مواجهة بين وفد صحافي سوداني وبريطانيا

الأيام الأخيرة للحكم الثنائي في السودان كانت أياماً مليئة بالمفاجآت والتطورات غير المحسوبة، وذلك بسبب التغيير الجذري الذي حدث في الساحة السياسية المصرية، جراء الانقلاب العسكري الذي قاده الضباط الأحرار في مصر، فأطاحوا بالنظام الملكي في 1952.
المفاجأة بالنسبة للسودان كانت هي تخلي نظام الضباط الأحرار في مصر عن شعار «وحدة وادي النيل»، وقبولهم مبدأ ممارسة السودانيين لحقهم في تقرير مصيرهم.
نتيجة لهذه التطورات، جرت المحادثات الإنجليزية - المصرية حول مستقبل السودان، واستطاع الوفد المصري أن يفرض على المفاوض البريطاني ضرورة الإسراع بتحرير السودان،
أزعج البريطانيين كثيراً أن مصر اقتحمت معاقلهم في جنوب السودان، وحققت علاقة مباشرة مع زعماء القبائل، وحصلوا منهم على تأييد مكتوب يدعم الموقف المصري.
وفتحت صحافة الخرطوم ملف جنوب السودان، واتهمت الإداريين البريطانيين بالعمل على فصل الجنوب. فاستدعى كبير المسؤولين البريطانيين في الخرطوم، السير جيمز روبرتسن، السكرتير الإداري لحكومة السودان، الأستاذ الراحل أحمد يوسف هاشم، رئيس اتحاد الصحافة السودانية، واتسمت المقابلة بالمواجهة الحادة، وتبادل الاتهامات، وانتهت بإعلان السكرتير الإداري استعداده لتوفير طائرة خاصة تنقل وفداً صحافياً يمثل الصحافة السودانية إلى جوبا، ومن ثم يطوف الوفد كل أنحاء الجنوب للمرة الأولى، ليسمع الصحافيون بأنفسهم من المواطنين الجنوبيين رأيهم في الشمال والشماليين. وقبل أحمد يوسف هاشم التحدي.
طلب مني الأستاذ أحمد، بوصفي سكرتيراً لاتحاد الصحافة السوداني، أن أدعو اللجنة التنفيذية لاجتماع عاجل، لتشكيل الوفد الصحافي، فقمت بذلك. وقبل أن ينفض اجتماعنا، اتصل بنا الراحل السيد محمد صالح الشنقيطي، رئيس الجمعية التشريعية التي كانت قد حُلّت، لكنه ظل هو في موقعه ريثما يتحدد شكل الجهاز التشريعي المقبل.
اتصل بنا ليقول إنه يرى في ما أقدم عليه السكرتير الإداري محاولة لـ«نصب شرك للصحافة»، لأن الإداريين البريطانيين في الجنوب سيختارون للقاء الصحافيين عناصر شرسة ومستفزة، يكيلون الاتهام للشمال، فإذا رد الصحافيون اتهمتهم الإدارة البريطانية بالتخلي عن المهنية الصحافية، وبأنهم تحولوا إلى سياسيين، وإذا سكتوا ونقلوا الاتهامات كما هي روجوا لما يردده البريطانيون. واقترح علينا حلاً لهذا الإشكال أن يصحبنا هو في هذه الرحلة، كسياسي، وأن يتولى هو الحوار مع الجنوبيين،
وعند هبوطنا مدينة جوبا، وانخراطنا في أول لقاء، تحققت نبوءة الراحل الشنقيطي، إذ كان الجو متوتراً، والهجوم كاسحاً، من مجموعة انتقاها مدير المديرية انتقاء من وثق في قدرتهم على توجيه الاتهامات بلا هوادة، وتصدى لهم السيد الشنقيطي بكفاءة، وبادلهم حجة بحجة، وسجل انتصاراً واضحاً عليهم. وفي اليوم الثاني، بدأ طوافنا لغرب الاستوائية، وتكرر المشهد في مدينة ياي، لكنه وصل ذروته في مدينة يامبيو، حيث تساقطت عليها الحجارة أثناء جلسة الحوار، ثم لاحقتنا الحجارة عندما تحركت عرباتنا، وتعرضنا لخطر ماثل. عند ذلك، قررنا أن نحيط الاتحاد في الخرطوم علماً بما حدث، وأن نقطع الرحلة، وأن نوجه اتهاماً مباشراً لمفتش يامبيو البريطاني.
أرسلت باسمي برقية لاتحاد الصحافة، تتهم مفتش المركز بتحريض جماعة على الاعتداء علينا، وأضربت الصحف في الخرطوم يوماً، وأعلنت قطع الرحلة وتحميل الحكومة المسؤولية. أما الحكومة، فأصدرت بياناً تنفي فيه التهمة، وفتحت بلاغاً ضدي وضد اتحاد الصحافة، تحت المادة 105 (إثارة الكراهية ضد الحكومة)، وإشانة سمعة مفتش يامبيو، وحققت الشرطة معي توطئة للمحاكمة، ولكن مصر سجلت انتصارها الثاني على الإدارة البريطانية، عندما توصلت في الخرطوم إلى اتفاقية العاشر من يناير (كانون الثاني) 1953، التي أيدت فيها أحزاب السودان الكبرى «الوطني الاتحادي، والأمة، والجمهوري الاشتراكي» الموقف التفاوضي المصري، وخصوصاً بالنسبة للجنوب.
وبذلك خسرت بريطانيا الجولة، ووقعت اتفاقية الحكم الذاتي في فبراير (شباط) 1953، حسب الصيغة التي اقترحتها مصر، وكان أول قرارات الإدارة البريطانية في الخرطوم سحب قضيتها ضدي وضد اتحاد الصحافة.