عبد اللطيف آل ثنيّان... صاحب «قاموس العوام في دار السلام»

الصحافي الأديب العراقي - النجدي

عبد اللطيف آل ثنيّان... صاحب «قاموس العوام في دار السلام»
TT

عبد اللطيف آل ثنيّان... صاحب «قاموس العوام في دار السلام»

عبد اللطيف آل ثنيّان... صاحب «قاموس العوام في دار السلام»

قبل نحو عشرين عاماً، استهوى كاتب هذا المقال الغوص في سيرة هذا الصحافي الأديب، العراقي الهُويّة النجدي الجذور، لا عن فضول البحث في منشأ أسرته فحسب، وإنما لكون القليل المنشور عنه يُنبئ بسمات مشهودة في الرقي والكفاية المعرفيّة، فنشرتُ آنذاك مقالاً موسعاً عنه في جريدة الجزيرة (العدد 10236، عام 2000)، تناول مشواره الصحافي وبعضاً مما كُتب عنه في الجانب الثقافي، ثم ألحقت المقال بكتابي «صفحات توثيقية من تاريخ الإعلام في الجزيرة العربية» (2002).
وقبل أسابيع، وقعت على كتاب صدر عام 2002 بعنوان «صفحات من قاموس العوام في دار السلام، بغداد»، وضع مادته هذا الأديب، وراجعه المحقق عامر رشيد السامرائي، ونشرته وزارة الثقافة العراقية عام 2001، وفيه مزيد من المعلومات عن سيرة المؤلف في جوانب ثقافية أخرى تضيف مزيداً من الفوائد عن فكره وإسهاماته، وتؤكد الانطباع الأول عن شخصيته ومكانته وكفاياته الفكريّة.
وعبد اللطيف ثنيّان ذكره خير الدين الزركلي في قاموس الأعلام، مشيراً إلى أنه من أقدم صحافيي العراق، وأنه ذو أصل نجدي، أصدر جريدة «الرقيب» في بغداد أواخر العهد العثماني في العراق، وحدّد كتاب «تاريخ الصحافة العربية»، لفيليب دي طرازي (بيروت، 1914)، تاريخ صدور الجريدة بـ28 / 1 / 1909، وهو بذلك يأتي بعد أحمد باشا الزهير، النجدي الذي أصدر جريدة «الدستور» في إسطنبول، بتاريخ 4 / 10 / 1908، وقبل سليمان الدخيل الذي كان الشيخ حمد الجاسر يظنّه أول نجدي احترف الصحافة، بإصداره جريدة «الرياض» البغدادية، في 7 / 1 / 1910.
وتُجمع الكتب المؤرّخة لصحافة العراق، وليقظته الفكرية، على الإشارة إلى عبد اللطيف آل ثنيّان، وتعدّه من روّاد الصحافة العراقية. فقد ذكر حميد المطبعي، مؤلف كتاب «موسوعة أعلام العراق في القرن العشرين»، أن للثنيّان في منزله بالأعظميّة ببغداد مجلساً ثقافياً، وأن من مرتاديه الشاعر معروف الرصافي.
وأشار كتاب «أعلام اليقظة الفكرية في العراق الحديث»، لمؤلفه مير بصري، إلى نسبه: «عبد اللطيف بن إسماعيل بن إبراهيم بن سلمان بن عثمان بن عبد الله بن مراد بن مبارك بن عبد الله بن ثنيّان»، نزحت أسرته إلى البصرة منذ أكثر من مائتي عام، وكان أبوه تاجراً له قطع شعريّة ونثريّة، وأنه ولد في بغداد في 22 / 3 / 1867، وتوفي والده وهو صغير، وأخذ عبد اللطيف علوم الدين والعربيّة على محمود شكري الألوسي، وقد مال إلى الأدب والكتابة، فحرر المقالات الوطنية والاجتماعية واللغوية منذ سنة 1890، وأنشأ عام 1902مكتبة تجلب المطبوعات المصريّة والتركيّة.
وعقب إعلان الدستور العثماني سنة 1908، أصدر جريدة «الرقيب» في بغداد مرتين في الأسبوع، وكانت تضم قسماً باللغة التركية، وقال عنها فائق روفائيل بطّي، أحد أبرز مؤرخي الصحافة في العراق: «إنها تميزت بسلاسة العبارة ونقاء اللغة، وكانت من أجرأ صحف زمانها ومن أكثرها شعوراً بالواجب، وكان محرّرها (الثنيّان) معروفاً بالصراحة المتناهية والمثابرة على العمل، والتمسّك بالدين مع محاربة الاتّجار به، لكنه اضطر إلى تعطيل جريدته عام 1910م إشفاقاً من نقمة الحكومة، وخرج من العراق إلى الهند، ثم قصد الحجاز لتأدية فريضة الحج سنة 1911، وعاد إلى بغداد بعد زيارة مصر وتركيا».
وبعد فترة اعتقال ونفي من بغداد، عاد إليها ليُوكَل إليه تنظيم المكتبة العامة في بداية افتتاحها. وفي عام 1923، عُين مديراً للأوقاف، ثم انتُخب نائباً عن لواء ديالى، وصار يلقي المحاضرات في دار العلوم العربية، ثم انتُخب نائباً عن لواء بغداد في عام 1939، وتوفي في بغداد في 21 / 4 / 1944، عن عمر يقارب الثمانين.
وذكرت المراجع العراقيّة أن «الرقيب» كانت ثالث جريدة أهليّة في العراق، تبرز في طُرّتها أنها جريدة عربيّة تركيّة تهدف لترقّي الوطن بكامل الحريّة، وكان قسمها التركي صغيراً، وأكثر أعمدتها بالعربية، وتميّزت بأسلوبها السهل وبسلاسة عباراتها ونقاء لغتها بمعيار ذلك الزمن، وظلّ صاحبها يقظاً على تتبّع سير الحكومة وأعمالها، فما رآه حسناً أطراه، وما كان خطأً انتقده، بحيث صح له أن يسميها «الرقيب». وكانت قد ظهرت في المدينة المنوّرة في الفترة ذاتها جريدة بالاسم نفسه، غير أنه لا صلة بين الصحيفتين.
وتشير المراجع إلى أن من آثاره: فهارس لكتاب الأغاني ووفيات الأعيان وحياة الحيوان (لكمال الدين الدميري) ورسالة الغفران.
أما كتاباه «قاموس العوام في دار السلام» و«أمثال العوام في دار السلام»، فهما معجمان عن العاميّة العراقية، على أن معظم مؤلفاته بقيت مخطوطة. وبتصفّح الكتاب الأول الذي بين الأيدي نسخة منه، تظهر مقدّمة ثريّة للمحقّق عامر رشيد السامرّائي، تناول في بدايتها ما تداوله الباحثون العراقيّون المعاصرون له بشأن علاقة عبد اللطيف آل ثنيّان بجمع المادة الأساسيّة للأمثال والمصطلحات الواردة فيه، وخلُص إلى أن أصولها كانت من وضع محمد سعيد الخليل، وأن الأديب والباحث الثنيّان استعان بها وأضاف عليها أجزاءً كبيرة، وقام بتبويبها، ووضع تحليلاً لألفاظها، وبيّن أصولها اللغويّة الفصيحة والدخيلة، وتركها مخطوطة.
واستعرض السامرّائي أبرز ما كتب في تقريظ الكتاب والثناء على المؤلّف وآثاره، وعلى صحيفة «الرقيب»، وعلى شخصيّته ومكانته بين مثقّفي عصره، من أقوال النقّاد والأدباء والمؤرّخين، أمثال إبراهيم الدروبي وعباس العزاوي وكوركيس عوّاد والأب أنستاس الكرملي وبهجت الأثري والألوسي ومير بصري وروفائيل بطّي.
ويضم القاموس مخزوناً من الألفاظ الدارجة على ألسنة العوام في بغداد بصفة خاصة، وفي بقيّة محافظات العراق بعامة، مرتّبة بحسب حروف المعجم من الألف إلى الياء، ومؤلّفه من المعنيّين بقضايا اللغة والتاريخ، والمهتمّين بالموروثات الشعبيّة العاميّة، وتولّى عامر السامرّائي تحقيق المخطوط وتدقيقه والتعليق عليه وتصويبه، ومقارنة ما ورد فيه مع مراجع أخرى، والقاموس (350 ص) يشبه عدداً من القواميس التي تناولت المفردات العاميّة العراقيّة، ذات الأصول العربيّة الفصيحة أو المنقولة من لغات ولهجات محيطة كتركيا وبلاد فارس.
وقاد التواصل مع أسرة الثنيّان، بمساعدة الباحث العراقي الكاتب سابقاً في هذه الصحيفة نجدت فتحي صفوة (المتوفّى في الأردن في ديسمبر (كانون الأول) عام 2013)، إلى أن أساس العائلة من الدرعيّة، وأن له ابنين يقيمان في بغداد، هما عمر ويحيى (صاحب مطبعة ثنيّان)، وأن أحفاد أخيه يقطنون المنطقة الشرقيّة بعد أن استردّوا الجنسيّة السعوديّة، وتذكره بعض الكتابات باسم عبد اللطيف ثنيّان، بينما يستخدم هو في رسائله اسم عبد اللطيف آل ثنيّان، وهو الأسلوب المتعارف عليه في كتابة الأسماء في وسط الجزيرة العربية وشمالها وشرقها.
* إعلامي وباحث سعودي



«موعدنا في شهر آب»... شيخوخة الكاتب وفحولة المكتوب

ماركيز
ماركيز
TT

«موعدنا في شهر آب»... شيخوخة الكاتب وفحولة المكتوب

ماركيز
ماركيز

«موعدنا في شهر آب» الهدية التي أرسل بها ماركيز من العالم الآخر إلى قرائه بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيله، تثير كثيرا من الأسئلة، بداية من النص ذاته وكاتبه وطبيعة تعاقده مع القارئ، وانتهاء بأسئلة عامة أخرى حول صناعة النشر والتحرير وحدود حرية التصرف في نص بعد رحيل كاتبه، خصوصاً أن نشر النوفيلا القصيرة قد أُتبع بإعلان نجلي ماركيز عن مسلسل تنتجه منصة «نتفليكس» عن «مائة عام من العزلة» أشهر روايات ماركيز التي رفض رفضاً قاطعاً نقلها إلى السينما في حياته. السؤال حول أخلاقية التصرف في أعمال الكاتب الراحل سبق تناوله ولا يمكن الوصول إلى كلمة فصل بشأنه؛ فتراث المبدع الراحل ملك لورثته بحكم القانون، يحلون محله لمدة خمسين عاماً في التصرف به قبل أن يصبح مشاعاً إنسانيّاً. وقد أجاد ابنا ماركيز الدفاع عن قراريهما بخصوص الروايتين.

تبدو مقدمة الرواية الجديدة التي وقعها رودريغو وغونثالو ماركيز بارتشا، عذبة ومراوغة، إلى حد يجعلنا نتوهم أن كاتبها هو ماركيز ذاته؛ حيث تتجلى فيها سمات أسلوبه، الذي يستند إلى حكمة اللايقين (المبدأ الذي نظَّر له كونديرا، دون أن يتجلى في كتاباته بقدر ما يتجلى في أسلوب الساحر الكولومبي).

بداية هناك الأسف على ذاكرة الأب، وأنقل هنا وكل الاقتباسات التالية عن نص الترجمة العربية التي أنجزها وضاح محمود، «كان فقدان الذاكرة الذي عاناه والدنا في السنوات الأخيرة من حياته أمراً غاية في الصعوبة علينا جميعاً، مثلما يمكن لأي امرئ أن يتصور ذلك بسهولة». وينقلان عنه: «إن الذاكرة مادتي الأولية وعدة عملي في الوقت عينه، ومن دونها لا وجود لأي شيء».

ويقرر الولدان أن الرواية كتبت في مسار يتأرجح بين نزوع ماركيز إلى الكمال وخيانة قدراته الذهنية له، ويشيران إلى طبيعة العمل الصعب للمحرر على النسخ الكثيرة من الرواية، ويتركان الحديث عن ذلك للمحرر كريستوبال بيرا في ملاحظاته المنشورة تذييلاً للطبعة ذاتها، لاعتقادهما بأنه سيفعل ذلك «بطريقة أفضل بكثير مما يمكن أن نفعل نحن الاثنين معاً، ففي تلك الأثناء لم نكن نعلم شيئاً عن الكتاب باستثناء حكم غابو عليه: هذا الكتاب لا نفع منه ولا بد من تمزيقه». بهذه الملاحظة يهيئان القارئ للمفارقة، فهما لم يمزقا النص، بل قررا نشره بعد أن نظرا في أمر العمل فوجدا أنه يزخر بمزايا كثيرة يمكن الاستمتاع بها، ثم يقرران تحوطاً «في حقيقة الأمر لا يبدو النص مصقولاً كما هو حال أعماله العظيمة الأخرى؛ ففيه بعض العثرات والتناقضات الصغيرة، إنما ليس فيه شيء يمنع القارئ من التمتع بأبرز ما في أعمال غابو من سمات مميزة». هو التلاعب الماركيزي ذاته والقدرة على تقديم مرافعة مقنعة، وبعد ذلك يستبقان القارئ العدو، فيقولان عن نفسيهما ما يمكن أن يقوله، ويؤكدان أنهما «قررا، بفعل يقارب أفعال الخيانة، أن ينشرا النص، مراهنين على مسرة القراء قبل أي اعتبار آخر، فإن هم احتفوا بالكتاب وسروا به، فعسى أن يغفر لنا غابو فعلتنا، ويعفو عنا».

لكن تذييل المحرر كريستوبال بيرا لا يوحي أبداً بأن ثمة معضلات كبرى واجهته في اعتماد نسخة الرواية. يحكي المحرر بداية عن تعارفه مع ماركيز مصادفة بسبب غياب محرره الأصلي كلاوديو لوبيث لامدريد، إذ هاتفته الوكيلة كارمن بالثلس في أغسطس (آب) من عام 2001 تطلب منه العمل مع ماركيز على نشر مذكراته «عشت لأروي». وقد عمل بيرا مع ماركيز على أجزاء من المذكرات عن بعد 200. ثم تأخر استئناف العلاقة بينهما إلى عام 2008. وفي بناء ماركيزي من الاستباقات والإرجاءات التشويقية، يطلعنا المحرر على سيرة طويلة وعلنية لـ«موعدنا في شهر آب» مع كاتبها لا تجعل منها لقية أو مفاجأة أدبية بالمعنى الذي يكون عند اكتشاف نص مجهول تماماً بعد رحيل صاحبه.

يغطي المحرر وقت غيابه عن ماركيز بشهادة سكرتيرة ماركيز مونيكا ألونسو، التي تقرر أنه انتهى من تسليم الملازم النهائية من المذكرات في يونيو (حزيران) من عام 2002، وبدا خاوياً بلا مشروع، لكنها عثرت أثناء تفقدها الأدراج على مخطوطتين، أولاهما تحمل عنوان «هي» والثانية «موعدنا في شهر آب» ومنذ أغسطس 2002 وحتى يوليو (تموز) 2003 انكب ماركيز على العمل في «هي» التي تغير عنوانها عند نشرها في 2004 إلى «ذكريات غانياتي الحزينات». أما «موعدنا في شهر آب» فقد نشر منها فصلاً عام 2003، مما يعد إعلاناً بأنه بدأ المضي قدماً في مشروعه الثاني. لكن الخبر الأول عن هذه الرواية كان أقدم من ذلك، وتحديداً يعود إلى عام 1999 حيث فاجأ ماركيز الحضور في مؤتمر أدبي عن الخيال في الرواية اللاتينية بقراءة فصل من هذه الرواية بدلاً من أن يلقي كلمة، وبعد ذلك نشرت الصحافة خبراً مفاده أن العمل الجديد عبارة عن خمس قصص بطلتها واحدة هي آنا مجدلينا باخ.

يثني المحرر على انضباط مونيكا ألونسو التي لازمت ماركيز فترة كتابته الرواية، من بدايتها عام 1999 إلى عام 2004 حين أنجز النسخة الخامسة من التعديلات وكتب على مخطوطتها: «موافقة نهائية مؤكدة. تفاصيل حولها في الفصل الثاني. انتباه، قد يكون الفصل الأخير هو فصل الختام، هل هو الأفضل؟». حسم ماركيز واضح في بداية العبارة. وأما ما جاء بعد ذلك؛ فيمكن فهمه في إطار الوساوس التي تلاحق الكاتب حتى أمام بروفات الطباعة.

يقرر كريستوبال بيرا أن ماركيز كف عن العمل على الرواية بعد تلك النسخة الخامسة، وأرسل نموذجاً عنها إلى وكيلته كارمن بالثلس في برشلونة. عند هذا الحد كان من الممكن للرواية أن تنشر في حياته دون الدخول في معضلات نشر ما بعد الوفاة، لكن كريستوبال لا يحكي شيئاً عما حدث بين ماركيز والوكيلة. هل عاد وطلب منها التريث أم نصحته هي بذلك؟ لكنه يورد عبارة على لسان ماركيز قالها لسكرتيرته: «أحياناً يجب ترك الكتب كي ترتاح»، وإذا لم تكن العبارة تبريراً لقرار بتعليق النص، فهي مقولة عادية جداً، يعرفها جميع المبدعين ويعملون بها.

يخبرنا المحرر أن الكاتب دخل بعد ذلك في الاستعداد لمناسبة عزيزة، وهي الاحتفال بالذكرى الأربعين لصدور «مائة عام من العزلة» عام 2007 ثم العمل على جمع مقالات كتاب «لم آت لألقي خطبة»، فهل كان الانشغال بالحدثين سبب التأجيل؟ يصل بنا المحرر إلى أن الوكيلة طلبت منه صيف 2010 أن يحث ماركيز على إنهاء «موعدنا في شهر آب» ولم يكن قد عثر على ختام لها حتى ذلك التاريخ، لكنه عثر على إلهام النهاية بعد ذلك، «قرأ عليَّ الفقرة الأخيرة التي يختم بها القصة ختاماً مدهشاً».

رغم كل هذا التأهيل للقارئ بأن العمل انتهى على النحو الأمثل على يد صاحبه، يعود المحرر ليقول إن ذاكرة ماركيز بدأت تخونه، فلا تتيح له أن يوفق بين عناصر نسخته النهائية كلها، ولا أن يثبت التصحيحات التي أجراها عليها. لدينا في حكاية المحرر الكثير من الفجوات مثل فجوات الخفاء التي يتركها الروائيون عمداً. هل تشبث ماركيز بروايته ورفض نشرها بعد كتابة الخاتمة لمجرد أن يملأ أيامه ويقنع نفسه بأنه لم يزل في حالة كتابة، أم أن ظروفاً حالت دون النشر؟

لا يجيب المحرر عن هذا السؤال أيضاً، ويعود فيقرر أن السكرتيرة كانت قد أبقت على الكومبيوتر نسخة رقمية «لا تزال تتعايش بين ثناياها مقاطع من خيارات أو مشاهد أخرى كان الكاتب قد أولاها عنايته سابقاً»، وأنه عمل على تحرير الرواية اعتماداً على الوثيقتين معاً، أي النسخة الورقية الخامسة والنسخة الإلكترونية، مقرراً بأن عمله كان مثل عمل مرمم اللوحات، «إن عمل المحرر ليس تغيير نص الكتاب إنما على جعله أكثر تماسكاً، انطلاقاً مما هو مكتوب على الورق».

إذا كان الكاتب قد اعتمد نسخته الخامسة، فلماذا العودة إلى نسخة إلكترونية سابقة؟

تبقى كل الأسئلة معلقة، والمهم أن الرواية صدرت في النهاية بكيفية تجعلنا نفترض أن تضخيم عمل المحرر في المقدمة والتذييل عمل من أعمال الدعاية المصاحبة للنشر، لأننا بصدد نص يتمتع بالمهارة الماركيزية المعتادة.

البطلة امرأة في منتصف العمر تذهب في السادس عشر من «آب» كل سنة لتضع باقة زنبق على قبر أمها في جزيرة فقيرة، وتمضي ليلتها في فندق، حيث تعثر على عشيق العام في لقاء المرة الواحدة. وفي نهاية الرواية تجد آنا مجدلينا ضائعة بين تجارب حب عابرة لا تجلب سعادة وعدم الاستقرار في الزواج؛ فتقرر في الرحلة الأخيرة استخراج عظام أمها لتأخذها معها وتكف عن الذهاب للجزيرة، الأمر الذي يذكرنا بكيس عظام والدي ريبيكا (ابنة المؤسس بالتبني في «مائة عام من العزلة») وقد أخبرتها عرافة بأنها لن تعرف السعادة ما دامت عظام أبويها لم تدفن، وبدورها تنقل الخبر إلى جوزيه أركاديو بيونديا فيتذكر كيس العظام الذي حُمل مع الصغيرة، ويبحث عنه فيدله البنَّاء بأنه وضعه في جدار البيت، فيستخرجه ويتدبر له قبراً بلا شاهد. وكأن الاستقرار على سطح أرض يستلزم توطين عظام الأسلاف في باطنها.

الرواية الجديدة أكثر شبهاً بتوأمتها «ذكرى غانياتي الحزينات» بداية من رفقة مخطوطيهما، ما يؤكد أنهما كانتا آخر ما كتب ماركيز، وكلتاهما من أقل أعماله ألقاً، وتثبتان معاً أنه رحل وفي نفسه شيء من «الجميلات النائمات» لياسوناري كاواباتا. لكن تتبعه لخطى كاواباتا في «موعدنا في شهر آب» يبدو أكثر رهافة من نموذج الغانيات، فقد جعل البطولة للمرأة هنا وليس للرجل، واستغنى عن حبة المنوم، وإن ظل النوم حاجزاً يحول دون التعارف.

وتبدو في هذه النوفيلا القصيرة مهارات ماركيز كلها، التي جعلته واحداً من السحرة الذين يجبرون القارئ على التخلي عن الممانعة ومنحهم تواطؤه غير المشروط إكراماً لمهارتهم.

البناء محكم؛ فالشخصية الرئيسية آنا مجدلينا مرسومة جيداً، وكذلك بناء شخصيات زوجها وابنتها وابنها ورجالها المجهولين، الجميع يتمتعون بالجودة ذاتها في حدود مساحاتهم بالنص. والمكان محدود بالبيت والعبَّارة والمقبرة وفنادق الجزيرة، ومع ذلك تدبر ماركيز في كل مرة بداية ونهاية مختلفة لكل فصل أو قصة من قصص الكتاب.

يقول ولدا ماركيز إن الرواية كتبت في مسار يتأرجح بين نزوع ماركيز إلى الكمال وخيانة قدراته الذهنية له

بناء اللغة هو ذاته المعتاد لدى ماركيز، من حيث الإغراق في البهارات، والميل إلى الحماسة كاستخدام المطلقات في وصف لوثات الحب التي تغير حياة المحب إلى الأبد، «لن تعود أبداً مثلما كانت من قبل» أو تجعل العاشق يشعر بأنه يعرف الآخر «منذ الأزل». وهناك دائماً الرغبات الجامحة، والالتهام المتبادل في نزال الحب. وتمتد حماسة الأسلوب الماركيزي حتى تشمل حفاري القبور، «استخرج الحارس التابوت بمعونة حفار قبور استُقدم للمناسبة مقابل أجر، ثم رفعا عنه الغطاء بلا رأفة». كما تنتقل المشاعر من الشخصية إلى الأشياء حولها، وكأنها تردد ما بداخلها، «ولما دخلت المنزل، توجهت إلى فيلومينا وسألتها مذعورة عن الكارثة التي حلت فيه بغيابها، إذ لاحظت أن الطيور لم تعد تغرد في أقفاصها، وأن أصص الأزهار الأمازونية والسراخس المدلاة، والعرائش المتسلقة ذات الزهور الزرقاء اختفت عن التراس الداخلي».

لدينا كذلك سمة المفارقة الماركيزية ترصع الأسلوب كما في هذه العبارة: «وفي السنوات الأخيرة غرقت حتى القاع في روايات الخوارق. لكنها في ذلك اليوم تمددت في الشمس على سطح العبَّارة ولم تستطع أن تقرأ حرفاً واحداً».

يبقى في النهاية أن تأمل الروايتين الأخيرتين يجعلنا نكتشف أن الحسية وعرامة الحياة ظاهرة ملازمة لماركيز على نغمة واحدة منذ بدايته إلى نهايته، وكأنه آلة مضبوطة على هذه الدرجة من الفحولة، بلا أي أثر لمرور العمر أو تداعي الجسد الملازم للشيخوخة، ولا حتى أثر الخوف من الذاكرة الذي نجده في المقدمة والتذييل!