من التاريخ: روسو.. ومفهومه للحريات

اتصالا بسلسلة المقالات السابقة حول «الفكرة» و«المفكرين» الذين كان لأفكارهم أثر كبير في الأحداث والتطورات التاريخية، فإن جملة جان جاك روسو: «الإنسان ولد حرا، ولكنه يظل مكبلا بالأغلال في كل مكان» لا تزال ترن في أذني منذ أن قرأتها وأنا ابن السابعة عشرة، ولقد تذكرتها منذ أسابيع قليلة وأنا أتحدث مع أحد الشخصيات السياسية الفرنسية وهو يقول لي إن جان جاك روسو هو كاتبه المفضل مما دفعه لقراءة كتابه «العقد الاجتماعي» و«الاعترافات» أكثر من 20 مرة، وإنه يمثل بالنسبة له رمزا للحرية كما يجب لها أن تكون.
وعندئذ أدركت لماذا اختلف مع صديقي الفرنسي في مناسبات كثيرة، وبالطبع لم أبخل عليه برأيي الشخصي والمتحفظ على روسو بعد رحلة تأمل دامت منذ السابعة عشرة وحتى سنوات قليلة مضت، ولكنه لم يرحب كثيرا بهذا الرأي، خاصة عندما صارحته مباشرة بأن نظريات روسو جميلة وثورية، ولكنها تفتقد تماما أي منظومة إدارية أو سياسية يمكن أن تستند إليها الدولة في إدارة مجتمعاتها، وهو ما يكون في كثير من الأحيان نقمة أكثر منه نعمة على الشعوب، فضلا عن أنه لم يوفر الإجابات عن العديد من الاستفسارات الطبيعية التي لحقت بعمله، خاصة لأنه يمثل أحد الشخصيات المهمة في تاريخ الفكر السياسي، فهو الرجل الذي يسند له إشعال الفتيل الفكري وبدرجة أقل السياسي للثورة الفرنسية عام 1789، وفي أحشاء هذه الأفكار سموم استخدمت لتبرير الكوارث وحمامات الدم والفشل السياسي في فرنسا عقب اندلاع ثورة.
واقع الأمر أن روسو يعد من أهم رواد حركة ما بعد التنوير في أوروبا، وقد تأثر فكره كثيرا بحقيقة كونه من مدينة جنيف التي كان لها طابعها السياسي المميز لاعتناقها مذهب المسيحية الكالفينية (نوع من الحركات المنشقة على الكنيسة الكاثوليكية) الذي جعل منها دويلة مصغرة للغاية تسمح لتجمعاتها المحدودة بأن يمارس مواطنوها ما يسمى «الديمقراطية المباشرة» على غرار ما كان يحدث في اليونان القديمة. ومن هذا المنطق بدأ روسو يضع فكره على أسس المجتمعات الصغيرة، وليس الدولة الشاملة الوطنية التي لم يكن لها مكانها في فكره، وقد ازداد إيمانه العميق بهذا الفكر عندما ترك الجامعة دون استكمال دراسته، وتجول في أوروبا إلى أن استوطن باريس وبدأ يبلور فيها نظريته السياسية، التي بناها على أساس مهم للغاية، وهو أن الفرد وطبيعته ليس سيئا كما ادعى البعض خاصة الفيلسوف توماس هوبز، ومن ثم له حقه الطبيعي في أن يكون حرا، ولكن مفهوم الحرية عند روسو اختلف عن المفاهيم التقليدية، فلقد رأى أن حرية الملكية الفردية والغرائز حتى وإن كانت منظمة بالقوانين، إلا أنها ليست الحرية الحقيقية، لأن هذا المفهوم مرتبط بالمجتمع، فمن خلاله فقط يمكن للإنسان أن يصل إلى الحرية التي يبتغيها، فهذه هي أسمى أنواع الحرية التي يجب أن يسعى إليها الفرد، أما باقي الحريات فتقع تحت طائلة المجتمع الذي ينظمها وفق ما يشاء، وهنا تكمن إحدى المشكلات الأساسية لروسو، لأنه لم يضع بشكل عملي شرحا لسبل التطبيق أو الوصول لهذه الحريات المختلفة للأفراد، وإنما قصرها على الحرية الفردية في إطار المجتمع، كما أنه لم يقدم تعريفا للسبب الذي يجعل الفرد يقبل بتفوق مثل هذه الحرية على الحريات التقليدية له.
وفي إطار مفهوم المجتمع الصالح، رأى روسو أن الإنسان في الأساس لا يفسد من تلقاء نفسه، ولكن المجتمع هو الذي يتحول لأداة لإفساد أعضائه، فمسؤولية المجتمع واضحة في هذا الصدد، فعندما ولد الإنسان حرا سلبه المجتمع حريته بفساده، بالتالي، فإن عملية إصلاح المجتمع هي الأساس الذي يجب التركيز عليه، لأن المجتمع هو الأساس، فضلا عن كونه أداة تنظيم السمو والرقي البشري، فهو تجسيد للأخلاق ومصدر للقيم من خلال ديمقراطيته المباشرة. ومن هذا المنطلق رأى ضرورة أن يكون المجتمع قادرا على إدارة نفسه بشكل يكون أقرب إلى الأداة الجماعية لأفراده ليخلق لهم الهدف الجمعي سواء الثقافي أو اللغوي.. إلخ. وقد كان من الطبيعي أن يلجأ روسو للتستر خلف المجتمعات الصغيرة لتطبيق نظرياته، لأن التطبيق الكلي لها يعد أمرا محفوفا بالمخاطر؛ ومن ثم اقتناعه الكامل بأن جزيرة مثل كورسيكا في المتوسط هي أفضل أنواع المجتمعات حجما لتطبيق نظريته.
ولعل أهم المفاهيم التي طرحها هذا المفكر الفرنسي مفهوم «الإرادة العامة» Volonte Generale، فمن خلال هذا المفهوم استطاع الرجل أن يقدم ويبشر بأفكاره السياسية، فبشكل عام، يمثل هذا المفهوم ما يمكن أن نطلق عليه الإرادة الجمعية للمجتمع لكي يستطيع أن ينهض بواجباته التنظيمية سياسيا واجتماعيا وثقافيا.. إلخ. فهو الذي يجعل المجتمع يستطيع أن يقدم الخير للمجموعة، لأنه هيكل عضوي قادر على تحريك المسائل داخل الجمع السياسي للأفراد، «فالإرادة العامة» هي الروح التي تحرك الجماعة والفرد على حد سواء. وهنا يجب عدم الخلط بين هذا المفهوم، والحكومة؛ فالحكومة أداة المجتمع، ولكن هذه «الإرادة» هي التي تسمو فوق الحكومة وتؤتيها الشرعية، فمن خلالها يستطيع الفرد أن يكون عضوا في الجماعة.
وهنا وصل روسو بتمجيده لهذه الإرادة إلى الحد الذي جعلها محصنة من خلال منحها حقوقا تظل خطيرة للغاية، فلقد رأى أن المجتمع من خلال هذه الإرادة يكون له الحق «في أن يجبر الفرد على التحرر» لأن المجتمع وآليته هذه تمثل المصلحة العامة التي تفوق المصلحة الفردية، ولو عرف الفرد قيمة المصلحة الجماعية للمجتمع، فإنه حتما سيدرك أنها تسمو على فرديته ومصلحته.
لقد كان من الطبيعي أن يلي هذه النظرية رفض روسو الكامل مفهوم المَلَكية أو دور الكنيسة الكاثوليكية، فهما بالنسبة له يمثلان مؤسستين تتميزان بالتشويش على المجتمع لأنهما أدوات معطلة للإرادة الجمعية للمجتمعات، فالملك يعتقد أن سيادته حق مطلق، سواء لأسباب تتعلق بمفهوم الحق الإلهي في الحكم الذي كان سائدا في أوروبا، أو للاعتقاد بأنه خارج مفهوم العقد الاجتماعي الموقع بين أفراد الشعب الواحد لإسناد حكمهم إلى سلطة مركزية ممثلة فيه. أما الكنيسة، فكانت تمثل بالنسبة له أداة إفساد في حد ذاتها، فضلا عن دورها في محاولة عزل أفراد المجتمع بعضهم عن بعض من خلال محاولة ربطهم بقوة روحية وغير مجتمعية، وهو ما يعكس بطبيعة الحال العلاقة المتوترة بينه وبين الديانات بصفة عامة.
فالتقدير أن روسو يمثل حالة غير متواترة لشخص اعتنق أساس النظام الديني الحاكم ممثلا في المجتمعات الكالفينية في جنيف دون جوهر العقيدة.
حقيقة الأمر أن المسافة بَعُدت بيني وبين أفكار هذا الفيلسوف الذي قرأته كثيرا، فنظرته في تقديري تعد رومانسية وغير قابلة للتطبيق بالنسبة لكثير من المجتمعات. حقيقة الأمر أن نظريات روسو أخذت أبعادا مختلفة على مر الأزمنة، فإليه يتجه الليبراليون الثوريون الذين يريدون تغيير مجتمعاتهم إلى الأفضل معتنقين فكرة الإرادة الجمعية، وفي سبيل تنفيذ ذلك، فهم على استعداد للتضحية بكثير من الأمور. ولكننا يجب ألا ننسى أن فكر روسو أُخذ أيضا من قبل كثير من الثوريين أساسا لفكرهم الشمولي، فرأوا في أنفسهم تجسيدا لنظرية الإرادة الجمعية وفرضوا على شعوبهم تحركا شموليا وفكرا متجمدا تحت حجة التطوير.
ولكن هؤلاء ليسوا وحدهم من اعتنقوا فكر روسو، فمعهم أيضا كثير من الفاشيين الذين رأوا في أنفسهم تعبيرا عن الإرادة الجمعية لشعوبهم في مطلع القرن العشرين فدفعوا ببلادهم للحروب والتطهير العرقي والثقافي، وهو ما يجب أن يجعلنا حذرين دائما من خطورة من يرون في أنفسهم تجسيدا لإرادة شعبهم دون سند، فلقد رأى ماكسيميليان روبسبيير، أشهر الثوار الفرنسيين، في نفسه تجسيدا لإرادة الشعب بقوله الشهير: «إرادتنا هي الإرادة الجمعية»، فكانت النتيجة إزهاق ما يقرب من 30 ألف روح تحت المقصلة خلال أشهر، إلى أن دفع الرجل حياته ثمنا لهذا.. ولكن الأثمان التي تدفعها الشعوب عادة ما تكون أكثر من ذلك بكثير.