منزل نجيب محفوظ.. بدل تحويله إلى متحف أصبح ورشة للنرجيلة

أكوام من أدوات صناعة النرجيلة بعد أن تحول المنزل إلى ورشة لصناعتها
أكوام من أدوات صناعة النرجيلة بعد أن تحول المنزل إلى ورشة لصناعتها
TT

منزل نجيب محفوظ.. بدل تحويله إلى متحف أصبح ورشة للنرجيلة

أكوام من أدوات صناعة النرجيلة بعد أن تحول المنزل إلى ورشة لصناعتها
أكوام من أدوات صناعة النرجيلة بعد أن تحول المنزل إلى ورشة لصناعتها

قبل خمسة وعشرين عاما وتحديدا في أغسطس (آب) 1988 حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل في الآداب، مسجلا سبقا تاريخيا للرواية العربية في مضمار أكبر جائزة عالمية تهفو إليها أفئدة الكتاب والشعراء كل عام من شتى أنحاء العالم.
وفي غمرة الأفراح بهذه الجائزة في ذلك الوقت، ارتفعت أصوات الكتاب والمثقفين مطالبة بإقامة متحف ومزار سياحي للأديب العالمي يضم مقتنياته ومفردات عالمه الشخصية، ويعتبر سجلا مفتوحا للزوار للتعرف على رحلة وحياة الأديب الكبير في دروب الكتابة والفن والحياة. وجرى اختيار المنزل الذي ولد فيه محفوظ وعاش فيه سنوات صباه الأولى وشكل مسرحا حميما للكثير من رواياته، بحي الجمالية الشعبي بمنطقة الحسين بالقاهرة، وتكونت لجنة من قبل وزارة الثقافة لتنفيذ المشروع والإشراف على كل خطواته، وتحدثت الصحف ووسائل الإعلام عن خطط وأفكار ورؤى حول هذا المشروع، كإحدى المحطات الأساسية في تكريم صاحب «الثلاثية»، و«أولاد حارتنا»، و«الحرافيش».
لكن شيئا من كل هذا لم يحدث، وكأن الأمر مجرد فورة حماس تبخرت بالتقادم، ليتحول المشروع النبيل إلى مجرد مرثية عقيمة فوق أرفف الذاكرة والنسيان.
وقبل مائة عام وعامين ولد صاحب نوبل في 11 ديسمبر (كانون الأول) عام 1911. «الشرق الأوسط» زارت منزله بحي الجمالية، ورصدت شواهد مرة ومخجلة في فصول هذه المرثية.
يتبدى الحي العتيق كواحدة من روايات محفوظ الشهيرة، ففي أزقته نشأ وترعرع، وتلمس الخيوط الأولى لموهبته في عالم الكتابة والفن. رائحة التاريخ تنبعث من المكان، محملة بغبار السنين.. جدران باهتة بشقوقها وطلائها لكنها شاهدة على تاريخ طويل، وأماكن أثرية تومض بعمق حضاري فريد، وأروقة كثيرة ضيقة تحمل في طياتها خبايا وأسرار التاريخ. وسط كل هذا يغمرك إحساس غريب بالشجن غير مفهوم، ومع ذلك يقودك في النهاية إلى «درب قرمز» أو «حارة قرمز» كما تسمى. على ناصية الحارة الضيقة جدا، بالتحديد بجانب قسم شرطة الجمالية كان العقار رقم 7 الكائن بالدرب وقد تساقطت جدرانه وخلا المكان إلا من شجرة عالية ربما امتد عمرها إلى عمر نجيب محفوظ ذاته.
في مقهى على ناصية الحارة التقيت سعيد عفيفي (80 عاما)، أقدم سكان الحي. كان يطالع إحدى الجرائد ويدور بنظره على المارة من أسفل نظارته السميكة، قبل أن يبدأ كلامه قائلا: «هنا نشأ وترعرع الأديب العالمي نجيب محفوظ، هنا تكونت شخصيته وتبلورت لتنتج للعالم واحدا من أهم الأدباء على المستوى العالمي. هنا كان يعيش محفوظ قبل أن يترك المكان ويتجه للسكن في حي العباسية وهو صبي يافع على عتبة إلـ11 عاما، ليتعاقب المستأجرون على المنزل واحدا تلو الآخر قبل أن تفشل جهود الدولة في تحويل المكان لمزار سياحي يتوافد عليه محبو الأديب من كل صوب».
ما إن تضع قدميك في «الجمالية» حتى يستدرجك المكان إلى حقب تاريخية.. هذه الشوارع شهدت خلفاء وملوك وأمراء من حقب زمنية مختلفة تعاقبت على حكم مصر وتركت بصماتها هنا في هذا المكان، ها هو الأزهر، وجامع الحاكم بأمر الله، والجامع الأقمر، وأسوار القاهرة، وبواباتها القديمة، والمدارس الأيوبية والمملوكية، وخان الخليلي، والصاغة (الحلي)، والنحاسين.. تشعر أن كلمة هنا القاهرة لا تعبر عن الواقع.. فهنا التاريخ يولد وهنا الحضارات تتواصل.
في هذا الدرب حيث تتعايش العصور جنبا إلى جنب، ولد نجيب محفوظ، لكن أحدا في مسقط رأس الأديب العالمي لا يكاد يذكر ذلك وربما حتى لا يكاد يعرفه.. فقد زحف الإهمال على المكان وتحول مدخل منزل الأديب الراحل إلى ورشة لتصنيع النرجيلة ومخازن غلال.
محمد يوسف (38 عاما)، يروي ما حدث منذ أن ترك الأديب المنزل للمستأجرين قائلا: «بعد أن تناوب المستأجرون على المنزل الذي تحول إلى دار لحضانة الأطفال، ثم اشتراه أحد المستأجرين قبل أن يبيعه مرة أخرى ويتحول إلى ورش ومخازن، وظل المنزل على هذا الحال حتى يومنا هذا.
يضيف يوسف بنبرة أسى: «كان وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني هو آخر من زار المكان قبل نحو 4 سنوات واقترح تحويله لمزار سياحي إلى أن ترك الوزارة ولم يتابع أحد من المسؤولين المشروع، بينما بدت الأجهزة الحكومية وكأنما الأمر لا يعنيها.
يذكر أن حي الجمالية كان له أثر كبير على الأديب العالمي، وكان مسرحا لكثير من رواياته، حيث برزت فيها ملامح الحي وعبقه التاريخي، وطبيعة أهله ومناخ الحارة المصرية الحميم. من هذه الأعمال ثلاثيته الروائية الشهيرة (بين القصرين - قصر الشوق -السكرية) وروايته «خان الخليلي» وغيرها مما تحول إلى أفلام تعد من روائع السينما المصرية والعربية.
الروائي المصري دكتور نبيل فاروق يعلق على هذا المشهد قائلا: «لا شك أن حي الجمالية كان له الأثر الأكبر في تكوين شخصية الأديب الراحل، فهو نفسه كان يشبه الحي من ناحية الانضباط والمباشرة والبساطة، كذلك كانت له عين فاحصة، صنعت منه عقلية تحليلية حللت واستوعبت النماذج البشرية، وتأثر كثيرا في كتاباته بالحي الذي نشأ وترعرع فيه. ولا أنسى وصف الأديب الراحل للحي الذي نشأ فيه عندما قال: «إنك تخرج منه لترجع إليه، كأن هناك خيوطا غير مرئية تشدك إليه، وحين تعود إليه تنسى نفسك فيه، فهذا الحي هو مصر، تفوح منه رائحة التاريخ لتملأ أنفك، وتظل أنت تستنشقها من دون ملل».
وناشد فاروق وزير الثقافة المصري، وجماعة المثقفين المصريين، بضرورة إحياء متحف نجيب محفوظ، والشروع فورا في تنفيذه على أرض الواقع ليكون منارة أدبية وسياحية لزوراه ولأجيال الأدباء على مر العصور.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».