أنتوني بورداين ينهي حياته في فرنسا

من أشهر مقدمي برامج الطهي في العالم

أنتوني بوردين الطاهي الأميركي الشهير أثناء تصوير حلقة من برنامجه في فرنسا (أ.ب)
أنتوني بوردين الطاهي الأميركي الشهير أثناء تصوير حلقة من برنامجه في فرنسا (أ.ب)
TT

أنتوني بورداين ينهي حياته في فرنسا

أنتوني بوردين الطاهي الأميركي الشهير أثناء تصوير حلقة من برنامجه في فرنسا (أ.ب)
أنتوني بوردين الطاهي الأميركي الشهير أثناء تصوير حلقة من برنامجه في فرنسا (أ.ب)

أفادت شبكة (سي إن إن) الإخبارية يوم أمس، بأنّ مقدم برامج الطهي الأميركي الشهير أنتوني بورداين (61 سنة)، انتحر في فرنسا. وجاء في بيان للشبكة التي تذيع برنامج السفر والأطعمة «بارتس أنون» الذي يقدمه بورداين: «نؤكّد بحزن بالغ وفاة صديقنا وزميلنا أنتوني بورداين». وأضافت أنّ «حبه للمغامرة والأصدقاء الجدد والأطعمة والمشروبات الجيدة ورواياته عن العالم جعلته قصاصا فريدا من نوعه، ولن تتوقف مواهبه عن إثارة إعجابنا، وسوف نفتقده للغاية». كما ذكرت أنّ الطباخ الفرنسي الشهير إيريك ريبير عثر على بورداين في غرفته الفندقية من دون حراك. موضحة أنّه كان يصوّر حلقة من برنامجه «أماكن غير معروفة» في مدينة ستراسبورغ الفرنسية.
واشتهر بوردين إلى جانب عمله التلفزيوني بتأليف كتب في الطهي، وكتب أخرى قصصية وغير قصصية تربّعت في أعلى قوائم أكثر الكتب مبيعا. وأضاف بيان الشبكة: «جعله حبه للمغامرات والأصدقاء الجدّد والطّعام والشّراب الجيدين وقصصه المميزة عن العالم قاصا فريدا من نوعه». وتابع أنّ مواهبه لم تتوقف عن إدهاش الجمهور الذي سيفتقده كثيراً، مقدّما التعازي لابنته وعائلته في هذا الوقت العصيب.
في عام 2000 كتب بوردين كتابه الأول عن الطّهي الذي حمله إلى عالم الشّهرة، محقّقاً أعلى نسبة مبيعات، وتحدّث فيه وبكل صراحة عن بعض تجاربه الخاصة في الحياة، ومنها إساءته في استخدام المخدرات وتعاطيها. ظهر بوردين على شاشة التلفاز في عام 2002، وذلك في أوّل برنامج له تحت عنوان «جولة طاهٍ في شبكات الطعام»، وبعد ثلاث سنوات أعدت قناة «ترافل» التلفزيونية برنامج «بلا حجز مع أنتوني بوردين» الذي توج بجائزتين من جوائز أيمي للبرامج التلفزيونية. لينتقل في عام 2013 للعمل مع شبكة (سي إن إن) في البرنامج الذي كان لا يزال يُعرض حتى آخر لحظة من حياته، عن الطهي والسفر حمل عنوان «أماكن غير معروفة».
نشأ بوردين في منطقة ليونيا في نيوجيرسي، أحد الأحياء الراقية في مدينة نيويورك. عمل والده في منصب مدير تنفيذي، وكانت والدته محررة في صحيفة «نيويورك تايمز». بدأ بوردين الكتابة بعد أن عرض عليه رفيقه في السكن الجامعي رحلة مجانية إلى كوزوميل في مكسيكو، ووعده بأن يكتب كتبا بعد عودته من السفر، وبالفعل فقد كتب بعد عودته من الرّحلة بستة أشهر روايته الأولى وعنوانها «عظم في الحنجرة»، فيما كان يعمل طاهيا بمدينة نيويورك، وذلك في عام 1993.
تزوج بوردين مرتين، الأولى كانت في عام 1985، وذلك من زميلته نانسي بوتكوسكي التي كانت تشاركه مقاعد الدراسة في الثانوية، وقد استمرّ زواجهما نحو 20 سنة. وبعد مرور عامين تزوّج أوتافيا بوسيا وأنجبا ابنة، وتطلقا بعدها في عام 2016، وقد ألقى حينها باللائمة على سفره المستمر. وفي العام الماضي ارتبط بوردين بعلاقة عاطفية مع الممثلة الإيطالية آسيا أرجينتو. بات مدافعا عن حركة «مي تو» التي تعنى بحقوق النساء بعد أن اتهمت أرجينتو المنتج الهوليوودي السابق هارفي واينستين باغتصابها.
وجاء موت بوردين بعد أيام من انتحار شخصية شهيرة أخرى هي مصممة الأزياء والحقائب النسائية الشهيرة كيت سبيد التي توفيت منتحرة عن عمر تجاوز 55 سنة في نيويورك.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)