المرأة وأدب الرسائل

بين الفرنسية ناتالي ساروت والأميركية سيلفيا بلاث

ناتالي ساروت - سيلفيا بلاث
ناتالي ساروت - سيلفيا بلاث
TT
20

المرأة وأدب الرسائل

ناتالي ساروت - سيلفيا بلاث
ناتالي ساروت - سيلفيا بلاث

المرأة عموما، والمرأة الأديبة بوجه خاص، مطبوعة على غلبة الاتجاه الوجداني وسرعة الاستجابة الانفعالية للمواقف والأشخاص والرغبة في التفريج عن المشاعر المكظومة بالبوح والإفضاء واللهفة على التواصل مع الآخرين (كتب الأديب المصري إبراهيم المازني يوما يقول: إنه إذا كان الصمت شاقا على الرجال فإنه على النساء أشق). هذه كلها صفات تؤهل المرأة –إذا توافر لديها الاستعداد الأدبي الفطري والثقافة التي تصقل الموهبة - لأن تنبغ في كتابة الرسائل الشخصية (إلى زوج أو حبيب أو أبناء أو صديقات أو أصدقاء) على نحو قد تتفوق فيه على كثير من الرجال.
وخلال عام 2017 صدر كتابان من أدب الرسائل أتوقف عندهما هنا: أحدهما للروائية الفرنسية (روسية المولد) ناتالي ساروت (كادت في حياتها أن تتم قرنا كاملا إذ ولدت في 1900 وتوفيت في 1999). والكتاب الآخر للشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث (1932 - 1963).
كانت ناتالي ساروت من أعلام «الرواية الجديدة» في فرنسا في خمسينات القرن الماضي برواياتها «صورة رجل مجهول» (1948) و«القبة السماوية» (1959) و«الفاكهة الذهبية» (1963) و«الفتح» (1997) فضلا عن مقالات كتابها «عصر الشك» (1956) الذي يبسط نظريتها في فن الرواية. و«الرواية الجديدة» اسم يطلق على أعمال مجموعة من الأدباء الفرنسيين (آلان روب جرييه وساروت وكلود سيمون ومرجريت دوراس وميشيل بيتور) رفضوا الكثير من عناصر القص التقليدي مثل استخدام حبكة زمنية وتحليل دوافع الشخصيات.
وكتاب ساروت الذي نتوقف عنده هنا يحمل عنوان «رسائل من أميركا»، بتحرير كاري لاند فريد وأوليفيه واجنر، وهو كتاب قصير (126 صفحة) صادر عن دار جاليمار للنشر في باريس
كانت ساروت – كما أسلفنا - روسية المولد لأبوين يهوديين جاءت إلى باريس في 1909 حين طلق والدها والدتها، ثم قضت طفولتها متنقلة بين فرنسا وروسيا (لها كتاب عنوانه «الطفولة» 1983 وهو عن ذكريات طفولتها). درست الأدب وقضت فترة في جامعة أكسفورد عام 1922 ثم استقر عزمها على دراسة القانون واقترنت بزميل لها في الدراسة يدعى ريمون ساروت. كان زوجها يتولى كتابة أعمالها على الآلة الكاتبة ويبعث بها إلى الصحف والمجلات. ولما كان محاميا ناجحا فقد توافر لهما من الدخل ما مكنها من التفرغ للكتابة.
وكما يقول جابريل جوسيبوفتشي في مقالة له بـ«ملحق التايمز الأدبي» (6 أكتوبر/ تشرين الأول 2017) فإن كتاب «رسائل من أميركا» يضم رسائل موجهة كلها من ساروت إلى زوجها وذلك أثناء جولة محاضرات كانت تلقيها في الولايات المتحدة الأميركية في فبراير (شباط) ومارس 1964. وتنم الرسائل على وثاقة الصلة بين هذين الزوجين والمودة المتبادلة بينهما (إنها تدعوه «الكلب - الذئب» وتوقع خطابها باسم «الثعلب»). لكن الرسائل، فيما عدا ذلك، ليست بذات قيمة كبيرة. لقد كانت ساروت زائرة تحظى بالتقدير في الجامعات الأميركية وذلك في وقت كانت فيه «الرواية الجديدة» في أوج ازدهارها. وقد نظمت لها وزارة الثقافة الفرنسية هذه الجولة وتولى توفير كل سبل الراحة لها الملحق الثقافي الفرنسي في أميركا وناشر كتبها في أميركا وأصدقاؤها القدامى في نيويورك والمعجبون بها من الأكاديميين.
لا تعدو هذه الرسائل أن تكون سجلا لانتقالاتها. وحين تتبسط في الحديث تكشف عن تكلف للعظمة وسلوك متحذلق متباه مستغربين: فهي تتباهى بأنها جلست في نفس الغرفة التي كان الرئيس الأميركي السابق ليندون جونسون يجلس فيها، وأن حاكم إحدى الولايات الأميركية كان هو الجالس بجوارها على مائدة العشاء، وأن الممثلة كاثرين هبورن تشغل الغرفة المجاورة لغرفتها. وكل شيء تراه يثير إعجابها: أمسية رائعة، سمك ممتاز، متحف رائع. وتكتب: «لقد أحب الجميع محاضرتي» و«انتشى الجميع [بما قلت]». يعجب المرء كيف أن أوروبية مثلها كانت معتادة على روائع الفن وفنون العيش في قارتها تنبهر بما تراه في أميركا محدثة النعمة والتي لا تملك تاريخا حضاريا كذلك الذي تملكه أوروبا. أيكون السبب أنها -وقد همشت طويلا بعد أن زالت فورة الحماس لـ«الرواية الجديدة» - سعدت بأن ترى الناس ما زالوا يرغبون في الاستماع إليها والالتقاء بها؟ أم أنها (وهو ما قد يكون خافيا بين السطور) كانت تحاول إغراء زوجها بأن يلحق بها في أميركا؟ إنه مهما يكن السبب فإن نشر هذه الرسائل لا يضيف كثيرا إلى مكانتها.
وليس الأمر كذلك في حالة الكتاب الثاني الذي نعرضه هنا، فهو كتاب ذو قيمة مؤكدة. إنه كتاب ضخم (1388 صفحة) يحمل عنوان «رسائل سيلفيا بلاث، الجزء الأول 1940 - 1956» تحرير بيتر ستاينبرج وكارين كوكيل (دار فيبر وفيبر للنشر بلندن).
(وقد ترجم هذا الجزء إلى العربية عباس المفرجي، ونشرته دار «المدى العراقية» أخيراً).
كانت سيلفيا بلاث شاعرة احترافية تأثرت بديوان الشاعر الأميركي روبرت لويل «دراسات في الحياة» وعمدت في شعرها إلى تصوير أعمق المخاوف والرغبات والذكريات. إنها تمتاز بقصد العبارة ووضوح الخط ونقاء المعجم اللفظي بخلاف كثيرات من بنات جنسها ممن يغلب عليهن الفيض الانفعالي وانعدام الصقل الفني. وكما يقول جوناثان بيت (وهو مؤلف كتاب عن تدهيوز) في مقالة له بجريدة «ذا تايمز» البريطانية (30 سبتمبر/ أيلول 2017) فإن هذه الرسائل التي حررها اثنان من كبار المتخصصين في أدب سيلفيا بلاث رسائل تمتاز بالفطنة والحيوية وتكشف عن تعدد أصواتها وتعاقب حالاتها النفسية: فهي صريحة أو كتوم، مرحة أو حزينة، حكيمة أو حمقاء في لحظات مختلفة من حياتها. وتضم الرسائل تأملات في الحرب العالمية الثانية ومصير ألمانيا (كان أبوها أوتو، الذي توفي وهي في سن الثامنة، أستاذا جامعيا من أصول ألمانية).
والخبرة المحورية في حياة بلاث هي بلا شك علاقتها بزوجها الشاعر الإنجليزي تد هيوز. لقد التقيا في جامعة كمبردج (حين كانت في زيارة لبريطانيا) وتزوجا في 1956 وأنجبا ولدا وبنتا. وها هي تكتب لأمها في 1956: «إن أهم شيء مزعزع هو أني خلال الشهرين الماضيين وقعت في الحب على نحو مروع وهو ما لا يمكن أن يؤدي إلى غير جرح أليم (نبوءة صادقة منها). لقد التقيت بأقوى رجل في العالم، وهو خريج سابق في جامعة كمبردج، شاعر لامع أحببت شعره قبل أن التقي به».
عاشت بلاث مع هيوز ستة أعوام ونصف عام. افترقا فترة كانت فيها تعيش في كمبردج بينما هو يعمل في لندن. وتكتب إليه: «كم أحبك. أريدك أن تشعر بهذا وأن تفكر في إذ أجلس هنا بجسدي وأحبك بكل عقلي وقلبي وبدني. إني أسير في ظل تفكيري فيك وحبي لك مثل غمد من الإشعاع يحفظني».
وفي رسالة أخرى تكتب له بما يشبه الماذوكية: «يجب أن تؤنبني، أن تضربني، أن تساعدني».
لكننا جميعا نعرف كيف انتهت القصة. فمن منظور البعد الزمني الذي يمكننا من أن ننظر إلى الوراء ندرك النهاية المأساوية لهذا الغرام المشبوب بين زوجين شاعرين نابغين. ذلك أن هيوز (وكان زير نساء كبيرا لا يفوقه في هذا الصدد سوى الشاعر بايرون في مطلع القرن التاسع عشر) هجر زوجته في ذات يوم من أجل امرأة أخرى اقترن بها (قدر لها فيما بعد –يا للمفارقة - أن ماتت منتحرة). كانت الصدمة أقوى من أن تتحملها بلاث مرهفة المشاعر ذات الجهاز العصبي الهش. وفي صباح شتاء بارد في 11 فبراير 1963 (كان ذلك الشتاء هو أبرد شتاء مر ببريطانيا في القرن العشرين) وهي وحيدة في شقتها في بريم روز هيل بشمالي لندن فتحت مفاتيح موقد الغاز وأسلمت ذاتها لغيبوبة لم تفق منها. هكذا تنقلب بنا –نحن البشر - عجلة الحظ صعودا وهبوطا، سعودا ونحوسا، وتتلاعب بنا الأقدار –وعلى طرف شفتيها ما يشبه أن يكون طيف ابتسامة ساخرة –إلى أن تضع لحياتنا نقطة الختام.



وجه أنثوي من قلعة البحرين

مجسم أنثوي من محفوظات متحف قلعة البحرين
مجسم أنثوي من محفوظات متحف قلعة البحرين
TT
20

وجه أنثوي من قلعة البحرين

مجسم أنثوي من محفوظات متحف قلعة البحرين
مجسم أنثوي من محفوظات متحف قلعة البحرين

تُعد قلعة البحرين من أشهر الحصون التاريخية في الخليج العربي، وتشكّل جزءاً من موقع أثري شُيّد منذ أكثر من 4000 سنة، أُدرج على قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للثّقافة والتربية والعلوم (يونسكو) في عام 2007. أقامت هيئة البحرين للثقافة والآثار قبالة هذه القلعة متحفاً يحمل اسمها، افتُتح في فبراير (شباط) 2008، وحوى نحو 500 قطعة أثرية خرجت من هذا الموقع، توزّعت على خمس صالات، خُصِّصت كلّ منها لمرحلة معيّنة، وفقاً للتسلسل التاريخي. تتميّز هذه المقتنيات بتعدّدية أساليبها الفنية وبتنوّعها الكبير، ومنها مجسّم صغير يمثّل رأس امرأة، صيغَ وفقاً للأسلوب اليوناني الكلاسيكي في النحت.

صُنع هذا المجسّم الصغير من الطين المحروق، ويبلغ طوله 8 سنتيمترات، وهو على شكل تمثال منمنم أُنجز في كتلة ثلاثية الأبعاد، تبعاً للتقليد الذي كرّسته الجمالية اليونانية الكلاسيكية في سائر أنحاء العالم الهلنستي المتعدّد الأقطاب. يصعب تحديد تاريخ هذا التمثال بدقّة، والأكيد أنه من نتاج القرن الثالث أو القرن الثاني قبل الميلاد، ويمثّل وجهاً ينتصب فوق عنق عريض، يختزل بنضارته المثال المطلق للجمالية الأنثوية في الميدان الكلاسيكي بروافده المتعدّدة. يحضر هذا الوجه البيضاوي في وضعية المواجهة، وينحني بشكل طفيف نحو الجهة اليمنى، في حركة حيّة بسيطة، تشهد للتقليد الفني اليوناني الذي حاد عن سكون الحركة الثابتة ونبذها بعدما سادت طويلاً على مر قرون من الزمن.

الملامح واقعية، وسماته تحاكي المثال الحي في إبراز أدق معالمه الحسيّة، مع حلّة تجميلية تجسّد الحسن الأنثوي الكلاسيكي، ومثال الصبا والجمال في هذا القاموس اليوناني التقليدي. العينان مفتوحتان، والجفن محدد بدقّة، والقزحية والبؤبؤ غائبان كلّياً. الحاجبان مقوّسان ومنفصلان. الأنف معقوف وبارز، ويتميّز بحاجز ناتئ يفصل المنخرين، مع تجويفين عريضين في الأسفل. الثغر صغير، ويتكون من شفتين مكتنزتين مطبقتين، تعلوهما غمازة رقيقة تستقر بينهما وبين الأنف. الخدان واسعان، والذقن بارز، وتعلوه غمازة أخرى تستقر تحت شفة الثغر السفلى. العنق عريض، مع تكوير يفصل بينه وبين الذقن، يُعرف في قاموس الفن الكلاسيكي باسم «الذقن المزدوج». الجبين عريض ومجرّد، ويعلوه شعر كثيف تنقسم خصلاته في الوسط، وتشكّل كتلتين مرفوعتين إلى الخلف، تحدّان الوجه وتكشفان عن شحمتي الأذنين.

تتميّز هذه التسريحة التقليدية بشريط عريض تحدّه ثلاث ثنايا، يحضر أفقياً على شكل إكليل يُتوّج هذا الرأس الأنثوي الجميل. خصل الشعر نافرة وناتئة ومتموّجة بشكل حر، كما تظهر في الجهة الخلفية للرأس، وهي موشّحة بحلة لونية أرجوانية، بقي أثرها جليّا على الرغم من انمحاء جزء كبير منها. يُعرف هذا الإكليل في قاموس الجمالية اليونانية باسم «كيكريفالوس»، أي الرباط الذي يعلو قمّة الرأس، ويحدّ تسريحة الشعر، والمعروف أن النسوة في العالم الإغريقي كن يعمدن إلى صباغة شعورهن بالخل الممزوج بالمساحيق الملوّنة، والشواهد الفنية التي تعكس هذا التقليد عديدة.

يختزل هذا المجسّم الصغير المتقن الطراز اليوناني الكلاسيكي المعروف بطراز «تاناغارا»، نسبةً إلى بلدة تقع في مقاطعة بيوتي في إقليم وسط اليونان. في هذه البلدة، عُثر على مقبرة أثرية حَوَت عدداً هائلاً من التماثيل اليونانية الصغيرة الأنثوية التي تتَّبع هذا الطراز، وعُرف هذا الطراز باسم هذه البلدة منذ اكتشاف هذه المقبرة في عام 1870، وتبيّن لاحقاً أن مدينة أثينا شكّلت أساساً له منذ منتصف القرن الرابع قبل الميلاد، غير أن هذه التسمية ظلت معتمدة إلى يومنا هذا.

يتبع تمثال قلعة البحرين الصغير أسلوباً كلاسيكياً صرفاً يحضر بقوة في جزيرة فيلكا التي تتبع اليوم دولة الكويت، وشواهده في هذا الموقع الأثري عديدة، وتتمثّل بمجموعة كبيرة من المجسمات المصنوعة بتقنية الطين، منها قطعة منمنمة تمثّل وجهاً بيضاوياً أنثوياً يبلغ طولها 2.5 سنتيمتر، وقطعة أخرى حازت شهرة واسعة، تُعرف باسم «تمثال أفروديت»، ويبلغ طولها 11 سنتيمتراً. في المقابل، يحضر هذا الأسلوب بشكل استثنائي في البحرين، وتبدو شواهده إلى اليوم محدودة، وتتمثّل بهذا التمثال الأنثوي المحفوظ في متحف قلعة البحرين، إضافةً إلى قطعتين أعلن فريق التنقيبات الأثرية الخاص بإدارة الآثار والمتاحف في البحرين اكتشافهما في خريف 2021. عُثر على هاتين القطعتين في منطقة تقع على بعد 600 متر جنوب قلعة البحرين، وهما متطابقتان، على شكل مبخرتين، ويتكوّن كل منهما من رأس أنثى صبيّة تعلو شعرها سلّة ضخمة مخصّصة لإحراق الطيب تُعرف باسم «كالاثوس».

تتَّبع هذه القطع الطينية الثلاث في صياغتها، الأسلوب الكلاسيكي اليوناني الصرف، وتشهد لحضور خفر لهذا النسق في جزيرة البحرين التي أطلق عليها المستكشفون الإغريقيون اسم تايلوس، وهو الاسم الذي عُرفت به في زمن بروز الإمبراطورية السلوقية بين القرن الرابع والقرن الأول قبل الميلاد.