كتاب كويتيون: الدور المتخصصة بأدب الطفل قليلة وكذلك الرسامون

الكبار... هل يحسنون صناعة الصغار؟ (2 من 2)

أمل الرندي في ورشة عمل قصصية للأطفال
أمل الرندي في ورشة عمل قصصية للأطفال
TT

كتاب كويتيون: الدور المتخصصة بأدب الطفل قليلة وكذلك الرسامون

أمل الرندي في ورشة عمل قصصية للأطفال
أمل الرندي في ورشة عمل قصصية للأطفال

معظم ما نعيشه في الكبر، هو حصاد طفولتنا، في تلك المرحلة من زمن الإنسان، تتشكل معظم سلوكياتنا التي تأتي لاحقاً إما صحيحة وإما مبنية على خطأ. العنف مثلاً، أو التسامح، أو العطاء، أو الأنانية.. وصفات أخرى تظهر في سنوات الشباب وما بعدها نتاج ما عرفناه في طفولتنا. أحد أهم عوامل التنشئة، هو أدب الأطفال.. بدءاً من القصص التي كانت ترويها الجدات، وانقرضت اليوم، وصولاً إلى مجلات الأطفال التي تكاد تنقرض، مروراً بأفلام الكرتون التي أصبحت بمعظمها تتحدث عن الحرب أو غزو من الفضاء.
يرى الكاتب السعودي إبراهيم شيخ مغفوري أن الدور المتخصصة قليلة ولا تفي بالغرض بالنسبة للطفل العربي، كما يعتقد أن الإقبال عليها ضعيف بسبب القنوات الفضائية وما تبثه من مغريات للطفل وعدم التشجيع من قبل أهل الاختصاص. ويلفت مغفوري إلى نقطة مهمة وهي أنه: يجب على كاتب قصص الأطفال أن يراعي سن الطفل وإدراكه، فيكتب ما يناسبه ويتجنب الغموض والأشياء التي توثر سلبا في تموين الطفل وعقيدته. وينتقد مغفوري القنوات الفضائية ويقول: على المجتمع أم يتدارك الأمر.
أما الرسامون المتخصصون بالطفل، فباعتقاده أنهم قلة، ويقول: أدب الطفل يحتاج إلى من يطبع للطفل ما يناسبه من حيث الخط والرسومات ويشجع الطفل بالجوائز والحوافز من دون أن ينتظر مردوداً مالياً لأنه يؤسس، وما عليه إلا الصبر والتضحية وأعتقد أن من يتصدر لهذا الأمر يجب أن يكون مدعوماً من المؤسسات الحكومية، ويتابع: أعتقد أن الإمارات خطت خطوات ثابتة وجميلة في هذا المجال وفعلهم هذا أنموذجا يحتذى به.
- تجربة الكويت
الكاتبة الكويتية أمل الرندي، لديها عدد جيد من إصدارات قصصية خاصة بالطفولة، وحاصلة على جوائز بهذا الشأن، تقول: رحلة أدب الطفل باتت طويلة ومتطورة، منذ ظهوره في القرن السابع عشر، على يد رواده تشارلز بيرو، لافونتين، وغيرهما الكثير، الذين سعوا بكل طاقتهم ليكون للطفل أدب خاص به بكل فنونه، وحتى يومنا هذا بكل ما فيه من تطور.
وتحدثت الرندي، عن تجربة النشر في مجال أدب الطفل في دولة الكويت، حيث برزت مبادرات لم يكتف أصحابها بالكتابة فأخذوا على عاتقهم مسؤولية النشر أيضا، مثل الكاتبة لطيفة البطي التي أسست أول دار نشر كويتية (سيدان)، ودار (كشمش) لمحمد جراخ، و(دار غنيمة) لهبة مندني، و(دار شمس الكويت) للرندي، وغيرها من تجارب الكتاب الذين اهتموا بكتاب أدب الطفل مع الحرص على اكتمال شكله وجمالياته.
وكانتْ الكويتُ منْ أوائلِ الدولِ في الخليج في مجال صحافة الطفل، وقد صدرت فيها عن مؤسسات حكومية مثل مجلة «براعم الإيمان»، ومجلة «العربي الصغير»، كما أن المؤسسات في الكويت استطاعت هي الأخرى أن تصدر عدداً من مجلات الأطفال، مثل مجلة «سعد»، مجلة «أزهار» ومجلة «أولاد وبنات» وقد كانت للكاتبة الكويتية أمل الرندي مشاركات فيها، وكانت هناك أيضا بصمة للأفراد في هذا المجال رغم التكلفة العالية، مثل مجلة «سدرة» للدكتورة كافية رمضان، مجلة «ماما ياسمين»، لشيخة الزامل وغيرهما، وبلغ عدد مجلات الأطفال في الكويت حوالي 24 مجلة. وتعتقد الرندي أن «ما هو بديهي أن تتوقف صحف وتظهر أخرى، ليستقر الحال على ما لا يزيد على عشر مجلات للأطفال. ولا شك في أن المجلات لعبت دوراً مهماً في رفع مستوى الأطفال وانفتاحهم على تنوع ثقافي مهم، وكذلك فعّل موضوع الكتابة للأطفال ومساهمة كتّاب كثر للكبار في الكتابة للأطفال وتنشيط الإبداع في هذا المجال».
- أدب يفرض نفسه
كاتبة الطفل الكويتية هبة مندني، لها تجارب مطبوعة وتواصل أدبي مع عالم الطفل، وتقول إن: التخصص في الكتابة للأطفال موجود في العالم العربي بل إن عددا من الأدباء الكبار والروائيين اتجهوا لهذا النوع من الكتابة بعد أن أصدروا العديد من المجموعات القصصية والروايات، وهذا دليل واضح على أدراك المثقف العربي للحاجة الماسة لتكوين وإحياء إرث عربي ثقافي يهتم بأدب الطفولة، ولكن هناك مميزات ومواصفات يجب أن تتوفر في كل من أراد أن يكتب أو يتخصص في الكتابة للأطفال: أولها الصبر، فالكتابة للطفل لا تحقق الشهرة المرجوة التي يحققها الروائي أو الشاعر، فبإمكان الطفل حفظ عنوان الحكاية أو القصة دون أدنى اهتمام منه لحفظ اسم كاتبها ومؤلفها، أما بالنسبة لاستخدام اللغة فعلى كاتب الأطفال الحرص على الكتابة بلغة رشيقة وبسيطة تتناسب مع قاموس الطفل اللغوي دون الإغفال عن أهمية ضبط الحروف وتشكيلها، كما ينبغي لكاتب الأطفال الحرص على أن تتناغم كتابته مع الخيال والابتكار فهما سلاحا كاتب الأطفال المتميز في هذا الزمن تحديدا، الذي أصبح التقدم التكنولوجي سمته البارزة.
وتتابع مندني: «لا ننسى أن القصة المنشورة لا تستقي جودتها إلا بتضافر جهود الكاتب ورسام قصص الأطفال وخاصة الأخير الذي يعتبر بطل العمل في المقام الأول، فللرسم والألوان قدرة سحرية على جذب انتباه الطفل وترسيخ مفهوم الحكاية في مخيلته، ويحرص كتاب الأطفال بشكل عام في الوجد على صفحات مجلات الأطفال العربية والتي تصدر بشكل شهري أو موسمي لتسهم بشكل ما في ثقافة الطفل وإكسابه المعرفة العلمية أو زيادة محصوله من الثروة اللغوية، إلا أنني أظن أن هذه المجلات بحاجة إلى جهد مضاعف لإيصالها لأيدي الأطفال مباشرة ولن يتم ذلك إلا بالتعاون مع المدارس أو الجهات الحكومية الداعمة والمهتمة بالشأن الأدبي الخاص بالطفل وذلك لحث هذه الفئة العمرية على مطالعة تلك المجلات وقراءتها».


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.