الاستخبارات البريطانية تطلب ضباطاً من «غير البيض»

أعلنت عن حاجتها لأبناء مهاجرين

مبنى المخابرات البريطانية في لندن (غيتي)
مبنى المخابرات البريطانية في لندن (غيتي)
TT

الاستخبارات البريطانية تطلب ضباطاً من «غير البيض»

مبنى المخابرات البريطانية في لندن (غيتي)
مبنى المخابرات البريطانية في لندن (غيتي)

مقطع مصور لمياه عميقة وسمكة قرش تتسلل في الظلام، وتلف في المكان، وكأنها تتوعد من حولها. المشهد لم يكن سوى إعلان خاص بجهاز الاستخبارات البريطاني «إم إي 6»، ولذا كان من المفترض أن يكون المشهد التالي على غرار مغامرات جيمس بوند في معركة دراماتيكية مع سمكة القرش للبقاء على قيد الحياة. لكن ما حدث في الإعلان لاحقاً هو أن الكاميرا استدارت لتظهر حوض أسماك ضخم والزوار يقفون أمامه، وكان أبرزهم سيدة تحمل طفلها الصغير.
يهدف أول إعلان على الإطلاق لجهاز الاستخبارات البريطاني إلى اجتذاب عملاء جدد، لكن هذه المرة من الأقليات العرقية والنساء وآخرين، بإمكانهم كسر القوالب النمطية لعميل «إم إى 6». جاءت الرسالة واضحة في الإعلان، وهي أن ضابط الاستخبارات المطلوب في جهاز الاستخبارات السرية هذه المرة ليس رجلاً أبيض، بل الأم السمراء الشابة التي ظهرت في الإعلان.
يقوم جهاز «إم إي 6» حالياً بتبسيط قواعد التعيين، بهدف تشغيل أنماط مختلفة من البشر بغرض تسهيل العمل. وفي هذا الصدد، صرح مصدر مسؤول بجهاز «إم إي 6» قائلاً: «نعمل على جعل أمر الجنسية في جهازنا أكثر مرونة لخدمة أجندة عملنا، ولتوسيع قاعدة الاختيار من بين المرشحين المتقدمين».
ويسعى جهاز خدمة الاستخبارات السرية إلى تعيين نحو 800 عميل جديد للانضمام ومعاونة كتيبة يبلغ قوامها في الوقت الحالي 2700 عميل. وجاء الإعلان الذي شهد إقبالاً كبيراً عقب عملية تسميم العميل الروسي وابنته التي جرت بمنطقة ساليسزبيري بجنوب بريطانيا.
ويهدف الإعلان إلى الوصول إلى شريحة من الناس لا ترى في جهاز الاستخبارات السرية عملاً طبيعياً. ويقول التسجيل الصوتي المصاحب للإعلان «نحن ضباط استخبارات، لكننا لا نفعل ما في ذهنك. ليس المطلوب هو المحافظة على هدوئك أمام حوض سمكة القرش، لكن فهم الإشارات التي ينطوي عليها. هذا ما يهمنا. نحن مثلك لكن سراً».
يُشار إلى أن جهاز «إم إي 6» قد فاز بعدد من الجوائز العام الحالي، لقيامه بترقية السيدات إلى الوظائف العليا، ومراعاة المساواة بين الجنسين. غير أن الأرقام الحديثة أظهرت أن الجهاز لا يزال في حاجة إلى المزيد من التطوير في هذا الصدد، حيث تشغل السيدات 24.1 في المائة من المناصب العليا، و37.8 في المائة في الوظائف غير العليا. ويخلو الجهاز من أي رجل أسود أو ملون في الوظائف العليا، وهي الفئة التي تشغل 6.8 في المائة من الوظائف بالجهاز.
سيعرض الإعلان للمرة الأولى مساء الخميس. وفي هذا الصدد، صرح أليكس يونغر، رئيس جهاز «إم إي 6» في لقاء أمام الصحافيين بقوله، «أريد أن أنفي الشائعات التي تجعل البعض لا يقبلون على العمل معنا. فالجهاز الذي أرأسه عالمي ومتطور ويتمتع بسمعة حسنة، باعتباره أحد أفضل أجهزة الاستخبارات في العالم»، وأضاف يونغر: «رسالتي بسيطة، وهي أنه لا يوجد معيار ثابت لضابط (إم إي 6)، ولذلك إن وجدت أن الشروط تنطبق عليك، قدم للوظيفة وانضم إلينا. عملنا مثير وينطوي على الكثير من التحدي الفكري، وهذا ما يعنينا. وبغض النظر عن خلفيتك، إن كنت تمتلك المهارات التي نحتاجها، وإن كنت تؤمن بقيمنا، فأتمنى أن تفكر في العمل بمجال الاستخبارات، وفي خدمة تعكس مجتمعنا اليوم».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)