها القاتل جون جورج هاي لتذويب ضحاياه والتي تعرف باسم Acid Bath «مغطس الأسيد» إلى الملابس الداخلية لـ«روز ويست».

عادل عبد الرحمن (لندن)
يوميات الشرق آلاف الحقائب التي خسرتها شركات الطيران في متجر الأمتعة بألاباما (سي إن إن)

المسافرون الأميركيون يفقدون ملايين الحقائب كل عام

داخل المساحة التي تبلغ 50 ألف قدم مربع، وإلى مدى لا ترى العين نهايته، تمتد صفوف من الملابس والأحذية والكتب والإلكترونيات، وغيرها من الأشياء المستخرجة من…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سفر وسياحة «ساحة تيفولي» في كوبنهاغن (الشرق الأوسط)

دليلك إلى أجمل أضواء وزينة أعياد الميلاد ورأس السنة حول العالم

زينة أعياد الميلاد ورأس السنة لها سحرها. يعشقها الصغار والكبار، ينتظرونها كل سنة بفارغ الصبر. البعض يسافر من بلد إلى آخر، فقط من أجل رؤية زينة العيد.

جوسلين إيليا (لندن)

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».