«بيت السودان»... من احتلال الكويت إلى ما بعد سقوط صدام

رواية خامسة للعراقي محمد حياوي

«بيت السودان»... من احتلال الكويت إلى ما بعد سقوط صدام
TT

«بيت السودان»... من احتلال الكويت إلى ما بعد سقوط صدام

«بيت السودان»... من احتلال الكويت إلى ما بعد سقوط صدام

صدرت عن «دار الآداب» ببيروت رواية «بيت السودان» للقاص والروائي العراقي محمد حيّاوي، وهي روايته الخامسة في رصيده السردي. وقد قُوبِلت هذه الرواية باهتمام النقّاد والقرّاء على حدٍّ سواء ولعل السبب الرئيس يعود إلى الشكل الفني لا المضمون، على الرغم من أهمية هذا الأخير، فالفن الروائي مثله مثل الفن التشكيلي الذي يراهن على الأشكال ولا يعوّل كثيراً على المضامين ذلك لأنّ الأفكار مُلقاة فعلاً على الأرصفة، وهي مُتاحة للجميع، وبإمكان أي كاتبٍ مغمور أو مشهور أن يلتقطها ويبني عليها متنه السردي المُرتَقَب.
يمتلك محمد حيّاوي مخيّلة مُجنّحة تأخذ القارئ إلى المضارب الفنتازية المُدهشة مُعتمِداً في ذلك على لغته العذبة التي تخلو من الأخطاء، وعلى أسلوبه السلس الذي يأسر القارئ منذ مُفتتح النص حتى منتهاه. يعرف الذين تمثّلوا قصص حيّاوي ورواياته السابقة أنه يكتب عن التفاصيل الصغيرة التي تفضي إلى كشف المكان، وتعرية عناصره ومكوِّناته الأساسية بعدسة شيئية لا يفلت من دقّتها أي جُسيم مهما كان صغيراً. فـ«بيت السودان» هي رواية مكانية بامتياز يتسيّد فيها الخسف، والبيت، والمقبرة، والبستان، وزقورة أور، كمعطيات أساسية للفضاء الروائي الذي يتسع شيئاً فشيئاً ليمتد إلى بغداد، والبصرة. ما يميّز هذه الرواية تقنياً هي بنيتها الدائرية، حيث تبدأ القصة من نهايتها ثم تروي ما سبقها من وقائع وأحداث لتعود إلى نقطة انطلاقها من جديد. وهذه البنية ليست جديدة لكنها أنقذت النص الروائي من طرائق السرد الخطّيّة المتعارف عليها ولعبت على ثنائية الاستباق والاسترجاع التي خلّصت هي الأخرى النسق السردي من رتابته الإخبارية وجعلته يحلِّق بين الحقيقة والحُلُم بطريقة عفوية لا أثرَ فيها للصنعة والافتعال.
تتمحور الرواية على بنيتين؛ ذاتية وموضوعية، حيث تركِّز الأولى على «بيت السودان» وهو توصيف يُطلقه العراقيون على ذوي البشرة السوداء الذين وفدوا إلى بغداد حينما كانت عاصمة للخلافة الإسلامية، واندمجوا في نسيج المجتمع العراقي. أما البنية الموضوعية فهي تقوم على اجتياح الكويت، والانتفاضة الشعبية، والحصار الاقتصادي، والاحتلال الأميركي للعراق، وسقوط صدام، وتغوّل القوى الإسلامية، والانهيار المخيف لبنية المجتمع العراقي.
تصلح «بيت السودان» لأن تكون أنموذجاً لرواية شخصيات وثيمات في آنٍ معاً، فالقارئ العضوي يجد ضالتهُ في شخصيات إشكالية تبدأ بالمثلث الذي يتكوّن من علي وياقوت وعفاف ويمتدّ إلى شخصيات مؤازرة لا تقل أهمية عن سابقاتها مثل ضُمد، والدكتور رياض، وسيد مُحسن، وتقيّة، ونانسي الأميركية وسواها من الشخصيات الفاعلة التي ظهرت في المتن السردي وتوارت بعد أن أدّت الأدوار المُسندة إليها.
تعتمد البنية الذاتية على وجود «علي» ذي البشرة البيضاء في بيت السودان المؤلف من 7 نساء سوداوات حفّزنه على التساؤل منذ الصغر: ماذا يفعل هذا الطفل الأبيض في بيت السودان؟ وهل أن «عجيبة» هي جدته الحقيقية، و«ياقوت» هي أمه البيولوجية فعلاً؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا وقع في حبّها، بل أصبح معطوباً من دونها ولا يستطيع التفاعل مع امرأة أخرى بما في ذلك «عفاف» ابنة زيدان الحوذي، الشابة اليسارية البيضاء التي درست القانون في جامعة بغداد، وأصبحت ناشطة سياسية لها دور واضح في الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في الناصرية غِبّ هزيمة الجيش العراقي وانسحابه من الأراضي الكويتية عام 1991؟ لا تمكن قراءة هذه الرواية بمعزل عن الصراعات الداخلية المحتدمة للشخصيات الثلاث، ويكفي أن نشير إلى لوعة «علي» وهو يصوّر طبيعة العلاقة التي تربطه بياقوت، قائلاً: «فهي أمّي وليست أمّي، وحبيبتي وليست حبيبتي، ومُلهمتي الغامضة وحارستي الأمينة وأسيرتي الملهوفة التي تأسرني بدورها... فلا هي تفكّ أسري، ولا هي تُطفئ ناري، ولا هي تسمح بإطفاء تلك النار التي باتت تأكل أحشائي وتمزقِّني من الداخل». يتفاقم صراع «علي» حينما يحبّ «عفاف» لكنه لم يجد غضاضة في الاعتراف بأنه معطوب من دون «ياقوت» التي تحب الرقص والغناء والموسيقى، ولعل بيت السودان برمته قد كرّس نفسه لهذه الجوانب الفنية التي تسرّي هموم الفقراء والكادحين الذين يفرّغون نهاراتهم الساخنة في الليالي الباردة. لا بد من الوقوف عند المعطى الثقافي لشخصية «علي» الذي درس اللغة الإنجليزية في جامعة بغداد وانفتح على آدابها وصار يفكِّر بطريقة مختلفة عن أقرانه الآخرين، لكن ذلك لم يمنعه من الارتباط بواحدة من فتيات بيت السودان أو الإعجاب بهن في الأقل كما فعل مع «تقيّة» التي أحبّته لكن ياقوت منعتها فأقدمت على الانتحار وماتت غرقاً، وأخذت تتجلى له على هيأة غزالة حزينة العينين في أماكن شتى من النص السردي.
ترصد الرواية الانتفاضة الشعبية فتضطر ياقوت إلى أن ترسل «علي» إلى زقورة أور التاريخية فنتعرف من خلاله على شخصية «ضُمد» الغرائبية الذي يدعي بأن الرُقُم الطينية تُنبئهُ بكل شيء بما في ذلك «عاصفة الصحراء» حيث يُخبره أحد الرُقُم بالنبوءة الآتية: «يا بوم العاصفة عُدْ إلى صحرائك»! أما عفاف التي اشتركت في الانتفاضة، وساهمت في إخلاء سبيل السجناء، وتشويه جدارية الرئيس بالصبغ الأسود فقد تمّ اعتقالها وترحيلها إلى سجن البصرة، حيث تتعرض للتحرّش والتعذيب على يد النقيب سلمان، الشخصية الجبانة، الناقصة، التي تتعاون مع المحتل.
يحاول محمد حيّاوي في هذه الرواية أن يلامس انهيار منظومة القيم الأخلاقية في المجتمع العراقي من خلال سيد محسن الذي كان مواظباً على زيارة بيت السودان، وتناول المشروبات الروحية، واندماجه مع الشخصيات الأخرى التي ترتاد هذا البيت الذي يوفّر لزبائنه متعة الرقص والغناء فقط، لكن سوف يتبيّن لاحقاً أن هذا السيد الشبق الذي كان يروم الزواج من «نعيم»، إحدى فتيات بيت السودان، كان يرشد أزلام النظام إلى الثوار والمنتفضين الذين طردوه من إحدى الحفلات الغنائية الراقصة، الأمر الذي دفعه في وقت لاحق إلى الهجوم على المنزل الذي احترق وتقوّض على منْ فيه. وعندها نفهم أن «ياقوت» هي التي ساعدت «علي» لاعتلاء السياج والقفز على أكداس الحطب حيث تلقّفه رجال السيد محسن وأوسعوه ضرباً حتى أُغمي عليه وحينما أفاق في صباح اليوم التالي خرج لنا بحكاية «فندق الهناء» في البصرة ومداهمة الشرطة لغرفته.
تنتهي الرواية نهاية مدروسة حينما يتأكد «علي» أن ياقوت قد ماتت، وأن جدته قد رحلت هي الأخرى، وأن الفتيات قد احترقن جميعاً حينما يدهمه طيف عابر ويهمس في أذنه بنبرة حنون: «اذهب مع عفاف يا حبيبي. لا تَخَف». ثمة حكايات جانبية تُنوع إيقاع السرد مثل حكاية الدكتور رياض مع الراقصة المصرية مُنيرة، وقصة «نانسي» المجندة الأميركية التي وقعت في الأسر ثم أُعيدت إلى القاعدة الجوية في الناصرية. وسواها من القصص المؤازرة للثيمة الرئيسة.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».