«كريستيز» تراهن على اسم روكفلر وتحقق أرقاماً قياسية

في مبيعات الفن الأميركي والمفروشات... وطقم ضيافة نابليون الأول يحقق نحو مليوني دولار

مزاد كريستيز بنيويورك لمقتنيات عائلة روكفلر أثناء بيع لوحة غيلبرت ستيورات تمثل بورتريه لجورج واشنطن
مزاد كريستيز بنيويورك لمقتنيات عائلة روكفلر أثناء بيع لوحة غيلبرت ستيورات تمثل بورتريه لجورج واشنطن
TT

«كريستيز» تراهن على اسم روكفلر وتحقق أرقاماً قياسية

مزاد كريستيز بنيويورك لمقتنيات عائلة روكفلر أثناء بيع لوحة غيلبرت ستيورات تمثل بورتريه لجورج واشنطن
مزاد كريستيز بنيويورك لمقتنيات عائلة روكفلر أثناء بيع لوحة غيلبرت ستيورات تمثل بورتريه لجورج واشنطن

يبدو أن اسم عائلة روكفلر نجح في جذب أكبر عدد من المزايدين ومقتني الفنون في العالم لسلسلة المزادات التي تقيمها دار كريستيز بنيويورك لبيع مقتنيات ديفيد وبيغي روكفلر والتي تخصص جميع عوائدها لصالح عدد من الجمعيات الخيرية والمؤسسات العلمية. في اليوم الأول نجحت لوحات الفن الأوروبي لكبار الفنانين العالميين أمثال بيكاسو، ومونيه، وديلاكروا، ومانيه، وغوغان، وغيرهم كثير في تحطيم الأرقام القياسية، وحققت مبيعات وصلت في بعض الحالات لثلاثة أضعاف المبالغ المتوقعة من قبل الخبراء. المزاد ضم 44 لوحة عالمية، وحقق أكثر من 600 مليون دولار. وقياساً على الرقم الفلكي الأول، يتوقع البعض أن تحقق المجموعة كاملة (1500 قطعة) أكثر من مليار دولار.
المزاد الثاني قدم 253 قطعة من المفروشات الإنجليزية والأوروبية والسيراميك وحقق أرباحاً فوق المتوقع. استمرت المزايدات لثماني ساعات انتهت ببيع جميع القطع محققة أكثر من 12 مليون دولار. من القطع التي سجلت أرقاماً عالية، طقم ضيافة من الخزف صنع في الأصل على طلب نابليون الأول للاستخدام في قصره، وذلك في عام 1809. الطقم الذي قدر له خبراء الدار مبلغاً ما بين 150 ألفاً إلى 250 ألف دولار، حلق عالياً محققاً 1.812.500 دولار. ولم يكن الطقم النابليوني الوحيد الذي حطم حاجز المليون دولار؛ إذ بيع طقم ضيافة آخر صيني الصنع ويعود لعام 1775 بمبلغ 1.152.500 دولار.
وبالنسبة للمفروشات، حققت مجموعة مقاعد من خشب الماهوغني من طراز جورج الثالث صنعت عام، وهي كانت تشغل غرفة الطعام في قصر بيغي وديفيد روكفلر الكائن في جادة 56 بنيويورك وتعود لعام 1760، مبلغ 250 ألف دولار، متخطية المبلغ المقدر (100 ألف دولار). كما بيعت طاولة طعام من الماهوغني من المنزل نفسه أيضاً صنع 1815 مبلغ 468.500 ألف دولار متخطية التقدير الأولي (30 ألفاً إلى 50 ألف دولار). وفي النهاية، حقق المزاد أكثر من 12 مليون دولار.
وفي مساء اليوم نفسه، أقيم مزاد مسائي لبيع الأعمال الفنية من الأميركيتين ولقي إقبالاً هائلاً؛ ما جعله أنجح مزاد للفن الأميركي في تاريخ الدار. وصلت جملة مبيعات المزاد إلى نحو 107 ملايين دولار. جاء المزايدون في مزاد الفن الأميركي من 23 دولة، وتربعت فيه لوحة للفنان ويليام دي كونينغ تعود لعام 1982 على قائمة المبيعات بسعر تخطى 14 مليون دولار.
ومن الفن الأميركي أيضاً بيعت لوحة للفنان غيلبرت ستيورات تمثل بورتريه لجورج واشنطن رسمت في عام 1795، بمبلغ وصل لنحو 12 مليون دولار بعد مزايدات حامية؛ ما جعلها ثاني أغلى لوحة في المزاد. أما لوحة الفنان دييغو ريفيرا فحققت أعلى سعر للوحة من أميركا اللاتينية، حيث بيعت بنحو 10 ملايين دولار.
وشمل المزاد أكثر من لوحة للفنان الأميركي إدوارد هوبر، منها لوحته «كيب آن غرانيت» التي رسمها في عام 1928 والتي بيعت بأكثر من 8 ملايين دولار، ولوحة للفنانة جورجيا أوكيف بـ8 ملايين دولار أيضاً، ولوحة جون سينغر سارجنت بيعت بأكثر من 9 ملايين دولار.
ويعزو ويل هايدوك، رئيس قسم الفنون الأميركية بـ«كريستيز»، الاهتمام والمردود المادي للوحات المزاد إلى أن اللوحات الأميركية في مجموعة بيغي وديفيد روكفلر تعد «واحدة من أفضل المجموعات المملوكة من قبل مالك واحد... مزاد الليلة حقق رقماً قياسياً لأي مزاد للفن الأميركي».
وكان ديفيد روكفلر، الذي توفي في مارس (آذار) 2017 عن عمر يناهز 101 عام، آخر حفيد لرجل النفط الأسطوري جون دي روكفلر، الذي توفي عام 1937 عن عمر يناهز 97 عاماً. وتوفيت بيجي روكفلر في عام 1996 عن عمر يناهز الـ80 عاماً.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)