قراءة في تجديد الخطاب الديني وتفكيك الخطاب الأصولي

حتى لا تتكرر ظاهرة «داعش»

عناصر من «داعش» في الرقة قبل هزيمة التنظيم الإرهابي (أ.ف.ب)
عناصر من «داعش» في الرقة قبل هزيمة التنظيم الإرهابي (أ.ف.ب)
TT

قراءة في تجديد الخطاب الديني وتفكيك الخطاب الأصولي

عناصر من «داعش» في الرقة قبل هزيمة التنظيم الإرهابي (أ.ف.ب)
عناصر من «داعش» في الرقة قبل هزيمة التنظيم الإرهابي (أ.ف.ب)

مع الاندحار والهزائم اللوجيستية التي تعرض لها «داعش» في العراق وسوريا، بدا التنظيم كأنه إلى زوال مرة أخيرة وإلى الأبد، غير أن الحقيقة تخبرنا بأن المشهد على هذا النحو لا يتجاوز أمنية عقلية، ذلك أن «داعش»، ومن قبله «القاعدة»، كان ولا يزال فكرة، أي أن حاضنته الأساسية هي الأفكار، والروئ والكلمات، والسياقات الذهنية، والخطابات الدينية.
المعروف أن للأفكار أجنحة تطير بها، كما أنها لا تموت، ولهذا فإن إعلان الحرب على الإرهاب عبر الوسائل المسلحة، وبالقوة الخشنة فقط، أمر يشبه «هش الذباب بالمطرقة»، ولهذا يبقى السؤال عن أكثر الطرق فاعلية لمواجهة الخطاب الأصولي، وهل هناك على الأرض ما يجب السعي في طريقه قبل المواجهات الأمنية؟
الشاهد أن التطرف مرض فكري، والمتطرف مريض، مصاب بحالة من الغلوّ، تسربت إلى نفسه عبر وسائل عديدة منها ما هو ديني ومنها ما هو إعلامي، فيها العنصر الثقافي وفيها الجانبان الاجتماعي والاقتصادي دفعة واحدة. ولهذا يبقى القضاء على الإرهاب، وبالضرورة، في حاجة إلى صراع العقول والألسنة، وعبر تغيير الأنماط الذهنية التي سادت عالمنا العربي والإسلامي من جهة، وبقية العوالم والعواصم الغربية من جهة ثانية، سيما وأن هناك معطيات فكرية دينية غير إسلامية عرفت طريقها إلى أوروبا وأميركا، أفرزت أصوليات يمينية خطرها لا يقل عن خطر الجماعات والمنظمات التي وُلدت ونشأت في الشرق الأوسط، وفي أجواء إسلامية الهوية والهوى.
في قراءة أخيرة للخبير الكندي «أيلوي غان» نشرتها مجلة «ميلتري جورنال» الكندية، هناك حديث عن الخطاب الديني الأصولي الذي يأخذ وقتاً طويلاً، وفي غفلة من القائمين على الأمر، حكومةً أو مجتمعاً مدنياً، قبل أن يؤثر على الأفراد أو المجموعات كي يجذبهم إلى التطرف، والفرد المتطرف، حسب باحثي العلوم الإنسانية «هو الفرد الذي يستخدم الدين لإبعاد نفسه عن المجتمع، أو لاستبعاد الآخرين».
تبدأ مسيرة التطرف من عند الخطاب الديني الذي يدخل من الآذان ليبلغ القلب. وقبل بضعة عقود لم تكن هناك من وسيلة سوى المنابر التقليدية، سواء تمثلت في الهيئات والمؤسسات التعليمية أو المساجد، والقليل جداً من المطبوعات، حيث كانت الرقابة قادرة على فرض سيطرتها على المثلث المتقدم.
غير أن التحدي والتصدي للتطرف في زمن العولمة بات قضية صعبة، سيما مع انفجار وسائط التواصل الاجتماعي، تلك التي وصفناها غير مرة بأنها قادرة على أن تضع صيفاً أو شتاء.

«الأصولية» صناعة شبة يسيرة
باتت صناعة الأصولية في حاضرات أيامنا عملية شبة يسيرة، إذ سهّلت «الإنترنت» والفضائيات صعوبات التواصل الجغرافي، فأصبح من يمتلك موقعاً على الشبكة العنكبوتية، أو موضعاً أمام كاميرا في أقصى الأرض، قادراً وفاعلاً، بل ومؤثراً سلبياً أو إيجابياً على جماهير تبعد عنه آلاف الكيلومترات، وبهذا استطاع الخطاب الأصولي الجهادي العنيف اختراق والتحايل على أشكال المواجهة التقليدية، ما يدعو إلى التفكير الهادئ والمعمق في طرق وآليات جديدة لمكافحة طاعون القرن الحادي العشرين، أي العنف الفكري والأصولية الذهنية، التي تُنتج للعالم أبناء الإرهاب غير الشرعيين.
تشخيص ظاهرة التطرف والأصولية في حقيقة الحال يحتاج إلى كتب قائمة بذاتها، وكذا أنواع وأساليب العلاج والمواجهة. غير أن نقاطاً بعينها يمكن أن تساعدنا في الطريق، وفي المقدمة منها قضية تجديد الخطاب الديني، والتي كثر الحديث عنها في شرقنا الأوسط خلال العقدين الماضيين، وبنوع خاص منذ الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) من عام 2001 وبعد ما أطلق عليه «القاعدة»، «غزوتي واشنطن ونيويورك».
وللرد على الجماعات المتطرفة بدايةً، نشير إلى أن التجديد الذي نتحدث عنه لا يقترب من ثوابت الدين، سيما القسم الثابت من الأحكام الشرعية، التي لا تتغير ولا تتبدل، بينما المراد هو القسم الثاني المتغير الذي يبني على حسب تغير الزمان والمكان والشخص والحادثة، وهذا النوع من الأحكام المرجع فيه إلى الفقهاء في كل عصر ومصر، يجتهدون في اختيار ما يناسب حال الناس وظروفهم، وبيئتهم، مثلما فعل الإمام الشافعي عندما غيّر مذهبه القديم بالعراق إلى الجديد بمصر، بسبب تغيُّر أعراف الناس وعوائدهم، ولهذا يقول الشاعر: «والعرف في الشرع له اعتبار، لذا عليه الحكم قد يُدار».
على أن اللبنة الأولى في تقدير الكثيرين من علماء الاجتماع والنفس، عطفاً على الخبراء الأمنيين في ما خص مراجعة الخطاب الأصولي، تتصل بمؤسسات التنشئة وما يمكن أن نطلق عليه عملية «الضبط الاجتماعي»، فقد ولَّد الانفجار العشوائي للعملية التلقينية أجيالاً تراجعت كثيراً جداً عن إعمال العقل في النقل، وتوقفت عند تفسير النصوص منذ أزمنة غابرة، دون مواءمة أو ملاءمة للتنزيل مع الأزمنة المعاصرة.
الخطوة الأولى لإعادة الاعتبار لعملية المواجهة للخطاب الأصولي المتجمد تبدأ من عند النظام التعليمي؛ من دور الحضانة، وما يُعرف بـ«الكتاتيب»، ثم المدارس والجامعات، مروراً بالأندية والنقابات والتجمعات المهنية والجمعيات الأهلية.
والشاهد أن الرؤى الدينية تبقى شرقاً وغرباً المشكل الرئيس للقاعدة الثقافية، وعليه فإن أي خلل في تقديم تلك المنظومة حكماً سيصيب القيم المشتقة من الروحانيات الإيمانية ومن الفهم الواسع المرن للأديان في مقتل، ما يُنتِج لنا لاحقاً روايات يعتنقها البعض تنظر إلى المجتمعات المعاصرة على كونها فاسدة ومخترَقة من قبل تيارات تحمل عداءً تقليدياً للإسلام والمسلمين، بما في الأمر من هواجس وتزيد، وإن كانت هناك بالفعل صراعات ثقافية وفكرية طبيعية تدخل في باب «التدافع» الإنسان الطبيعي.
والثابت كذلك أن اختلال العملية التعليمية الدينية يقود إلى خطاب ديني قلق ومضطرب الملامح والمعالم، وبنوع خاص تجاه التراث الثقافي المتدفق من الماضي وقيمه، فبينما ينظر المجددون إلى أن الماضي لا ينبغي بالضرورة أن يكون كله نافعاً أو ضاراً، أيْ رفض حالة الأحادية الفكرية في الاختيار، تنزع التيارات الأصولية إلى تقديس الموروث دون مقدرة حقيقية على مساءلة الأيقونات، أو قدرة على الفرز والتمييز بين ما هو قديم يصلح لأن يكون عصرانياً، وجديد تمتد جذوره إلى ما هو خارج الأطر الثقافية المحلية والإقليمية ولا يخدم طرحاً إنسانياً أو تعايشاً إيجابياً، بل يولّد فتناً ويقود إلى كوارث مجتمعية.
يمكن القطع هنا بأن الأديان هي الركيزة الأولى لعناصر الهوية والثقافة المجتمعية، ومن هنا تتجلى أهمية أن يكون الخطاب الديني عاملاً فاعلاً في تماسك المجتمع واستقراره. وبناءً عليه فإنه لا مناص من أن تضطلع مؤسسات الضبط الاجتماعي والتي تبدأ من عند الأسرة ومنظومة التعليم وكذا منظومة الإعلام والثقافة بقضية إعادة ضبط هذا الخطاب.
في هذا الإطار الساعي لمحاربة الخطاب الأصولي، يحق لنا أن نتساءل عن الدور الخطير للمعلم، والواعظ، والإعلامي، المؤدلج بالآيديولوجيا الأصولية على اختلاف هوياتها، وعن حتمية التحقق من هويته الفكرية والحركية، وعلاقته بالمجاميع البشرية، تلاميذ وطلاباً ومريدين ومتابعين وراء الشاشات، فجميع هؤلاء يتلقون شفاهة ما يرسخ في عقولهم ولا يبرح أو يغادر أذهانهم إلى نهاية العمر، سيما أنه ليس لهم دالة من قريب أو بعيد على القراءة الواعية الناقدة، والقادرة على تخليص الثمين من الغث.
كارثة العقدين أو العقود الثلاثة الماضية لم تكن متصلة بكتاب أو موسوعة، حتى وإن كان ينتمي إلى الفكر المتشدد والمتعصب، وإنما وضحت من خلال قيادات تعليمية وإعلامية مخترَقة بالأصوليات القاتلة، وبأصوات إعلامية درجت على تقديم السم في العسل كما يقال، ما خرّج أجيالاً لا تعرف غير الاتِّباع ولا تجيد فنون الإبداع، وجماعات شعبوية بالملايين تمضي وراء «دعاة» يجيدون فنون «التجييش والحشد»، التي تجري عبر وسائل الإعلام المتلفزة، والتي يتعاملون معها بعواطفهم لا بعقولهم.
على أن هناك قضية موصولة بنوع خاص بما يمكن أن نطلق عليه «فقه النوازل أو المستجدات» تلك المتصلة بالخطاب الأصولي الواصل إلى الناس عبر وسائط التواصل الاجتماعي، تلك التي عرف «داعش» بنوع خاص تسخيرها لخدمة عملياته الإرهابية حول العالم. وعليه تبقى علامة الاستفهام الحصرية: كيف الطريق إلى التعاطي معها حتى نقطع حبل الوصل مع «داعش» جديد يُولد من رحم القديم؟
هنا وباختصار غير مخلٍّ يمكننا القول إنه إذا كان أصحاب الفكر الأصولي من مستخدمي تلك الوسائط الحديثة يحملون لأشياعهم وأتباعهم ديناً وفكراً، ثقافةً ومنهجاً للحياة، وإن كانت ثقافة موت لا حياة، تعبّر عن أفكارهم وشهوتهم للنار والدمار، فإن أضعف الإيمان أن يقابَل هذا الفكر بفكر، وأن تُقارَع الحجة بالحجة. وهنا يبقى على التربويين في عالمنا العربي دور كبير في مجال حماية الشباب وتربيتهم بطريقة حديثة تتوافق مع المستحدثات وكذا التحديات.
ولعله من نافلة القول: إن المطالبة بتجديد الخطاب الديني، دون تفكيك للخطاب الأصولي المتطرف، أمر يترك فجوات وثغرات واسعة، تجعل مجابهة الطروحات والشروحات الإرهابية أمراً لا فائدة منه ولا طائل من ورائه.
ارتبط الخطاب الأصولي عضوياً بظاهرة الإرهاب، وكلاهما خرج من أحشاء ثقافة كراهية الآخر، وهذه بدورها لم تكن نبتاً شيطانياً ظهر على حين غفلة، بل أسهمت عوامل عدة في تخليقها، وفي أولها وآخرها إشكالية الخطاب غير الإنساني وغير الحضاري الذي يحتكر الحق والصواب، وينصّب من نفسه حَكماً وقاضياً على سلوك الآخرين، أولئك الذين يمتلكون أبواب الجنة وربما مفاتيحها أيضاً.
هذا الخطاب، ومن أسف شديد، كائن وقائم في الكثير من التراث الفكري الذي يحتاج إلى مراجعة، ولا نغالي إنْ قلنا «غربلة»، ومراجعة جريئة وشاملة.
وإذا كان الحديد لا يفلّه إلا الحديد، فإن الخطاب الأصولي المتطرف ربما لا ينفع معه إلا خطاب إنساني إيجابي خلّاق، يعمل على نشر قيم التسامح والتعايش بين بني البشر، وبحيث تُعطى الفرصة الجيدة لإحياء خطاب القيم الحقيقية الحاكمة للعلاقات بين بني البشر، عبر الأخوة الإنسانية الجامعة لهم، دون أدني التفاتة أو اعتبار للفروقات الطبيعية في ما بينهم مثل اختلاف الدين أو العرق أو الثقافة أو اللغة.
أفضل مَن قدّم رؤية علمية للخطاب الأصولي مؤخراً كان البروفسور الفرنسي «برنار شوفييه» الأستاذ في معهد علم النفس المرضي في جامعة ليون الفرنسية، وذلك عبر صفحات كتابه المفيد للغاية «المتعصبون... جنون الإيمان».
وعنده أن هناك أجواء بعينها تخلق فرصاً تشجع على بروز جماعة أو جماعات من الساخطين المتعصبين والمتشددين، بقدر ما يمكن للمجتمعات من تضييق نوافذ تلك الفرص، بقدر المقدرة على الانتصار في مواجهة العنف والإرهاب، حتى وإن كان المتعصبون موجودين منذ عتمة الزمان.
ونلاحظ أن البروفسور الفرنسي يضع الوقاية قبل القمع، من منطلق الوقاية خير من العلاج، سيما وأن القمع من دون الوقاية يعزز التعصب لأنه يخلق في المقابل تعصباً أسوأ بكثير –كما بيّن لنا التاريخ– من حيث شراسته واتساعه، من العنف الذي كان ينبغي علينا القضاء عليه في البداية... على أنه تتبقى هناك ملاحظة أخيرة تتصل بحتمية وجود إرادة دولية لمحاربة الأصولية، إرادة صادقة، لا تتلاعب على الأصوليين واستخدامهم من ثمّ كخناجر في خواصر يراد بها أهداف سياسية، تخدم الاستراتيجيات الكبرى للأقطاب الدولية.
الخلاصة... التطرف لا يفيد، وأمام الخطاب الكاره للآخر لا بد من خطاب إيجابي بملامح ومعالم تعيد أنسنة الحياة البشرية.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟