بيرنار ـ هنري ليفي يحذر من عودة «الممالك الخمس» إن لم يستيقظ الغرب

كتابه الأخير إعادة تعليب لنظريّة «صراع الحضارات»

بيرنار ليفي
بيرنار ليفي
TT

بيرنار ـ هنري ليفي يحذر من عودة «الممالك الخمس» إن لم يستيقظ الغرب

بيرنار ليفي
بيرنار ليفي

تلاشت معظم هالات الفيلسوف الفرنسي بيرنار - هنري ليفي (ولد 1948)، التي سوق لها الإعلام الغربي بداية العقد الثاني من هذا القرن كمنظّر لثورات الربيع العربي و«منظر آيديولوجي» لفرنسا خلال الحملة العسكريّة على نظام العقيد القذافي في ليبيا، ولاحقاً ك»مجدد للديانة اليهوديّة»، وباعث لها كديانة عالميّة. كل هذه العباءات الأكبر حجماً من حقيقة الرّجل لم تعد تنطلي على أحد تقريباً بعد أن كشف الأكاديميون عن تهافت أفكاره، وتجنبه السياسيون بعد افتضاح كذبه، وهاجمه الطلاّب في غير ما جامعة بالفطائر البائتة والبيض الفاسد. ومع ذلك فإنه يبدو في أحدث كتبه «الإمبراطوريّة والملوك الخمسة Empire and five kings» – صدر عن دار غراسيه Grasset الفرنسيّة الشهر الماضي - كمن يريد أن يلتحف عباءة جديدة وهذه المرّة من بوابة التنظير الاستراتيجي الشامل للسياسية العالميّة.
«الإمبراطوريّة» نصّ لا يدّعي العلميّة بل ويبدو من بدايته أشبه بخواطر ذاتيّة وانفعالات شخصيّة حول ما سمع به الفيلسوف من أنباء وما عايشه من خبرات في جبهات الربيع العربي لا سيّما بين رفاقه الأقرب إلى قلبه هذه الأيام - أكراد شمال العراق -، فينطلق من لحظة محددة بالأمس القريب عندما أعلن الأكراد نيتهم إجراء استفتاء على الاستقلال في دولتهم الخاصة لتتوحد ضدّهم السلطات العراقيّة والتركيّة والإيرانيّة بينما ذهبت نداءات استغاثة مصطفى البارازاني للحلفاء في واشنطن ولندن وباريس أدراج الريّاح. هذه اللحظة عند ليفي تكثيف لحال العالم اليوم - على حد اعتقاده - : انكفاء أميركي مريب بدأ في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، استمر بعد تولي الرئيس الحالي دونالد ترمب، توازيه سياسات أوروبيّة مرتبكة نتيجة السّقوط في مربّع الفاشيات الجديدة الصاعدة والحروب الداخليّة بسبب اللاجئين المسلمين، يوازيها صعود لممالك خمس مستمدة من التاريخ القديم: روسيّا، والصّين وتركيّا - وارثة الإمبراطوريّة العثمانيّة -، وإيران - وارثة الإمبراطوريّة الفارسيّة، و«السعوديّة وارثة الدولة العربيّة الإسلاميّة»، كما يقول. ما رآه ليفي رأي العين خلال مغامراته الفلسفيّة في جبال كردستان العراق دفعه للاعتقاد بأن هذه الممالك القديمة التي غيّبها الانتصار الغربي الساحق في القرنين الماضيين ما زالت تمتلك أسرار البقاء ومقومات النهوض كإمبراطوريات متحفّزة لتملأ الفضاءات التي تتراجع عنها ظلال الغرب، وأنها بالفعل لم تعد تخفي نياتها تلك، بل وهي تتحدى سلطانه في كل مناسبة ممكنة من عفرين إلى أوكرانيا ومن سوريّا إلى ليبيا بل وفي كل متجر أميركي أو أوروبي، من خلال المنتجات الصينيّة تحديداً.
ليفي - السقيم أبداً بداءِ المركزيّة الغربيّة - يرى في صعود هذه الممالك خطراً داهماً على العالم أجمع، إذ إنها دون استثناء معادية حكماً للقيم الديمقراطيّة وحقوق الإنسان، وأنها غير قادرة على التعايش معاً بسلام بل ستكون دوماً في صراعات وحروب نفوذ لا تنتهي بدأت ربما في الشرق الأوسط لكنها لن تتوقف عنده بأي حال. وهو قلق على مستقبل إسرائيل - التي يعتبر أن شبح الفاشية العنصرية لم يمر بها كما مر بغالب مجتمعات الغرب - بوصفها «ديمقراطيّة الشرق الأوسط الوحيدة في مواجهة الفوضى التي ينتجها صراع الممالك الخمس»، كما يدعي. ويعبّر ليفي في الوقت ذاته عن خيبة أمله من ضياع فرصة إنشاء واحة ديمقراطيّة جديدة للأكراد الذين هم وحدهم - على حد قوله - يمثلون إمكان تحقق الإسلام المعتدل على الأرض.
لكن ليفي لا يترك قارئ «الإمبراطوريّة» للقنوط في مواجهة هذا النظام العالمي الجديد المظلم الذي يراه، إذ هو يؤكّد أن الوقت لم ينفد بعد من جعبة الإمبراطوريّة (الغربيّة)، وأن رسالتها الحضاريّة في حفظ السلام العالمي وحتى رغبتها حماية مستقبلها يجب أن تحفزّها لاستعادة التوازن وأخذ زمام المبادرة على نحو يعيد الممالك الخمس إلى جادة الصواب، وإن لم تفعل أدركها الفناء أو على الأقل ستكون محكومة بالتعايش مع خمس إمبراطوريّات صاعدة متنافسة. وهو يزيد من جرعة الأمل الحذر هذا بتأكيده للقراء على أن الديمقراطيّات الكبرى في العالم - الهند والبرازيل - ستنضم حتماً لجهود الإمبراطوريّة (الغربيّة) في استيعاب الممالك الخمس.
وللتأكيد على نظريته يضرب ليفي بتركيا مثلاً. فهذه الأمّة المتعطشة لاستعادة أمجاد العثمانيين وجدت في شخص الرئيس رجب إردوغان فرصتها التاريخيّة، ولذا تجرأ الأتراك على التدخل في سوريّا والعراق، وعلى مطاردة الأكراد وخنق إداراتهم المحليّة بل وإسقاطها عسكريّاً. لكن ذلك لم يكن ليحدث مطلقاً لو ألقى الأوروبيون والأميركيون بثقلهم وخاطبوا إردوغان بما يستحق من خلال حلف الناتو الذي تعرف السلطات التركيّة تماماً قدرته على فرض هيبته إن عزم على ذلك.
بالطبع يغرف ليفي غرفاً - دون أن يشير إلى ذلك - من نظريّة «صدام الحضارات» التي ابتدعها أولاً برنارد لويس ونشرها على نطاق واسع صموئيل هنتنغتون وتلامذتهما، لكنه يتلاعب على الكلمات معيداً تغليف الأسماء بإشارات توراتيّة (الإمبراطوريّة والملوك) دون مساس كبير بالمضمون الأساس لمفهوم التناقض الحضاري الحتمي وخطوط الانقسام التي لا تندثر كما ضرورة أن يتولى الغرب «تدجين الشرق في مهمة نبيلة من أجل سلام العالم».
وينتهي ليفي من حيث بدأ بقصته عن الأكراد، ليجعلهم الاختبار على صدق نيات الغرب إن هو عاد بالفعل عن انكفائه، ومارس قدره (المحتم) في حكم العالم، إذ عندها فقط يمكن للدّيمقراطيّات الصغيرة كإسرائيل (وكردستان) أن تبقى وتزدهر وتكبر.
لا يصعب انتقاد «الإمبراطوريّة والملوك الخمسة» وإظهار الأخطاء المنهجيّة والمغالطات الفكريّة الكثيرة التي يحفل بها. فأقلها تلك الخرافة التي لا تقف على قدمين عن انكفاء الغرب وانشغاله بمصاعبه الداخليّة. الولايات المتحدة في عهد ترمب مثلاً لا تبدو وكأنّها بوادر الاختفاء في زاوية العالم القصيّة حيث تجدها مشتبكة عبر جبهات يوميّة مفتوحة على وسع الأرض - عسكريّاً واستخباراتيّاً - أو في فضاء الإعلام على الأقل: في كوريّا الشماليّة، وإيران، وسوريّا، وأفغانستان وأوكرانيا، وفنزويلا، والأرض المحتلة - إضافة إلى تنفيذ قرار الكونغرس بنقل سفارتها إلى القدس المحتلة بعد عقود تمهّل من الإدارات المتعاقبة - فضلاً عن مساندتها الاستثنائيّة للندن ووارسو وكل من يريد تحدي موسكو في القارة الأوروبيّة، وانخراطها في تحالفات معمقة مع دول الخليج العربي وكثير من دول أميركا اللاتينيّة. كما أن مقاربة الممالك الخمس بوصفهم ممالك متناحرة لا أساس له من الواقع وتبسيط مخل لمسائل شديدة التعقيد، إذ إن تحالفات ثنائيّة أو ثلاثيّة تنشأ بين هذي الممالك الموصوفة بحكم تقاطع المصالح المرحليّة وتقلّبات الأحداث، ولن تكون بالضرورة دائماً في دائرة الصّراع. كما أن الاستعانة بالتاريخ وحده لاستشراف المستقبل دون النظر في الوقائع الماديّة والتكنولوجيّة والثقافيّة والاقتصاديّة سذاجة لا تقبل ممن يتصدى للتبوء بسلوكيات النظام العالمي برمّته. أما مسألة واحات الديمقراطيّة المزعومة في صحراء الشرق الأوسط فتلك مغالطة لا تستدعى إعمال الفكر كثيراً وتشير إلى انحياز أعمى من الفيلسوف المعروف بدفاعه الحار عن إسرائيل عبر كل المراحل، لكن منحه الأكراد شهادة الإسلام المعتدل وهو الذي لا يحسن العربيّة ولا يعرف عنه فهم الإسلام - بل واصطدم بمفكرين يهود بشأن فهمه لليهوديّة ذاتها - تبدو شحطة زائدة فسرّها بالمساواة (الشكليّة) التي حققها الأكراد بين الذكور والإناث - وهي بالطبع نتاج الفكر الماركسي الذي اعتنقه قسم من قادة أحزابهم في فترات سابقة وليس لها علاقة بالضرورة بفهم متنور للإسلام - واحترامهم الأقليّات، إضافة إلى كونهم المجموعة المسلمة الوحيدة في العالم التي تحيي سنوياً ذكرى الهولوكوست! - .
يبدو أنه حان الوقت للفيلسوف (المدّعي) - كما وصفه عنوان كتاب صدر عنه أخيراً - بأن يتقاعد ويوفّر على القرّاء الجادين مهمة قراءة انطباعاته عديمة القيمة فكريّاً. أما كتابه هذا عن «الإمبراطوريّة والملوك الخمسة» فمكانه رف قصص الخيال العلمي للناشئة، لا بين مجلدات الفكر السياسي الرصين.



الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم