ليبيا... توازن قوى جديد

خلافات في الغرب وتقدم للجيش في الشرق... والجنوب يعاني وحيداً

جنود من الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير حفتر خلال عرض عسكري في بنغازي يوم 7 مايو الحالي (أ.ف.ب)
جنود من الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير حفتر خلال عرض عسكري في بنغازي يوم 7 مايو الحالي (أ.ف.ب)
TT

ليبيا... توازن قوى جديد

جنود من الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير حفتر خلال عرض عسكري في بنغازي يوم 7 مايو الحالي (أ.ف.ب)
جنود من الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير حفتر خلال عرض عسكري في بنغازي يوم 7 مايو الحالي (أ.ف.ب)

يتشكل في ليبيا توازن جديد للقوى، من شأنه أن يزيد الأمور تعقيداً على أرض الواقع. وظهرت في الأيام القليلة الماضية فجوة كبيرة بين المجلس الرئاسي، الذي يقوده من طرابلس (غرباً) فائز السراج المدعوم دولياً، والمشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الذي يشن حرباً ضروساً ضد بقايا الجماعات المتطرفة في شرق البلاد. أما جنوب ليبيا، فقد ابتعد كثيراً عن اهتمام السياسيين المتنافسين شمالاً، كما يقول العقيد المهدي البرغثي، وزير الدفاع في حكومة الوفاق.
في الأسابيع الأخيرة، أصبحت توجد داخل ليبيا، المنقسمة على نفسها منذ مقتل معمر القذافي في 2011، ثلاث بؤر جغرافية خطرة، يبدو أنها تلعب دوراً كبيراً في رسم آفاق مستقبل مثير للشكوك. الأولى تتمحور حول مدينة درنة التي تقع في الشرق، ولا يفصلها عن الحدود المصرية إلا أقل قليلاً من 300 كيلومتر، وتعج بمتطرفين من جنسيات مختلفة. وتخضع درنة، ذات الوديان والجبال والكهوف، لحصار من الجيش الوطني. لكن في أحدث تطور، استقبل قادة من المجلس الرئاسي في طرابلس وفداً من درنة لبحث إمكان الوقوف معها ضد حفتر. ومن شأن مثل هذه الخطوة أن يطيل أمد الحرب ضد المتطرفين في الشرق، ويزيد من القلق على الحدود المصرية.
ويقول مفتاح المسوري، ابن درنة، المترجم السابق للقذافي: «لا أدري ما هو السبب الحقيقي وراء ابتعاد درنة، تاريخياً، عن السلطة المركزية». ويضيف أحد الزعماء القبليين بالمدينة: «نحن بين نارين. ننتظر دخول الجيش، ونخشى انتقام الجماعات المتطرفة، ضد الأهالي».
أما البؤرة الثانية، فتقع في طرابلس نفسها، وبالتحديد في منطقة تاجوراء، شرق العاصمة، وهي منطقة تكثر في محيطها الغابات الشجرية والمزارع المنعزلة، وتعد بيئة مثالية لما حدث فيها أخيراً من تحشيد بالدبابات والآليات الثقيلة، من جانب من يوصفون بأنهم متطرفون مذهبيون وجهويون يتعطشون للسيطرة على العاصمة. وقد زاد عدد المتمركزين في تاجوراء خلال الفترة الأخيرة، وظهر فيها كذلك تحالف غريب من مقاتلين من تنظيمات «داعش» و«القاعدة» و«الإخوان» وغيرهم. ويقوم هذا التحالف بين حين وآخر بتوجيه قذائف صاروخية للمطار الجوي الوحيد العامل في طرابلس، وهو مطار إمعيتيقة. وفي لقاء سابق مع عبد الفتاح بانور، وهو وسيط بين مجموعة تاجوراء وقوات طرابلس، قال: «هذه التطورات سببها سوء تفاهم قديم لم يعالج من الجانبين. والآن، يتفاقم».
وتطرقت تحقيقات أمنية مبدئية في العاصمة إلى أن عناصر «داعش» التي فجّرت مقر مفوضية الانتخابات، قبل أسبوع، ربما انطلقت من تاجوراء، ما دفع السراج إلى إعادة تشكيل القوات ذات الطابع الميليشياوي التي يعتمد عليها في طرابلس، ومنحها مزيداً من الصلاحيات. ويرى عبد الله ناكر، رئيس «حزب القمة»، أن تعدد رؤوس السلطة في البلاد هو أس المشكلة، ويقول: «نريد أن تكون ليبيا دولة مؤسسات، وليست دولة أشخاص».
في المقابل، تقع البؤرة الثالثة في أقصى الجنوب، وتتمحور حول مدينة سبها، المعروفة بأنها العاصمة التاريخية لإقليم فزان. وتشهد هذه المدينة قتالاً ضارياً بين مسلحين من قبيلتي «أولاد سلميان» و«التبو». ويعتقد أن هناك أطرافاً خارجية تغذي هذه الحرب، حيث تمكنت جماعات متطرفة من استغلال الموقف لصالحها، وحققت انتشاراً كبيراً في كثير من المواقع الصعبة في الصحراء الشاسعة، في ظل انشغال الحكام الشماليين في إقليمي برقة وطرابلس عن مجريات الأحداث. ويقول رئيس الكونغرس التباوي، عيسى عبد المجيد: «من منبركم هذا.. أوجه رسالة لأبناء التبو، وأولاد سليمان، ولكل الليبيين؛ أن تُحل مشكلاتنا من داخل البلاد، لا من خارجها».
يتحدث العالم عن قرب إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في ليبيا. ورغم أن كثيراً من السياسيين والقادة داخل البلاد، مثل العقيد البرغثي وناكر، يرون أن هذا هو الحل الوحيد، فإن الأمور على الأرض تجري في طريق مغايرة. وقد كانت الآمال منعقدة أيضاً على قرب الإعلان عن توحيد المؤسسة العسكرية برعاية مصرية. كما أن المبعوث الأممي إلى ليبيا، الدكتور غسان سلامة، أرسل كذلك رسائل مطمئنة عن احتمال عقد مؤتمر مصالحة بين الليبيين، انطلاقاً من تونس. بيد أن مثل هذه المسارات المبشرة أصبحت عرضة لعراقيل عدة.. فكيف تغيرت الأوضاع إلى الأسوأ؟
لا يخفى على أحد أن هناك قوتين إقليميتين كبيرتين تعملان على الملف الليبي. الأولى، كما يقول ناكر، تناصر المشير حفتر، وتحاول أن تجعل له موقعاً في مستقبل البلاد، تحت عباءة الاتفاق السياسي الذي جرى توقيعه في مدينة الصخيرات المغربية قبل عامين. والثانية، كما يضيف، تحاول أن تعيد التيار الإسلامي، بقيادة جماعة «الإخوان» و«الجماعة المقاتلة»، إلى الحكم.
وبعد أن خسر هذا التيار الانتخابات في 2014، ولحقت به هزائم عدة على أيدي الجيش الوطني في الشرق، وعلى يد قوات طرابلسية غير نظامية في الغرب، بدأ في الأسابيع الماضية يلتقط أنفاسه، ويتحرك بجرأة داخل أروقة المجلس الرئاسي نفسه، ويريد أن يعوّض خسائره سريعاً.
ويقول مصدر في وزارة الدفاع في طرابلس: «نراقب هذه التحركات.. لدينا قواتنا. ونعتقد أنه ما زال في الإمكان إجراء انتخابات وإنجاز المصالحة». وقد أجرى البرغثي نفسه مصالحات بين عدة خصوم، قرب العاصمة، وتمكّن من فتح طرق سريعة كانت مغلقة على الساحل الغربي، لكن يبدو أن هذا وحده لا يكفي.
وتمثّل الحرب في درنة (شرقاً) حلقة من حلقات مطاردة حفتر للجماعات المتطرفة. فقد تمكن من هزيمتها في بنغازي، لكن عدداً كبيراً من عناصر هذه الجماعات، وكثير منهم غير ليبيين، تمكنوا من الفرار إلى درنة وإلى تاجوراء وإلى سبها. وقبل أيام، أعلن حفتر بدء ساعة الصفر لتحرير درنة من الجماعات الإرهابية، خلال كلمة ألقاها في حفل تخريج الدفعة الـ51 من الكلية العسكرية.
وتطرق حفتر إلى أن المساعي السلمية في درنة وصلت إلى طريق مسدود، بسبب تعنت الجماعات الإرهابية. ولا توجد قنوات اتصال بين الجيش الوطني وهذه الجماعات. ويقول قائد عسكري إن المفاوضات التي كان يقوم بها الجيش للحل السلمي في درنة كانت تجري مع قيادات اجتماعية، تنتمي إلى عائلات معروفة وقبائل في المدينة، وليس مع الإرهابيين أنفسهم، بعكس ما يعتقد بعضهم، ويوضح: «هدفنا كان الحصول على إقرار من هذه الزعامات بإخراج أبنائها من صفوف المقاتلين المتطرفين بالمدينة، والتوقف عن تستر البعض على المقاتلين الأجانب».
وتخشى قيادات مناوئة لحفتر، في غرب البلاد، من أن يحقق قائد الجيش الوطني انتصاراً جديداً، بعد انتصار بنغازي العام الماضي، إذا ما تمكن من تحرير درنة من المتطرفين. ولهذا تغيّرت، كما يبدو، بعض التحالفات سريعاً على المستوى العسكري والسياسي. فرغم حصار الجيش للمدينة، قام وفد من «مجلس شورى مجاهدي درنة» بزيارة لطرابلس، يوم الأربعاء الماضي، والتقى بعدد من أعضاء المجلس الرئاسي. وترددت معلومات عن أن الوفد حصل على وعد بالدعم وبالاعتراف الرسمي به من حكام طرابلس كجسم شرعي، رغم تصنيفه من جانب حفتر والحلف الإقليمي الداعم له على أنه «جسم إرهابي». ويقول قائد قبلي: «نحن بين شقي الرحى، ونخشى من أن نتحول لرهائن، إذا ما نشبت الحرب هنا».
وتبدو السلطات في طرابلس هشة ضعيفة غير متماسكة. فوزارة الدفاع في حكومة الوفاق الوطني، التابعة للمجلس الرئاسي، لديها قوات منتشرة عبر طوق كبير حول العاصمة، لكنها ليست على تناغم مع هذه الحكومة التي لم تحصل بعد على تصديق البرلمان على عملها. ولخّص العقيد البرغثي الموضوع بالقول إنه «ستكون هناك تسوية (مع السراج)». وتعاني قوات البرغثي من الافتقار إلى الأموال، وجانب من المعدات الأساسية.
ومن جانبه، أكد مسؤول في الوزارة حدوث لقاء بين وفد درنة وقيادات في المجلس الرئاسي، لكنه قال إنه لا يعلم بتفاصيل ما جرى بين الطرفين، وأضاف: «أياً ما كان الأمر، فإن استقبال وفد من درنة يُعد نكاية في الجيش الذي يقوده حفتر، وهذا يعقّد جهود المصالحة ومحاولات الحل».
ويقول مصدر قريب من المجلس الرئاسي إن جماعة «الإخوان»، التي هيمنت في الشهر الماضي على القرار في مجلس الدولة، وهو مجلس استشاري منبثق عن اتفاق الصخيرات، لعبت دوراً في ترتيب اللقاء بين وفد «مجلس شورى مجاهدي درنة» وأطراف في المجلس الرئاسي، الذي يضم في عضويته قيادات محسوبة على الإسلاميين المتشددين. ويضيف هذا المصدر، الذي طلب عدم تعريفه لأنه غير مخوّل له الحديث للإعلام، أن ما تم توقيعه من اتفاق بين الجانبين يؤدي إلى رفع الروح المعنوية للمقاتلين المتحصنين في درنة منذ سنوات، بمن فيهم غير الليبيين، ومن بينهم مصريون.
ووفقاً لمصدر في الاستخبارات الليبية في طرابلس، وهو جهاز مناوئ للمتطرفين، فقد تم الاكتفاء في اتفاق دعم «مجلس شورى مجاهدي درنة»، بذكر اسم المجلس دون أسماء قياداته، أو أي من أعضائه، وهي قيادات ينظر إليها الجيش الليبي وقوى إقليمية باعتبارها قيادات إرهابية.
وأضاف أن أعضاء في كل من المجلس الرئاسي ومجلس الدولة، من زعماء جماعة «الإخوان» و«الجماعة الليبية المقاتلة» (المرتبطة بتنظيم القاعدة)، أشرفوا على إبرام الاتفاق «بهذه الصيغة الغريبة».
وزاد قائلاً إن بعض المسؤولين في طرابلس اقترحوا أن يتم تغيير اسم «مجلس شورى مجاهدي درنة» إلى اسم جديد كـ«أمن درنة» أو «الحرس الرئاسي (تابع للسراج) فرع درنة»، تجنباً للحرج، إلا أن قيادات «مجلس شورى درنة» (وكان معهم قيادي مفصول من مجلس بلدية درنة) رفضوا تغيير الاسم.
وتأتي هذه التطورات المهمة بينما يواصل الجيش الليبي محاولاته لاقتحام المدينة التي ظلت طوال عشرات السنين مصدر قلق للحكام في ليبيا، بسبب انتشار المتطرفين فيها منذ أيام «الجهاد» في أفغانستان والشيشان والعراق وغيرها.
وتبدو المدينة واحدة من الحالات الشاذة عموماً في ليبيا. ويقول المسوري: «هي حالة ناشذة عن السلطة المركزية، سواء الآن أو أيام القذافي أو أيام الملك إدريس.. حتى أيام اليونان، ففي سنة 630، كانت خارج سلطة إقليم المدن الخمس في البحر المتوسط».
وأفاد مصدر عسكري بأن درنة يوجد فيها قادة للمتطرفين من الجزائر وتونس ونيجيريا ومالي والسودان ومصر، أبرزهم زعيم جماعة «المرابطين»، المصري «أبو عمر المهاجر». وقال ضابط في الاستخبارات الليبية: «لا يمكن لبعض حكام طرابلس استقبال وفد من (مجلس شورى مجاهدي درنة)، لو لم يكن هناك موافقة مبطنة من جانب قوى إقليمية تدعم هذا الاتجاه»، وأضاف: «إنه اتجاه يعزز المزيد من الفوضى والاقتتال في ليبيا، ويزيد من القلق لدى المصريين ودول الجوار».
وبالتزامن مع هذه الخطوة الغريبة، بدأت بعض الأصوات ترتفع بالدعوة إلى إنقاذ درنة من حفتر، ويشارك في هذه الحملة مسؤولون في العاصمة، وقادة في أحزاب وتيارات محسوبة على الإسلاميين المتشددين، من داخل ليبيا وخارجها. وظهر خطاب يصف «مجلس شورى مجاهدي درنة» بأنهم «ثوار فبراير (شباط) الذين ساهموا في إسقاط نظام القذافي»، وأن «حفتر مثل القذافي لا بد من التصدي له لتحقيق أهداف الثورة».
تاجوراء
أما في منطقة تاجوراء، التي تقع على الحدود الشرقية لمدينة طرابلس، فقد تشكلت فيها قوات متباينة الأهداف، لكن يوجد بينها توافق على ضرورة اقتحام العاصمة، والتحكم فيها، وهذا يتطلب شن حرب على القوات الطرابلسية التي تنتمي أساساً للمدينة. وتتكون القوات الطرابلسية التي يعتمد عليها السراج من كتائب غير نظامية، لكنها تتلقى الرواتب والدعم من وزارات الدولة، ومنها «قوات كارَه» و«قوات الككلي» و«قوات النواصي». وتقع مناوشات بين حين وآخر بين قوات تاجوراء وبقية القوات الطرابلسية. كما أن القوات الطرابلسية نفسها تدخل بين وقت وآخر في اقتتال في ما بينها على النفوذ.
وتكمن خطورة مجموعة تاجوراء في مرونة القيادة الموجودة على رأسها، وقدرتها على استقطاب كل خصوم السراج. وهذه القيادة هي شخصية تلقب بـ«البُقْرَة». وكانت هذه القوة، حتى ثلاثة شهور مضت، تعمل تحت رعاية المجلس الرئاسي نفسه، إلا أن قيامها بالهجوم المباغت على مطار إمعيتيقة، الذي تسيطر عليه قوات طرابلسية موالية للمجلس الرئاسي، دون إذن من السراج، جعل هذا الأخير ينزع الغطاء القانوني عنها.
ويقول الوسيط بين «البُقْرَة» والقوات الطرابلسية، بانور، إن أصل الخلاف يرجع إلى احتجاز قوات طرابلسية لعشرات المواطنين داخل سجون في مطار إمعيتيقة، دون عرض أمرهم على الجهات القضائية. لكن مصدراً في المجلس الرئاسي قال إن هؤلاء المساجين من المنتمين لتنظيم داعش، مشيراً إلى أن جماعات مسلحة من عدة مناطق، من غرب طرابلس ومن الجنوب، بدأت منذ شهور في استثمار الخلاف بين السراج و«البُقْرَة»، والنزوح إلى منطقة تاجوراء وما حولها، وتكوين معسكرات تدريب، وإطلاق الصواريخ بين حين وآخر على المطار. ويعتقد أن من قاموا بتفجير مفوضية الانتخابات أخيراً انطلقوا من هذه المنطقة.
ويزيد زخم قوات المتطرفين في تاجوراء من تعقيد الأمور في طرابلس، خصوصاً بعد أن بدأت قيادات إخوانية، ممن صعدت أخيراً لمواقع مهمة في الحكم في العاصمة، في الضغط على أعضاء في المجلس الرئاسي، وعلى أطراف في السلطات القضائية، للإفراج عن متشددين إسلاميين في سجون المدينة، من بينهم قيادات من جماعة «أنصار بيت المقدس» المصرية، و«أنصار الشريعة» (أقرب إلى «داعش»، وتضم ليبيين وتونسيين)، وغيرهم.
وتهدف مثل هذه التحركات إلى تشكيل ضغط على قوات حفتر المتمركزة حول درنة. فقد جرى قبل يومين تفجير حاجز تابع للجيش، شرق سرت، على يد متطرفين.
- الجنوب... حرب الرابح فيها خاسر
وفي ما يتعلق بتطورات الأوضاع في الجنوب، فما زالت الحرب مستعرة بين مسلحين من قبيلة «أولاد سلميان»، التي كانت تهيمن على إقليم فزان في الزمان الغابر، وقبيلة «التبو»، التي لديها امتداد داخل دول أفريقية مثل تشاد والنيجر.
ويقول عيسى عبد المجيد، رئيس الكونغرس التباوي، إن «ما يحدث هناك حرب الرابح فيها خاسر.. أتمنى المصالحة بين الطرفين (التبو) و(أولاد سليمان)، وأرجوهم أن يجلسوا معاً لحلحلة المشكلة. وعلى مجلس النواب، والحكومة المؤقتة (المنبثقة عنه)، التدخل لوقف الاقتتال والتعويض (جبر الضرر) للطرفين».
وأضاف: «لقد تم توقيع اتفاق في عهد حكومة علي زيدان (قبل 5 أعوام)، وفشل. أرى أن حل المشكلة لا بد أن يكون ليبياً - ليبياً، إما عن طريق مجلس النواب أو عن طريق الحكومة».
لكن ناكر يرى أن المشكلة أكبر، وأنها تتعلق أساساً بتعدد السلطات في البلاد، ويقول: «على أرض الواقع، يوجد قائد أعلى للجيش في الشرق، هو عقيلة صالح رئيس مجلس النواب، وقائد أعلى للجيش في الغرب هو السراج. ولذلك نحن في حاجة إلى توحيد الرأس أولاً.. كما أنه لا بد من وضع دستور. ومن دون هذه الأشياء الرئيسية، تكون كمن يبني على الرمال».
وهذا أمر يؤكد عليه أيضاً العقيد البرغثي، بقوله إن البلاد في حاجة إلى إنهاء الانقسام السياسي، موضحاً: «وجود سلطة موحدة، عبر إجراء الانتخابات، سيجنبنا كل هذه الفوضى».



ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.