«داعش» واستغلال البريق الدعائي

«ولايات» إرهابية متناثرة يتم التحكم فيها عن بُعد

آثار طلقات الرصاص على زجاج مقهى في باريس عقب هجوم الأسبوع الماضي (أ.ف.ب)
آثار طلقات الرصاص على زجاج مقهى في باريس عقب هجوم الأسبوع الماضي (أ.ف.ب)
TT

«داعش» واستغلال البريق الدعائي

آثار طلقات الرصاص على زجاج مقهى في باريس عقب هجوم الأسبوع الماضي (أ.ف.ب)
آثار طلقات الرصاص على زجاج مقهى في باريس عقب هجوم الأسبوع الماضي (أ.ف.ب)

كل الحيثيات التي تحاك حول تنظيم داعش لا تعكس إلا مدى براغماتيته، واستغلاله لكل ما حوله من أجل إثبات استمرارية وجوده ومدى قوته، وإن أثبت ذلك مدى تناقض توجهاته الأخيرة مع الرسالة المحورية أو الأهداف الرئيسة التي بُني عليها التنظيم. إذ إن تكثيف الهجمات الإرهابية في دول أخرى بعيداً عن مناطق الصراع التي بات استهداف التنظيم فيها علنياً من قبل القوات الدولية، والانتقال إلى ما سمّاه التنظيم «ولايات» تتضمن ولاية خراسان التي تشمل أفغانستان والمناطق الحدودية في باكستان وآسيا الوسطى، إضافة إلى مناطق أخرى مثل ولاية سيناء وليبيا والقوقاز والجزائر، يعد هدفاً من أجل الابتعاد عن المركزية والمخطط الأوّلي لتأسيس ما يسمى دولة الخلافة، ومحاولة لتعويض الخسائر التي تكبّدها تنظيم داعش، لا سيما من خلال استهداف دول تحوي أقليات ممن يشتكون من تهميشهم واختلافهم عن بقية المجتمع، الأمر الذي يؤدي إلى سهولة تجييشهم وحثهم على الانضمام للتنظيم، والاستفادة من تسترهم خلف جنسياتهم الأوروبية كما يحدث في الآونة الأخيرة في كل من فرنسا وبريطانيا ودول أخرى. الأمر الذي يظل كما هو دون تغيير هو تحوُّل تنظيم داعش الجديد من خلافته الواقعية في سوريا والعراق إلى ما سماه التنظيم «ولايات» متناثرة يتم التحكم فيها عن بُعد.

استمرارية «المد الداعشي»
يظل الأمر الأدهى والأصعب في معالجته من قبل المجتمع الدولي هو محاولة إيقاف المد الداعشي ومدى تأثيرهم على الآخرين من خلال استحواذهم على العالم الإلكتروني واستمرارهم في بث رسائلهم ليس فقط المشفَّرة منها وإنما كذلك عبر برامج مثل «يوتيوب» و«تويتر» وكذلك موقع «غوغل»، حيث لا يزال أعضاء التنظيم يتواصلون مع الآخرين ويسهمون في استقطاب الذئاب المنفردة أو الجماعات الإرهابية في المناطق التي يسهل التغلغل فيها مما ينعدم فيها الأمن أو يضعف. ويبقى الهم الإرهابي الأعمق هو كيفية إثارة الرأي العام وتخويف الآخرين سواء عبر حملات تهديدية مثل ما يحدث مؤخراً من تهديد للاعبي كرة القدم مثل الصور الدموية التي انتشرت في المواقع الإلكترونية والتي يظهر فيها كل من اللاعبين ميسي ورونالدو، أو حتى تهديد تنظيم داعش لمقر كأس العالم القادم في روسيا واختصارهم لتهديداتهم بمقولتهم المتداولة في الآونة الأخيرة: «نحن في روسيا». وصورة الاستاد الرياضي «لوجنيكي» في روسيا مع عبارة: «ستمتلئ الأرض بدمائكم». مثل هذه الحملات الدعائية التي بات التنظيم الداعشي ينثرها في أرجاء العالم السيبراني ليست فحسب بدافع إثارة الرعب وإنما استغلال عامل الإثارة والتشويق من أجل دفع من تمده مثل هذه الرسائل الإعلامية المتطرفة للانضمام إليهم والقيام بهجمات إرهابية وإن كانت من خلال ذئاب منفردة أو عبر الحصول على دعم معنوي أو لوجيستي عن بُعد، وهو ما يرتكز عليه التنظيم في الآونة الأخيرة من استعراض مسرحي يبحث عن المتهافتين عليه.
وتستمر هذه الحملات في الازدهار على الرغم من تضافر الجهود الدولية من أجل التخلص منها، على سبيل المثال جهدت السلطات البريطانية في هجماتها على وكالة «الأعماق» الداعشية، إضافة إلى اكتشافها أماكن وجود بعض المتطرفين من خلال أنشطتهم الإلكترونية مثل ما حدث في كل من بلغاريا وفرنسا ورومانيا. وفي الوقت ذاته يظهر استغلال المناسبات الدينية مثل شهر رمضان الذي يشن فيه تنظيم داعش حملات مكثفة من أجل تحريض الآخرين على القيام بهجمات إرهابية، وإن كانت عشوائية دون تقنين مثل التحريض على طعن الآخرين في أماكن اكتظاظ الناس، بما انحرف عن المسار التقليدي للتنظيمات الإرهابية ليستحيل بشكلٍ أو بآخر إلى ما هو أشبه بعصابات إجرامية بفروع متناثرة.

استغلال توقيت رمضان
ويأتي توقيت الهجمات التي تكثفت مؤخراً متزامناً مع شهر رمضان، كعادة التنظيم في تركيزه على الهجمات في هذا التوقيت واستغلاله له من أجل تجييش مشاعر المتعاطفين معهم من التخريبيين ممن يؤمنون بزيادة مكاسبهم الدينية في حال قتلهم «الكفار» في مثل هذا التوقيت، وتأليب الآخرين وحثهم على اقتراف المزيد من الهجمات الإرهابية. من جهة أخرى يظهر سعي تنظيم داعش لإثبات وجودهم في القارة الأوروبية، من خلال الهجمات التي تم اقترافها عبر «الذئاب المنفردة» أو الخلايا الصغيرة، ويتجلى ذلك من خلال حادثة الطعن في باريس مؤخراً، والتي ارتكبها الفرنسي من أصل شيشاني حمزة عظيموف فأسفر عن قتل شخص وإصابة أربعة آخرين، الأمر الذي يجسد زيادة نشاط التنظيم في القارة الأوروبية. وقد كشفت السلطات الفرنسية عن 416 متبرعاً شاركوا في تمويل تنظيم داعش من خلال مبالغ زهيدة تظهر أشبه بتبرعات خيرية وإن كانت بغرض تمويل التنظيم الإرهابي. الأمر الذي يثبت استمرارية وجود أرض خصبة متقبلة للتطرف في أماكن عديدة من العالم.

توجه عشوائي نحو قارّة آسيا
لم يكن من قبل هناك أي دلائل تشير إلى توجه تنظيم داعش إلى توسعة نطاق دائرته إلى منطقة جنوب شرقي آسيا. إلا أنه مؤخراً يمعن في استغلال المناطق التي تتسع لتلقِّي التنظير وأدلجة تنظيم داعش مثل ما حدث مؤخراً في إندونيسيا التي يصعب التحكم بالأعداد المفاجئة من المتطرفين فيها مؤخراً، بالأخص وأن ذلك لم يقتصر على شبان أو رجال شرسين، وإنما تضمن أسراً انتحارية بأكملها. فما حدث في سورابايا من هجمات انتحارية استهدفت عدة كنائس بالإضافة إلى مركز شرطة شنتها عدة أسر تضمنت أطفالاً تتراوح أعمارهم ما بين التاسعة والثامنة عشرة. إحدى هذه الأسر مكونة من 5 أشخاص نفّذت هجوماً انتحارياً في سورابايا على مركز للشرطة، وقد قام رب الأسرة ديتا أوبريارتو وهو زعيم في إندونيسيا لجماعة أنصار الدولة، بإنزال زوجته وابنتيه في عمر 9 و12 عاماً، قرب كنيسة لتفجرن أنفسهن بأحزمة ناسفة. الأمر الذي يعكس استغلال التنظيم أي شخص حي يمكنهم الاستفادة منه، بما في ذلك أطفال ونساء كتوجُّه جديد، قد لا يدل إلا على مبلغ إفلاس التنظيم وبحثه عن أي شخص يمكنه القيام بالهجوم الانتحاري أو أعمال العنف. مثل ما حدث من استغلال لأسر إندونيسية انضمت إلى تنظيم داعش وتجييش أطفال بأعمار مختلفة فيما يثير التعجب والدهشة في مدى أدلجتهم إلى الأمر الذي يعطي عائلة كاملة القناعة بالانتحار وقتل الآخرين.
مثل هذا الالتفات إلى منطقة جنوب شرقي آسيا لا يبدو من استراتيجيات تنظيم داعش الأولوية، وقد يعود ذلك إلى صعوبة التغلغل إلى دول مثل سنغافورة وماليزيا. تظل إندونيسيا من الدول الأكثر سهولة في التأثر، وحسب السلطات الإندونيسية فإن ما يزيد على 930 إندونيسياً قد توجه إلى جبهات القتال مع تنظيم داعش في كل من العراق وسوريا. ويصعب نسيان ما تعرضت له بالي في عام 2002 من تفجيرات أودت بحياة ما وصل إلى مئتي سائح. التفجيرات الأخيرة التي استهدفت كنائس في إندونيسيا تبعتها حملة دعائية قوية من قبل تنظيم داعش محملة بصور الهجمات من أجل حث المتطرفين فيها على القيام بالمزيد من الهجمات وذلك عبر منشورات بلغة البهاسا الإندونيسية «اقتلوا عابدي الأصنام أينما كانوا». الأمر الذي يؤكد انغماس تنظيم داعش في براغماتية مستفحلة، وأخذه منحًى متطرفاً في تحقيق أسرع وأعظم النتائج أينما كان الموقع الجغرافي، بغض النظر عن إن كانت منطقة جنوب شرقي آسيا ليست ضمن التخطيط الأولي لتنظيم داعش.

وجود «داعشي» في خراسان
من جهة أخرى يظهر انتقال تنظيم داعش إلى منطقة خراسان والتي تشمل كلاً من أفغانستان وباكستان وآسيا الوسطى منذ عام 2014، والتي يسعى فيها لمد نفوذه وإقامة خلافة في منطقة أخرى قد يسهل إرساء قواعده فيها نتيجة وعورة تضاريسها وضعف الأمن فيها، وذلك بعد أن استحال على التنظيم أن يقيم «الخلافة الداعشية» في كل من سوريا والعراق، وإن كان ذلك في معقل تنظيم القاعدة، بالأخص بعد انسحاب قوات حلف الشمال الأطلسي من أفغانستان. وكشف الرئيس الأفغاني أشرف غني أن عدد مسلحي تنظيم داعش في أفغانستان يصل إلى ألفي مسلح. فيما سعى التنظيم لإثبات وجوده ومدى قوته من خلال استهداف الأقليات مثل الشيعة إضافة إلى القوات الأفغانية سعياً في إبادتهم. إضافة إلى الاحتذاء باستراتيجية «القاعدة» في أفغانستان من حيث التحريض على مهاجمة القوات الأميركية الدخيلة على المنطقة والانتقام منهم نتيجة تهجمهم على الأفغان. ولا يظهر تخوف التنظيم من استحواذ حكومة «طالبان» على السلطة في أفغانستان، وإن ظهر العديد من المواجهات العنيفة بين الجهتين تكررت مراراً. وقد شن تنظيم داعش حملة إعلامية من أجل استقطاب مؤيدين والمزيد من المنضمين إليهم في منطقة خراسان. مثل التسجيل المرئي في مارس (آذار) 2018 بعنوان: «أرض الله الواسعة»، والذي وجه التنظيم من خلاله رسالة إلى مؤيديه للانضمام إليه في معاقله في أفغانستان سواء في شمالها في ولاية جوزجان وفي شرقها في ولاية ننغرهار، وقد ظهر في التسجيل المرئي مقاتلون داعشيون في جبال تورا بورا، أيْ معقل أسامة بن لادن وأتباعه، فيما شدد التسجيل على استنكار الوعيد الذي قام به الرئيس الأميركي تجاه التنظيم المتطرف. وعلى الرغم من مدى سيطرة حركة طالبان في منطقة أفغانستان فإن التسجيل المرئي أشار إلى مدى استبداد «طالبان» في فرضها الضرائب على الأفغان وتجارة الهيروين هناك، وذلك في سعي لتأليب المواطنين الأفغان على حكومة طالبان. كل ذلك لا يدل إلا على استمرارية وجود التنظيم في الساحة الدولية على الرغم من تضافر الجهود الدولية للتخلص منه عسكرياً واستخباراتياً. ويظل مأزق التغلغل الإلكتروني وتأليب المستضعفين اجتماعياً ونفسياً من أجل تحويلهم إلى أشخاص تدميريين لا يكترثون إن أدى حقدهم وغضبهم إلى انتحارهم وحصد أرواح الآخرين معهم.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».