استمرار العواصف الثلجية في شرق البحر المتوسط

فلسطيني يحمل ابنته بعد أن داهم بيته الفيضان الناتج عن الأمطار الغزيرة في مدينة رفح أمس (رويترز)
فلسطيني يحمل ابنته بعد أن داهم بيته الفيضان الناتج عن الأمطار الغزيرة في مدينة رفح أمس (رويترز)
TT

استمرار العواصف الثلجية في شرق البحر المتوسط

فلسطيني يحمل ابنته بعد أن داهم بيته الفيضان الناتج عن الأمطار الغزيرة في مدينة رفح أمس (رويترز)
فلسطيني يحمل ابنته بعد أن داهم بيته الفيضان الناتج عن الأمطار الغزيرة في مدينة رفح أمس (رويترز)

أعلنت مديرية الدفاع المدني بالأردن، أن عناصرها تعاملت، منذ بدء المنخفض الجوي الذي يؤثر على البلاد، مع 321 حالة إنقاذ لمحاصرين في مركباتهم ومنازلهم، في مختلف محافظات المملكة، بسبب مداهمة مياه الأمطار والثلوج لهم.
وقالت المديرية في بيان لها أمس الخميس، إن عناصرها تعاملت كذلك مع 33 حالة ولادة جرت داخل سيارات الإسعاف في مناطق مختلفة، و107 حالات غسل كلى نقلتها إلى المستشفيات ثم أعادتها ثانية إلى منازلها، إضافة إلى 258 حالة شفط مياه، مشيرة إلى عدم وقوع حوادث سير.
وأثرت الأمطار الغزيرة والثلوج التي تتساقط على الأردن، منذ الليلة الماضية، على حالة الطرق، وبدرجات متفاوتة، حيث تسببت في إغلاق الكثير منها، بينما ظلت الكثير من المحاور الطرقية سالكة بحذر شديد، جراء تشكل الجليد عليها، فضلا عن الضباب الكثيف، وفق المركز الإعلامي الأمني في مديرية الأمن العام الأردنية.
وشهدت محافظة الكرك (جنوب) تساقط الثلوج التي أغلقت الطرق بسبب تراكمها ويجري فتحها أولا بأول، وكانت منطقة لواء المزار الجنوبي الأكثر تأثرا بالعاصفة الثلجية فقد بلغ تراكم الثلوج في بعض المناطق زهاء 40 سنتيمترا.
وفي محافظة الطفيلة اكتست المرتفعات الجبلية، حلة بيضاء، منذ ساعات فجر أمس، ووصل تراكم الثلوج إلى عشرين 20 سنتيمترا، خصوصا في مناطق القادسية وبصيرا والعيص وأبو بنا. وما زالت الثلوج والأمطار تتساقط على أرجاء المحافظة مصحوبة برياح شديدة السرعة، وضباب كثيف خاصة على طريق العين البيضاء باتجاه الرشادية والعيص. وأدت الثلوج المتراكمة إلى إغلاق الطرق المؤدية للواء بصيرا والقادسية والعيص باتجاه عمان، فيما تكونت حالة من التجمد على هذه الطرق بسبب تدني درجات الحرارة إلى ما دون الصفر المئوي والرياح شديدة السرعة.
وبين مدير دفاع مدني الطفيلة المقدم فواز السلامين، أن كوادر الدفاع المدني في الطفيلة وبمشاركة عدة طواقم من الأجهزة الرسمية قامت خلال 24 ساعة الماضية بإخلاء 78 مواطنا بينهم طلبة ومواطنون حاصرتهم الثلوج في مناطق نائية في بصيرا وتم إيصالهم إلى أماكن آمنة.
وأشار إلى أنه تم إسعاف اثنتي عشرة حالة مرضية إلى مستشفى الأمير زيد بن الحسين العسكري ونقل 18 حالة لغسل الكلى، وإسعاف ثلاث حالات ولادة بواسطة الآليات المجنزرة.
وتلافيا لسقوط بعض المنازل، خاصة في لواء الأغوار الشمالية، بادرت لجنة السلامة العامة والدفاع المدني إلى إخلائها اليوم.
كما شهدت عدة مناطق بالأردن انقطاعات في التيار الكهربائي منذ مساء أمس، جراء الأعطال الطارئة التي طالت شبكات التوزيع. وفي هذا السياق نقلت وكالة الأنباء الأردنية (بترا)، عن مسؤولين في قطاع الكهرباء قولهم إن «الحمل الأقصى للنظام الكهربائي في المملكة بلغ صباح اليوم (أمس) 2000 ميغاواط، مقابل قدرة توليدية تبلغ 3200 ميغاواط»، واصفين وضع التزويد لمحطات توليد الكهرباء بالمريح.
وقد استمرت العواصف الثلجية التي اجتاحت شرق البحر المتوسط أمس الخميس قبل ساعات من زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري للمنطقة. ومن المقرر أن يعود كيري للمنطقة لبحث أحدث التطورات في محادثات السلام لكن الطقس قد يعطل اجتماعاته المقررة مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
وشهدت بيت لحم احتفال الناس بالثلوج خارج كنيسة المهد بجوار شجرة عيد ميلاد كبيرة. وغطت الثلوج شوارع الخليل مما وفر ذخيرة كافية للأطفال ليصنعوا منها الكرات ويقذفوا بها بعضهم البعض.
وفي رام الله تجمع السكان في الشوارع المكسوة بالثلوج حول شجرة عيد ميلاد في وسط البلدة.
وأغلقت عدة مدارس أبوابها في القدس وأجزاء من الضفة الغربية.
واجتاح الطقس العاصف الأردن ولبنان وسوريا كذلك حيث انخفضت درجات الحرارة ويتوقع هطول المزيد من الثلوج. كما أغلقت المدارس في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة الخميس بسبب العواصف الثلجية وغطت الثلوج مدينة القدس التي قررت بلديتها الإسرائيلية إغلاق المدارس اليوم.
وفي القدس القديمة غطت الثلوج قبة الصخرة والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة والقبب القديمة وصعد الأولاد إلى أسطح منازلهم للعب بالثلوج.
كما أعلنت السلطة الفلسطينية تعطيل المدارس والدوائر الحكومية في الضفة الغربية باستثناء مؤسسات الطوارئ لنفس السبب. وقررت حركة حماس التي تسيطر على غزة تعطيل المدارس في القطاع.
وتساقطت الثلوج منذ ساعات الصباح الباكر أمس في القدس ورام الله وبيت لحم والخليل ونابلس التي غطتها طبقة ثلج من عدة سنتيمترات، بحسب ما أفاد خبراء الأحوال الجوية. وأفاد الدفاع المدني الفلسطيني بأن الطرق في الأراضي الفلسطينية سالكة لكنه أوضح أن «بعض البيوت غمرتها المياه في مخيم عايدة في مدينة بيت لحم ولحقت بها أضرار»، كما سقطت بعض الأشجار وتكسرت في بيت لحم.
وفي عمان قررت الحكومة الأردنية تعطيل الوزارات والدوائر الحكومية بسبب سوء الأحوال الجوية والتساقط الكثيف للأمطار والثلوج، على ما أفاد مصدر رسمي.
وذكرت وكالة الأنباء الأردنية الرسمية أن «رئيس الوزراء عبد الله النسور قرر تعطيل الوزارات والدوائر الحكومية الخميس بسبب سوء الأحوال الجوية».
كما قرر البنك المركزي تعطيل دوام المصارف في المملكة.
وكان النسور قرر الأربعاء تعطيل الجامعات والمدارس الحكومية والخاصة «نظرا للظروف الجوية التي تسود المملكة وحرصا على سلامة الطلبة ولتوفير الظروف والأجواء المناسبة للجهات المعنية للتعامل مع الحالة الجوية».
وتتوقع دائرة الأرصاد الجوية في الأردن استمرار التساقط الغزير للأمطار والثلوج الجمعة مع درجات حرارة حول الصفر المئوي.
وكان رئيس الحكومة الفلسطينية رامي الحمد لله قد قرر الخميس تعطيل العمل في جميع الوزارات والمؤسسات الحكومية العاملة في الأراضي الفلسطينية بسبب سوء الأحوال الجوية. ونقلت وكالة «معا» الإخبارية الفلسطينية المستقلة عن مصادر حكومية أن «الحكومة قررت التعطيل باستثناء وزارة الصحة والطوارئ وكافة الأقسام الأخرى التي تقدم مساعدات مباشرة للمواطنين في هذه الظروف الجوية السائدة».
وطبقا للمصادر، فإن الحمد لله دعا الفلسطينيين إلى الالتزام بالإرشادات واللوائح التي تصدر من الجهات المختصة حول كيفية التعامل مع الظروف الجوية الماطرة والعاصفة.
وقد امتدت العواصف التي اجتاحت شرق البحر المتوسط شبه جزيرة سيناء المصرية لـ48 ساعة متواصلة بطقس سيئ وأمطار غزيرة وموجة صقيع، يتردد أنها لم تشهدها منذ عشرات السنين.
وأكد المهندس عبد الله الحجاوي خبير شؤون البيئة ورئيس جمعية البيئة في سيناء، لوكالة الأنباء الألمانية «هذه الموجة الباردة لم تحدث منذ عشرات السنين، وهي ترجع إلى تغيرات في المناخ أثرت بالفعل على سيناء التي كانت تشتهر بأن طقسها دافئ ممطر شتاء».
وأضاف الحجاوي: «هذه الأيام تشهد برودة وغزارة في الأمطار المتواصلة وخاصة على ساحل سيناء الشمالي».
وأضاف أن «السيول دائما تأتي إذا كانت هناك أمطار غزيرة على جبال جنوب ووسط سيناء التي تتجمع من عدة أودية حتى تصب جميعا في وادي العريش الذي يصب بدوره في البحر المتوسط أمام شاطئ العريش». يذكر أن محافظتي شمال وجنوب سيناء أعلنتا حالة الطوارئ القصوى لمواجهة الطقس السيئ خشية حدوث سيول كبيرة.
وفي قبرص تسبب تساقط الثلوج الكثيف وانخفاض درجات الحرارة في عزل عشرات القرى وغلق المدارس وانقطاع الكهرباء عن آلاف المنازل في جزيرة قبرص الواقعة في شرق حوض البحر المتوسط أمس (الخميس).
وأفادت التقارير المحلية بأن الأضرار لحقت بعدة آلاف من المنازل يقع أغلبها في العاصمة نيقوسيا بعدما دمرت الثلوج والرياح العاتية كابلات الطاقة.
وتوقفت حركة المرور في الطرق المؤدية إلى أكثر من 37 قرية في منطقة ترودوس في جنوب غربي الجزيرة، مما أجبر المدارس على إغلاق أبوابها لليوم الثاني على التوالي. وأسقطت الرياح العاتية الأشجار في ميناء ليماسول الساحلي، وقضى المزارعون في مقاطعة فاماجوستا الليل يحاولون حماية محصولهم وحيواناتهم من البرد القارس والصقيع. وحث المسؤولون المواطنين في مختلف أنحاء الجزيرة على تجنب السفر.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)