«داعش» واستغلال البريق الدعائي

«ولايات» إرهابية متناثرة يتم التحكم فيها عن بُعد

آثار طلقات الرصاص على زجاج مقهى في باريس عقب هجوم الأسبوع الماضي (أ.ف.ب)
آثار طلقات الرصاص على زجاج مقهى في باريس عقب هجوم الأسبوع الماضي (أ.ف.ب)
TT

«داعش» واستغلال البريق الدعائي

آثار طلقات الرصاص على زجاج مقهى في باريس عقب هجوم الأسبوع الماضي (أ.ف.ب)
آثار طلقات الرصاص على زجاج مقهى في باريس عقب هجوم الأسبوع الماضي (أ.ف.ب)

كل الحيثيات التي تحاك حول تنظيم داعش لا تعكس إلا مدى براغماتيته، واستغلاله لكل ما حوله من أجل إثبات استمرارية وجوده ومدى قوته، وإن أثبت ذلك مدى تناقض توجهاته الأخيرة مع الرسالة المحورية أو الأهداف الرئيسة التي بُني عليها التنظيم. إذ إن تكثيف الهجمات الإرهابية في دول أخرى بعيداً عن مناطق الصراع التي بات استهداف التنظيم فيها علنياً من قبل القوات الدولية، والانتقال إلى ما سمّاه التنظيم «ولايات» تتضمن ولاية خراسان التي تشمل أفغانستان والمناطق الحدودية في باكستان وآسيا الوسطى، إضافة إلى مناطق أخرى مثل ولاية سيناء وليبيا والقوقاز والجزائر، يعد هدفاً من أجل الابتعاد عن المركزية والمخطط الأوّلي لتأسيس ما يسمى دولة الخلافة، ومحاولة لتعويض الخسائر التي تكبّدها تنظيم داعش، لا سيما من خلال استهداف دول تحوي أقليات ممن يشتكون من تهميشهم واختلافهم عن بقية المجتمع، الأمر الذي يؤدي إلى سهولة تجييشهم وحثهم على الانضمام للتنظيم، والاستفادة من تسترهم خلف جنسياتهم الأوروبية كما يحدث في الآونة الأخيرة في كل من فرنسا وبريطانيا ودول أخرى. الأمر الذي يظل كما هو دون تغيير هو تحوُّل تنظيم داعش الجديد من خلافته الواقعية في سوريا والعراق إلى ما سماه التنظيم «ولايات» متناثرة يتم التحكم فيها عن بُعد.

استمرارية «المد الداعشي»
يظل الأمر الأدهى والأصعب في معالجته من قبل المجتمع الدولي هو محاولة إيقاف المد الداعشي ومدى تأثيرهم على الآخرين من خلال استحواذهم على العالم الإلكتروني واستمرارهم في بث رسائلهم ليس فقط المشفَّرة منها وإنما كذلك عبر برامج مثل «يوتيوب» و«تويتر» وكذلك موقع «غوغل»، حيث لا يزال أعضاء التنظيم يتواصلون مع الآخرين ويسهمون في استقطاب الذئاب المنفردة أو الجماعات الإرهابية في المناطق التي يسهل التغلغل فيها مما ينعدم فيها الأمن أو يضعف. ويبقى الهم الإرهابي الأعمق هو كيفية إثارة الرأي العام وتخويف الآخرين سواء عبر حملات تهديدية مثل ما يحدث مؤخراً من تهديد للاعبي كرة القدم مثل الصور الدموية التي انتشرت في المواقع الإلكترونية والتي يظهر فيها كل من اللاعبين ميسي ورونالدو، أو حتى تهديد تنظيم داعش لمقر كأس العالم القادم في روسيا واختصارهم لتهديداتهم بمقولتهم المتداولة في الآونة الأخيرة: «نحن في روسيا». وصورة الاستاد الرياضي «لوجنيكي» في روسيا مع عبارة: «ستمتلئ الأرض بدمائكم». مثل هذه الحملات الدعائية التي بات التنظيم الداعشي ينثرها في أرجاء العالم السيبراني ليست فحسب بدافع إثارة الرعب وإنما استغلال عامل الإثارة والتشويق من أجل دفع من تمده مثل هذه الرسائل الإعلامية المتطرفة للانضمام إليهم والقيام بهجمات إرهابية وإن كانت من خلال ذئاب منفردة أو عبر الحصول على دعم معنوي أو لوجيستي عن بُعد، وهو ما يرتكز عليه التنظيم في الآونة الأخيرة من استعراض مسرحي يبحث عن المتهافتين عليه.
وتستمر هذه الحملات في الازدهار على الرغم من تضافر الجهود الدولية من أجل التخلص منها، على سبيل المثال جهدت السلطات البريطانية في هجماتها على وكالة «الأعماق» الداعشية، إضافة إلى اكتشافها أماكن وجود بعض المتطرفين من خلال أنشطتهم الإلكترونية مثل ما حدث في كل من بلغاريا وفرنسا ورومانيا. وفي الوقت ذاته يظهر استغلال المناسبات الدينية مثل شهر رمضان الذي يشن فيه تنظيم داعش حملات مكثفة من أجل تحريض الآخرين على القيام بهجمات إرهابية، وإن كانت عشوائية دون تقنين مثل التحريض على طعن الآخرين في أماكن اكتظاظ الناس، بما انحرف عن المسار التقليدي للتنظيمات الإرهابية ليستحيل بشكلٍ أو بآخر إلى ما هو أشبه بعصابات إجرامية بفروع متناثرة.

استغلال توقيت رمضان
ويأتي توقيت الهجمات التي تكثفت مؤخراً متزامناً مع شهر رمضان، كعادة التنظيم في تركيزه على الهجمات في هذا التوقيت واستغلاله له من أجل تجييش مشاعر المتعاطفين معهم من التخريبيين ممن يؤمنون بزيادة مكاسبهم الدينية في حال قتلهم «الكفار» في مثل هذا التوقيت، وتأليب الآخرين وحثهم على اقتراف المزيد من الهجمات الإرهابية. من جهة أخرى يظهر سعي تنظيم داعش لإثبات وجودهم في القارة الأوروبية، من خلال الهجمات التي تم اقترافها عبر «الذئاب المنفردة» أو الخلايا الصغيرة، ويتجلى ذلك من خلال حادثة الطعن في باريس مؤخراً، والتي ارتكبها الفرنسي من أصل شيشاني حمزة عظيموف فأسفر عن قتل شخص وإصابة أربعة آخرين، الأمر الذي يجسد زيادة نشاط التنظيم في القارة الأوروبية. وقد كشفت السلطات الفرنسية عن 416 متبرعاً شاركوا في تمويل تنظيم داعش من خلال مبالغ زهيدة تظهر أشبه بتبرعات خيرية وإن كانت بغرض تمويل التنظيم الإرهابي. الأمر الذي يثبت استمرارية وجود أرض خصبة متقبلة للتطرف في أماكن عديدة من العالم.

توجه عشوائي نحو قارّة آسيا
لم يكن من قبل هناك أي دلائل تشير إلى توجه تنظيم داعش إلى توسعة نطاق دائرته إلى منطقة جنوب شرقي آسيا. إلا أنه مؤخراً يمعن في استغلال المناطق التي تتسع لتلقِّي التنظير وأدلجة تنظيم داعش مثل ما حدث مؤخراً في إندونيسيا التي يصعب التحكم بالأعداد المفاجئة من المتطرفين فيها مؤخراً، بالأخص وأن ذلك لم يقتصر على شبان أو رجال شرسين، وإنما تضمن أسراً انتحارية بأكملها. فما حدث في سورابايا من هجمات انتحارية استهدفت عدة كنائس بالإضافة إلى مركز شرطة شنتها عدة أسر تضمنت أطفالاً تتراوح أعمارهم ما بين التاسعة والثامنة عشرة. إحدى هذه الأسر مكونة من 5 أشخاص نفّذت هجوماً انتحارياً في سورابايا على مركز للشرطة، وقد قام رب الأسرة ديتا أوبريارتو وهو زعيم في إندونيسيا لجماعة أنصار الدولة، بإنزال زوجته وابنتيه في عمر 9 و12 عاماً، قرب كنيسة لتفجرن أنفسهن بأحزمة ناسفة. الأمر الذي يعكس استغلال التنظيم أي شخص حي يمكنهم الاستفادة منه، بما في ذلك أطفال ونساء كتوجُّه جديد، قد لا يدل إلا على مبلغ إفلاس التنظيم وبحثه عن أي شخص يمكنه القيام بالهجوم الانتحاري أو أعمال العنف. مثل ما حدث من استغلال لأسر إندونيسية انضمت إلى تنظيم داعش وتجييش أطفال بأعمار مختلفة فيما يثير التعجب والدهشة في مدى أدلجتهم إلى الأمر الذي يعطي عائلة كاملة القناعة بالانتحار وقتل الآخرين.
مثل هذا الالتفات إلى منطقة جنوب شرقي آسيا لا يبدو من استراتيجيات تنظيم داعش الأولوية، وقد يعود ذلك إلى صعوبة التغلغل إلى دول مثل سنغافورة وماليزيا. تظل إندونيسيا من الدول الأكثر سهولة في التأثر، وحسب السلطات الإندونيسية فإن ما يزيد على 930 إندونيسياً قد توجه إلى جبهات القتال مع تنظيم داعش في كل من العراق وسوريا. ويصعب نسيان ما تعرضت له بالي في عام 2002 من تفجيرات أودت بحياة ما وصل إلى مئتي سائح. التفجيرات الأخيرة التي استهدفت كنائس في إندونيسيا تبعتها حملة دعائية قوية من قبل تنظيم داعش محملة بصور الهجمات من أجل حث المتطرفين فيها على القيام بالمزيد من الهجمات وذلك عبر منشورات بلغة البهاسا الإندونيسية «اقتلوا عابدي الأصنام أينما كانوا». الأمر الذي يؤكد انغماس تنظيم داعش في براغماتية مستفحلة، وأخذه منحًى متطرفاً في تحقيق أسرع وأعظم النتائج أينما كان الموقع الجغرافي، بغض النظر عن إن كانت منطقة جنوب شرقي آسيا ليست ضمن التخطيط الأولي لتنظيم داعش.

وجود «داعشي» في خراسان
من جهة أخرى يظهر انتقال تنظيم داعش إلى منطقة خراسان والتي تشمل كلاً من أفغانستان وباكستان وآسيا الوسطى منذ عام 2014، والتي يسعى فيها لمد نفوذه وإقامة خلافة في منطقة أخرى قد يسهل إرساء قواعده فيها نتيجة وعورة تضاريسها وضعف الأمن فيها، وذلك بعد أن استحال على التنظيم أن يقيم «الخلافة الداعشية» في كل من سوريا والعراق، وإن كان ذلك في معقل تنظيم القاعدة، بالأخص بعد انسحاب قوات حلف الشمال الأطلسي من أفغانستان. وكشف الرئيس الأفغاني أشرف غني أن عدد مسلحي تنظيم داعش في أفغانستان يصل إلى ألفي مسلح. فيما سعى التنظيم لإثبات وجوده ومدى قوته من خلال استهداف الأقليات مثل الشيعة إضافة إلى القوات الأفغانية سعياً في إبادتهم. إضافة إلى الاحتذاء باستراتيجية «القاعدة» في أفغانستان من حيث التحريض على مهاجمة القوات الأميركية الدخيلة على المنطقة والانتقام منهم نتيجة تهجمهم على الأفغان. ولا يظهر تخوف التنظيم من استحواذ حكومة «طالبان» على السلطة في أفغانستان، وإن ظهر العديد من المواجهات العنيفة بين الجهتين تكررت مراراً. وقد شن تنظيم داعش حملة إعلامية من أجل استقطاب مؤيدين والمزيد من المنضمين إليهم في منطقة خراسان. مثل التسجيل المرئي في مارس (آذار) 2018 بعنوان: «أرض الله الواسعة»، والذي وجه التنظيم من خلاله رسالة إلى مؤيديه للانضمام إليه في معاقله في أفغانستان سواء في شمالها في ولاية جوزجان وفي شرقها في ولاية ننغرهار، وقد ظهر في التسجيل المرئي مقاتلون داعشيون في جبال تورا بورا، أيْ معقل أسامة بن لادن وأتباعه، فيما شدد التسجيل على استنكار الوعيد الذي قام به الرئيس الأميركي تجاه التنظيم المتطرف. وعلى الرغم من مدى سيطرة حركة طالبان في منطقة أفغانستان فإن التسجيل المرئي أشار إلى مدى استبداد «طالبان» في فرضها الضرائب على الأفغان وتجارة الهيروين هناك، وذلك في سعي لتأليب المواطنين الأفغان على حكومة طالبان. كل ذلك لا يدل إلا على استمرارية وجود التنظيم في الساحة الدولية على الرغم من تضافر الجهود الدولية للتخلص منه عسكرياً واستخباراتياً. ويظل مأزق التغلغل الإلكتروني وتأليب المستضعفين اجتماعياً ونفسياً من أجل تحويلهم إلى أشخاص تدميريين لا يكترثون إن أدى حقدهم وغضبهم إلى انتحارهم وحصد أرواح الآخرين معهم.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
TT

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)

بين الحين والآخر، تتجدد فكرة «مراجعات الإخوان»، الجماعة التي تصنفها السلطات المصرية «إرهابية»، فتثير ضجيجاً على الساحة السياسية في مصر؛ لكن دون أي أثر يُذكر على الأرض. وقال خبراء في الحركات الأصولية، عن إثارة فكرة «المراجعة»، خصوصاً من شباب الجماعة خلال الفترة الماضية، إنها «تعكس حالة الحيرة لدى شباب (الإخوان) وشعورهم بالإحباط، وهي (فكرة غائبة) عن قيادات الجماعة، ومُجرد محاولات فردية لم تسفر عن نتائج».
ففكرة «مراجعات إخوان مصر» تُثار حولها تساؤلات عديدة، تتعلق بتوقيتات خروجها للمشهد السياسي، وملامحها حال البدء فيها... وهل الجماعة تفكر بجدية في هذا الأمر؟ وما هو رد الشارع المصري حال طرحها؟
خبراء الحركات الأصولية أكدوا أن «الجماعة ليست لديها نية للمراجعات». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «لم تعرف (الإخوان) عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى الأهداف»، لافتين إلى أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (محنة) للبقاء، وجميع قيادات الخارج مُستفيدين من الوضع الحالي للجماعة». في المقابل لا يزال شباب «الإخوان» يتوعدون بـ«مواصلة إطلاق الرسائل والمبادرات في محاولة لإنهاء مُعاناتهم».

مبادرات شبابية
مبادرات أو رسائل شباب «الإخوان»، مجرد محاولات فردية لـ«المراجعة أو المصالحة»، عبارة عن تسريبات، تتنوع بين مطالب الإفراج عنهم من السجون، ونقد تصرفات قيادات الخارج... المبادرات تعددت خلال الأشهر الماضية، وكان من بينها، مبادرة أو رسالة اعترف فيها الشباب «بشعورهم بالصدمة من تخلي قادة جماعتهم، وتركهم فريسة للمصاعب التي يواجهونها هم وأسرهم - على حد قولهم -، بسبب دفاعهم عن أفكار الجماعة، التي ثبت أنها بعيدة عن الواقع»... وقبلها رسالة أخرى من عناصر الجماعة، تردد أنها «خرجت من أحد السجون المصرية - بحسب من أطلقها -»، أُعلن فيها عن «رغبة هذه العناصر في مراجعة أفكارهم، التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة». وأعربوا عن «استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف، وعن الولاء للجماعة وقياداتها».
وعقب «تسريبات المراجعات»، كان رد الجماعة قاسياً ونهائياً على لسان بعض قيادات الخارج، من بينهم إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، الذي قال إن «الجماعة لم تطلب من هؤلاء الشباب الانضمام لصفوفها، ولم تزج بهم في السجون، ومن أراد أن يتبرأ (أي عبر المراجعات) فليفعل».
يشار إلى أنه كانت هناك محاولات لـ«المراجعات» عام 2017 بواسطة 5 من شباب الجماعة المنشقين، وما زال بعضهم داخل السجون، بسبب اتهامات تتعلق بـ«تورطهم في عمليات عنف».
من جهته، أكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «(المراجعات) أو (فضيلة المراجعات) فكرة غائبة في تاريخ (الإخوان)، وربما لم تعرف الجماعة عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى أهداف الجماعة ومشروعها»، مضيفاً: «وحتى الآن ما خرج من (مراجعات) لم تتجاوز ربما محاكمة السلوك السياسي للجماعة، أو السلوك الإداري أو التنظيمي؛ لكن لم تطل (المراجعات) حتى الآن جملة الأفكار الرئيسية للجماعة، ومقولتها الرئيسية، وأهدافها، وأدبياتها الأساسية، وإن كانت هناك محاولات من بعض شباب الجماعة للحديث عن هذه المقولات الرئيسية».

محاولات فردية
وقال أحمد بان إن «الحديث عن (مراجعة) كما يبدو، لم تنخرط فيها القيادات الكبيرة، فالجماعة ليس بها مُفكرون، أو عناصر قادرة على أن تمارس هذا الشكل من أشكال (المراجعة)، كما أن الجماعة لم تتفاعل مع أي محاولات بحثية بهذا الصدد، وعلى كثرة ما أنفقته من أموال، لم تخصص أموالاً للبحث في جملة أفكارها أو مشروعها، أو الانخراط في حالة من حالات (المراجعة)... وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقييم لـ(مراجعة) على غرار ما جرى في تجربة (الجماعة الإسلامية)»، مضيفاً أن «(مراجعة) بها الحجم، وبهذا الشكل، مرهونة بأكثر من عامل؛ منها تبني الدولة المصرية لها، وتبني قيادات الجماعة لها أيضاً»، لافتاً إلى أنه «ما لم تتبنَ قيادات مُهمة في الجماعة هذه (المراجعات)، لن تنجح في تسويقها لدى القواعد في الجماعة، خصوصاً أن دور السلطة أو القيادة في جماعة (الإخوان) مهم جداً... وبالتالي الدولة المصرية لو كانت جادة في التعاطي مع فكرة (المراجعة) باعتبارها إحدى وسائل مناهضة مشروع الجماعة السياسي، أو مشروع جماعات الإسلام السياسي، عليها أن تشجع مثل هذه المحاولات، وأن تهيئ لها ربما عوامل النجاح، سواء عبر التبني، أو على مستوى تجهيز قيادات من الأزهر، للتعاطي مع هذه المحاولات وتعميقها».
وأكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «الجماعة لم تصل لأي شيء في موضوع (المراجعات)، ولا توجد أي نية من جانبها لعمل أي (مراجعات)»، مضيفاً: «هناك محاولات فردية لـ(المراجعات) من بعض شباب الجماعة الناقم على القيادات، تتسرب من وقت لآخر، آخرها تلك التي تردد أنها خرجت من داخل أحد السجون جنوب القاهرة - على حد قوله -، ومن أطلقها صادر بحقهم أحكام بالسجن من 10 إلى 15 سنة، ولهم مواقف مضادة من الجماعة، ويريدون إجراء (مراجعات)، ولهم تحفظات على أداء الجماعة، خصوصاً في السنوات التي أعقبت عزل محمد مرسي عن السلطة عام 2013... وتطرقوا في انتقاداتهم للجوانب الفكرية للجماعة، لكن هذه المحاولات لم تكن في ثقل (مراجعات الجماعة الإسلامية)... وعملياً، كانت عبارة عن قناعات فردية، وليس فيها أي توجه بمشروع جدي».
وأكد زغلول، أن «هؤلاء الشباب فكروا في (المراجعات أو المصالحات)، وذلك لطول فترة سجنهم، وتخلي الجماعة عنهم، وانخداعهم في أفكار الجماعة»، مضيفاً: «بشكل عام ليست هناك نية من الجماعة لـ(المراجعات)، بسبب (من وجهة نظر القيادات) (عدم وجود بوادر من الدولة المصرية نحو ذلك، خصوصاً أن السلطات في مصر لا ترحب بفكرة المراجعات)، بالإضافة إلى أن الشعب المصري لن يوافق على أي (مراجعات)، خصوصاً بعد (مظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي) المحدودة؛ حيث شعرت قيادات الجماعة في الخارج، بثقل مواصلة المشوار، وعدم المصالحة».
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2015، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أن «المصالحة مع من مارسوا العنف (في إشارة ضمنية لجماعة الإخوان)، قرار الشعب المصري، وليس قراره شخصياً».
وأوضح زغلول في هذا الصدد، أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (أزمة أو محنة) لبقائها، وجميع القيادات مستفيدة من الوضع الحالي للجماعة، وتعيش في (رغد) بالخارج، وتتمتع بالدعم المالي على حساب أسر السجناء في مصر، وهو ما كشفت عنه تسريبات أخيرة، طالت قيادات هاربة بالخارج، متهمة بالتورط في فساد مالي».

جس نبض
وعن ظهور فكرة «المراجعات» على السطح من وقت لآخر من شباب الجماعة. أكد الخبير الأصولي أحمد بان، أن «إثارة فكرة (المراجعة) من آن لآخر، تعكس حالة الحيرة لدى الشباب، وشعورهم بالإحباط من هذا (المسار المغلق وفشل الجماعة)، وإحساسهم بالألم، نتيجة أعمارهم التي قدموها للجماعة، التي لم تصل بهم؛ إلا إلى مزيد من المعاناة»، موضحاً أن «(المراجعة أو المصالحة) فكرة طبيعية وإنسانية، وفكرة يقبلها العقل والنقل؛ لكن تخشاها قيادات (الإخوان)، لأنها سوف تفضح ضحالة عقولهم وقدراتهم ومستواهم، وستكشف الفكرة أمام قطاعات أوسع».
برلمانياً، قال النائب أحمد سعد، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، إن «الحديث عن تصالح مع (الإخوان) يُطلق من حين لآخر؛ لكن دون أثر على الأرض، لأنه لا تصالح مع كل من خرج عن القانون، وتورط في أعمال إرهابية - على حد قوله -».
وحال وجود «مراجعات» فما هي بنودها؟ أكد زغلول: «ستكون عبارة عن (مراجعات) سياسية، و(مراجعة) للأفكار، ففي (المراجعات) السياسية أول خطوة هي الاعتراف بالنظام المصري الحالي، والاعتراف بالخلط بين الدعوة والسياسة، والاعتراف بعمل أزمات خلال فترة حكم محمد مرسي... أما الجانب الفكري، فيكون بالاعتراف بأن الجماعة لديها أفكار عنف وتكفير، وأنه من خلال هذه الأفكار، تم اختراق التنظيم... وعلى الجماعة أن تعلن أنها سوف تبتعد عن هذه الأفكار».
وعن فكرة قبول «المراجعات» من قبل المصريين، قال أحمد بان: «أعتقد أنه يجب أن نفصل بين من تورط في ارتكاب جريمة من الجماعة، ومن لم يتورط في جريمة، وكان ربما جزءاً فقط من الجماعة أو مؤمناً فكرياً بها، فيجب الفصل بين مستويات العضوية، ومستويات الانخراط في العنف».
بينما أوضح زغلول: «قد يقبل الشعب المصري حال تهيئة الرأي العام لذلك، وأمامنا تجربة (الجماعة الإسلامية)، التي استمرت في عنفها ما يقرب من 20 عاماً، وتسببت في قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، وتم عمل (مراجعات) لها، وبالمقارنة مع (الإخوان)، فعنفها لم يتعدَ 6 سنوات منذ عام 2013. لكن (المراجعات) مشروطة بتهيئة الرأي العام المصري لذلك، وحينها سيكون قبولها أيسر».
يُشار إلى أنه في نهاية السبعينات، وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي، اُتهمت «الجماعة الإسلامية» بالتورط في عمليات إرهابية، واستهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة والأقباط والأجانب. وقال مراقبون إن «(مجلس شورى الجماعة) أعلن منتصف يوليو (تموز) عام 1997 إطلاق ما سمى بمبادرة (وقف العنف أو مراجعات تصحيح المفاهيم)، التي أسفرت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وقتها، على إعلان الجماعة (نبذ العنف)... في المقابل تم الإفراج عن معظم المسجونين من كوادر وأعضاء (الجماعة الإسلامية)».
وذكر زغلول، أنه «من خلال التسريبات خلال الفترة الماضية، ألمحت بعض قيادات بـ(الإخوان) أنه ليس هناك مانع من قبل النظام المصري - على حد قولهم، في عمل (مراجعات)، بشرط اعتراف (الإخوان) بالنظام المصري الحالي، وحل الجماعة نهائياً».
لكن النائب سعد قال: «لا مجال لأي مصالحة مع (مرتكبي جرائم عنف ضد الدولة المصرية ومؤسساتها) - على حد قوله -، ولن يرضى الشعب بمصالحة مع الجماعة».