بينما ارتأى كثير من صناع الترف توخي الحيطة إلى أن تمر موجة الأزمة الاقتصادية بسلام، وذلك بالعودة إلى أيقونات حققت النجاح سابقا ويتبركون بها، فإن دار «كارتييه» ظلت دائما جريئة ومتفائلة بأن الموجة ليست عاتية بالحجم الذي يدفعها إلى التخلي عن الإبداع.
بيير رينيرو، مدير الصورة والأسلوب والتراث في «كارتييه»، عايش عدة أزمات ويعرف أنها لا تدوم طويلا، كما يعرف كل صغيرة وكبيرة عن الدار؛ فقد عمل فيها لنحو 34 عاما تقريبا. عندما يتكلم عن إرثها وتاريخها تشعر كأنه قاموس غني بالمعلومات التي تأخذك من الماضي إلى الحاضر... من قصور الملوك والمهراجات وبلاطات القياصرة إلى نجوم هوليوود. ونظرا للدور الذي يلعبه في الدار، فإن بعض الناس يروق لهم أن يلقبوه بـ«حارس دار كارتييه»، لكن يبدو من لقائنا معه أنه لقب لا يلقى كثيرا من الترحيب من قبله:
- القول إني حارس للدار يعني أني أريد أن أُبقي عليها كما هي، بينما العكس صحيح. نعم أقدر تاريخها وغُصت في أرشيفها لأغرف منه معلومات قيمة ربما نسيها البعض وأريد أن أذكرهم بها، لكن هدفي الأول والأخير هو الحفاظ على ديناميكيتها وروحها التواقة إلى الاختراع والابتكار، وهذا يعني الإبقاء على عجلة الإبداع دائمة الحركة، وإلى الأمام. فمهما كان حجم تقديرنا للتاريخ، فإن احترامه يجب ألا يصل إلى حد التقديس الذي يحد من تطويره.
- لحسن الحظ أن الناس أصبحوا يريدون منتجات مترفة تتضمن قصة مثيرة لها جذور وتاريخ، وهذا ما يجدونه في بيوت الأزياء والجواهر العريقة عموما ونحن منهم.
كثيرا ما أسمع شكاوى عن سطحية الجيل الصاعد، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي وعالم الديجيتال على المجتمع ككل، لكني لا أرى الأمر سلبيا، بل العكس، يمكن أن يكون في صالحنا. قد تتساءلين كيف ذلك؟ والجواب أنه كلما شعر الناس بأن العالم أصبح سطحيا والمنتجات جاهزة ومتاحة بسهولة، بحثوا عن مضاد لها. وهذا يعني منتجات مصنوعة بحرفية وذات تاريخ ومصداقية تزيد قيمتها والطلب عليها. ما ألاحظه كلما تكلمت مع الجيل الجديد أنهم أبعد ما يكونون عن السطحية ويُقدرون الجودة وكل ما له تاريخ، لأنهم هم أيضا يريدون نسج قصص خاصة بهم... فرواية القصص لا تدخل ضمن مهامي، لهذا أتركها للزبائن. مهمتي هي كيف ننفذ هذه الجواهر ونصوغها، وكيف نتوصل إلى الأحجار وما شابه من أمور، وكيف نحافظ على إرثنا من دون أن نتوقف عنده.
- نعيش حاليا فترة مهمة في عالم الجواهر... يمكنني القول إنها نهضة ذهبية جديدة. في السابق كانت الجواهر الرفيعة من نصيب قلة قليلة من الناس، وظلت الحال على ذلك إلى الحرب العالمية الثانية، لأن الناس كانوا يتجنبون استعراض ثرواتهم خوفا من ردود الفعل العدوانية؛ إن صح القول. أكبر دليل على هذا ما تعرض له كريستيان ديور من استنكار عالمي عندما أطلق ما أصبح يُعرف بـ«ذي نيو لوك» في عام 1947. تشكيلة استعمل فيها أمتارا طويلة من الأقمشة المترفة في وقت كان فيه الناس يرون أنه لا بد من بعض التقشف. إذا كان هذا عن الأزياء فما البال إذا كان عن الجواهر؟ للتمويه على هذا الأمر، كان مهماً أن نركز على الأحجار، فيما تم الإبقاء على التصاميم هادئة وبسيطة حتى لا تلفت الأنظار والاستنكار على حد سواء. وربما هذا ما يفسر تراجع التصميم لحساب الأحجار في تلك الفترة. في نهاية السبعينات ومنتصف الثمانينات بدأ التصميم يستعيد أهميته. الفضل يعود إلى المزادات العالمية التي ساعدت على اكتشاف جواهر قديمة بتصاميم في غاية الابتكار والأناقة وبتقنيات عالية جدا. فجأة بدأت شركات المزادات تتكلم عن جمال التصميم والأبعاد الفنية للجواهر، وهو ما كان مثيرا لجيل كامل لم يعش فترة الإبداع الفني.
- أنا لا أنكر أن أسعار بعض هذه الجواهر باهظة، لكنها تمنح المتعة وتُدخل السعادة حتى على من لا يستطيع اقتناءها. فهي مثل لوحة فنية جميلة تماما، ليس كل من سيراها سيشتريها، لكن هذا لا يمنع من الاستمتاع بفنيتها وتقدير كم الإبداع فيها. أنا أراه جزءا من إشراك الآخر في عملية الإبداع، من ناحية أنها جزء من الثقافة والفن.
- لا أعتقد أن التوجه الحالي لاستعمال الأحجار الضخمة، هدفه استثماري بالضرورة... على الأقل ليست هذه الفكرة بالنسبة لـ«كارتييه». برأيي أن سوق الأحجار الكريمة تغيرت وتطورت، كما ساعدت وسائل التنقل والمواصلات في الحصول عليها بسهولة أكبر. فعندما نسمع بتوفر حجر نادر في أي مكان من العالم، فإننا نتفاعل مع الخبر بسرعة. الطريف أننا على الرغم من أننا لا نستعمل الأحجار بدافع الاستثمار ونحرص في المقابل أن تحمل كل قطعة بصمات وروح «كارتييه»، نلاحظ أن قيمتها تزيد في أعين المقتنين. فما إن يُعرف في أي مزاد أن القطعة تحمل توقيعنا، وتتضمن أحجارا اخترناها، حتى ترتفع قيمتها مباشرة. وهذا يعود أولا وأخيرا إلى عامل الثقة؛ فالقطعة والأحجار نفسها من دون توقيع «كارتييه» لن تحصل على القيمة والسعر نفسه في هذه المزادات.
- هناك كثير من الأشياء التي نستلهم منها؛ على رأسها الأحجار... فعندما نحصل على أي حجر نادر أو متميز ترتسم صورة في أذهاننا بمجرد أن نلمسه ونرى لونه ومدى عُمقه. هناك أيضا بعض الثقافات الغنية، مثل الثقافتين الهندية والعربية، اللتين تربطنا بهما علاقة قديمة. خذي مثلا العلاقة مع منطقة الشرق الأوسط، فهي تعود إلى عام 1912، عندما أتى جاك كارتييه إليها برفقة بعض مساعديه بحثاً عن اللآلئ الثمينة التي تشتهر بها منطقة الخليج. منذ اللحظة الأولى التي وصل إليها شدّته بدفئها ورمالها وخلجانها، وهو ما يظهر بين الفينة والأخرى في تصاميمنا.
- الماضي والحاضر وجهان لعملة واحدة... لا يكتمل أحدهما من دون الآخر؛ بيد أني لا أعتقد أن الأرشيف مرجع بقدر ما هو قاموس تجب قراءته وفهمه. لهذا عندما ينضم أي مصمم جديد إلينا، فإننا نقدمه لهذا الأرشيف لكن لا نطلب منه التقيد به، لأن الفكرة لم تكن مطلقا استنساخ الماضي بقدر ما هي ابتكار تصاميم جديدة تحمل بصمات الدار.
فنجان قهوة مع بيير رينيرو... المشرف على إرث دار «كارتييه»
لا أرى الجيل الصاعد سطحياً... وعلاقتنا بمنطقة الشرق الأوسط تعود إلى عام 1912
فنجان قهوة مع بيير رينيرو... المشرف على إرث دار «كارتييه»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة