صالح بلعيد لـ «الشرق الأوسط»: العربية الفصحى تستطيع مواجهة العولمة اللغوية

عضو مجلس أمناء «المؤتمر الدولي للغة العربية» يرى أنها تعيش طفرة كبيرة

د. صالح بلعيد رئيس المجلس الأعلى للغة العربية في الجزائر
د. صالح بلعيد رئيس المجلس الأعلى للغة العربية في الجزائر
TT

صالح بلعيد لـ «الشرق الأوسط»: العربية الفصحى تستطيع مواجهة العولمة اللغوية

د. صالح بلعيد رئيس المجلس الأعلى للغة العربية في الجزائر
د. صالح بلعيد رئيس المجلس الأعلى للغة العربية في الجزائر

الدكتور صالح بلعيد هو رئيس المجلس الأعلى للغة العربية في الجزائر، وعضو مجلس أمناء المؤتمر الدولي للغة العربية، وقد شارك أخيراً في المؤتمر السابع الدولي للغة العربية، حيث أدار جلسة المجامع العربية.
وفي هذا الحوار معه، الذي جرى على هامش المؤتمر، تحدث بلعيد عن حرص المجامع العربية على أن تواكب اللغة العربية لتواكب العصر التقني، مشيراً إلى أن العربية قد شهدت تطوراً كبيراً خلال السنوات العشر الأخيرة، بدخولها شبكة الإنترنت، وارتفاع عدد مستخدميها بالشبكة. كما تناول الحوار أيضاً تأثير العامية على اللغة الفصحى، وتيسير النحو العربي، ومشكلة المصطلح، وتعليم العربية لغير الناطقين بها، وقضايا أخرى.
وهنا نص الحوار:

> أنتم عضو في مجلس الأمناء للمؤتمر الدولي للغة العربية، وترأستم جلسة المجامع العربية.. بداية: ما جديد المؤتمر الدولي للغة العربية هذا العام؟
- هذه السنة مُنحت سبع جوائز، قدمها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حاكم دبي، للمؤسسات. والعام المقبل، نعتزم تقديمها للأفراد. وتُمنح الجائزة لمن يقدم أفضل مشروع في تطوير اللغة العربية، وستفتح الجائزة بعد نهاية هذا المؤتمر.
وقد ترأست في المؤتمر السابع للغة العربية لجنة عملها «دور مجامع اللغة العربية في تطوير اللغة العربية»، واستضافت الهيئة المعدة لهذا البرنامج مجموعة من الأمناء العامين: الأمين العام لمجمع اللغة العربية بالشارقة، الأمين العام لمجمع اللغة العربية بالسودان، الأمين العام لمجمع اللغة العربية بسوريا، الأمين العام لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، وهناك رئيس جمعية حماية اللغة العربية بالشارقة؛ وقد تحدث هؤلاء عن الجهود التي تقدمها مؤسسات المجامع لتطوير اللغة العربية، باعتبار أن عمل هذه اللجنة يتعلق بجهود المجامع اللغوية كونها تملك السلطة التشريعية، أي هي تُشَرّع للغة العربية.
> ما المشاريع التي شرّعت لها أو درستها لجنة أمناء مجامع اللغة العربية؟
- المشاريع اللغوية التي تناولتها اللجنة: مسألة المصطلح، ومسألة تيسير نحو العربي، ومسألة تعليم العربية لغير الناطقين بها، ومسائل التقانات الحديثة. لماذا حددنا هذه المسائل للنقاش؟ لأن العالم الآن كله يسير نحو العولمة، ومسألة عولمة اللغة تعني القدرة على استقبال هذه التقانات الحديثة، إضافة إلى الاستجابة لتوصيات اليونيسكو التي تقول إن «على الجامعات والمؤسسات هذه السنة 2018 أن تُسَيّر كل المحاضرات وكل الملتقيات والمنتديات والمؤتمرات تحت محور اللغة العربية والتقانات الحديثة»، ولذلك جسدناها نحن في هذا المؤتمر الدولي السابع للغة العربية. فنحن نبارك أمثال هذه الأفعال، وهي أفعال جيدة جداً، لأن اللغة العربية تحتاج إلى هذه الجهود الكبيرة، ونحن نحتاج أولاً إلى الترْكّيم (تراكم)، فعندما نُرَكِم التجربة نحصل على النوعية. وهذه الجهود نلاحظها الآن بالمؤتمر في المشاركة من أكثر من 80 دولة تحضر في هذا المنتدى العالمي الكبير.
> كيف كانت المشاركة الجزائرية وأنتم رئيس المجلس الأعلى للغة العربية الجزائري؟
- شكلت الجزائر قوة كبيرة في هذا المحفل، وهي حاضرة بقوة، فعدد المشاركين الجزائريين بلغ 157 محاضراً، ما عدا الذين حضروا للمشاركة في نقاش جلسات المؤتمر. وهذا يعني أن أكبر وفد مشارك بالمؤتمر كان من الجزائر. ويأتي في المرتبة الثانية العراق، الذي شارك بنحو 50 محاضراً؛ فرق شاسع جداً بين الأول والثاني. ونحن نبارك هذا الحضور، وهو حضور نوعي أيضاً. فقد جاء الوفد الجزائري من مختلف الجامعات الجزائرية، وشخصياً حضرت كثيراً من الجلسات التي ألقى فيها محاضرون جزائريون مداخلاتهم، وقد كانت بالفعل محاضرات نوعية، بل أستطيع القول إن كثيراً من الحضور انبهر بالمستوى الراقي الذي قدمه أساتذتنا في الجزائر في هذا المحفل الثقافي العلمي العالمي.
> هل اقتصر هذا الحضور الكبير بالمؤتمر على اللغويين؟
- لا، كان الحضور متنوعاً، وقد أسعدنا أن يلتقي في هذا المؤتمر للغة العربية رجال التقانة ورجال المعلوماتية ورجال السياسة والبرلمانيين وقادة المجتمع المدني، كلٌ يدلي بدلوه في موضوع محدد، وهو تطوير اللغة العربية.. لماذا؟ لأن هذه اللغة هي اللغة الجامعة، اللغة التي تجمعنا وهي لغة الهوية، وهي اللغة التي نقف بها الند للند أمام العولمة.
> لنتوقف عند مسألة «اللغة هوية».. كما ترون، أصبحت بالوقت الراهن اللغة الإنجليزية لغة التعليم الأولى في أغلب جامعات المشرق العربي، واللغة الفرنسية في صدارة جامعات المغرب العربي، بينما اقتصرت اللغة العربية على العلوم الإنسانية، وكأنها لغة ثانية في الجامعات، أضف لهذا شعور بالدونية عند من يتكلم العربية.
- هذه المرحلة يمكن تسميتها «مرحلة انجذابية» فقط في إطار العولمة والتقانات الحديثة، وفي إطار الآلات التي تأتينا من الغرب، ولا ننتجها نحن. هذه الظاهرة موجودة، ولكن لا يجب أن نهّول الأمر، ونثير المسائل ونقلق، وإنما هي مسائل لا بد أن تُؤخذ بعين الاعتبار لإعداد استراتيجيات للاهتمام بلغتنا، خصوصاً اللغة الفصحى، لأن اللغة التي تستطيع أن تواجه «العولمة اللغوية»، الإنجليزية والفرنسية، هي اللغة العربية الفصحى؛ إذن هي عبارة عن واقي الصدمات، هذه الصدمات التي تجعل من اللغة العربية تقف الند للند أمام اللغات الأخرى. أما أن نحارب الإنجليزية أو الفرنسية، فهذا ليس صحيحاً، علينا الآن أن نستفيد منها، وهذا جيد، ولكن لا يجب أن تكون اللغات الأجنبية «لغات الهوية» في الوطن العربي.
في الوضع الراهن، صحيح ما كنت تقولينه بالنسبة لبعض البلاد العربية بسبب وجود العمالة الأجنبية، وبسبب كونها مناطق سياحية بالداخل والخارج، نرى الإنجليزية في الخليج مثلاً تشهد طفرة قوية جداً. لكني لاحظت الآن، عكس المرات السابقة، أن الوضع مختلف، بدءاً من هذا المكان الذي تجري فيه وقائع المؤتمر، حيث إننا نجد عمالة عربية، وهناك استعمال للعربية حتى بالشارع. أما في السابق، فكانت العربية عدماً. وبكل الأحوال، الزمن كفيل بالمسألة، وستنتشر العربية، سواء كلغة علم أو لغة عمل، ولكن علينا ألا نقول: «للعربية رب يحميها»، ونترك المسألة كما هي، لا أبداً، بل علينا، نحن الباحثين، نحن الذين نهتم باللغة العربية، أن نعمل ونعد استراتيجيات وخططاً ننفق عليها.
> لنتناول الدبلجة في المسلسلات والأفلام الأجنبية.. لا أتحدث عن تلك المترجمة بالفصحى، بل المترجمة بلهجات عربية مختلفة، كالسورية أو الجزائرية أو اللبنانية أو المصرية؟
- هذا طبيعي، هي مستويات لغوية يفرضها الواقع. إن كل لغة لها مستويات لغوية خاصة بها، يستعملها الإنسان لتواصله اليومي البسيط، هذه ليست مشكلة. كل لغة في العالم لها مستويات لغوية، ربما في اللغة العربية كونها توجد على مستوى 22 دولة عربية، وعلى مستوى 26 دولة كلغة أجنبية أولى، وكلغة أجنبية ثانية في 60 دولة... أكيد هذا التوسع للعربية في القارات الخمس يؤدي إلى ظهور ما يسمى «الخليط اللغوي» و«الهجين اللغوي»، لكن هذه المسائل ليست مشكلة قط. نحن نُفَرّق بين المستوى الأعلى للغة ومستوى خطاب الأنس، نعم هناك خلاف في خطاب الأنس، مثلاً اللهجة السورية تختلف عن اللهجة الجزائرية، وعن اللهجة المغربية، وعن اللهجة اليمنية. نعم، تتباين اللهجات العربية عندما تكون هناك دبلجة بلهجة البلد العربي، ولكن هذا الاختلاف نلاحظه يختفي في الإعلام الموضوعاتي، مثل «قناة جيو غرافيك» في أبوظبي، فهي تعمل بلغة عربية فصيحة، وأيضاً هناك بعض الدبلجات الجيدة القريبة من الفصحى، أو الفصحى البسيطة، كما في بعض الأفلام التاريخية، وهناك دبلجة فصحى لمسلسلات الأطفال. وهذا يدعونا لمعرفة لغة الطفل، ونلاحظ الآن الاستثمار بلغة الطفل في أغلب الفضائيات العربية، حيث نجدها كلها تعمل على فصاحة اللغة بمستواها العالي، لكن لكي نعرف إن كنا نعيش تطوراً، علينا بالمقارنة، لا بد من العودة إلى سنوات خلت. مثلاً قبل عشر سنوات فقط، نجد اليوم اللغة العربية تعيش طفرة متطورة، والدليل على ذلك استعمالها في الشبكة. قبل عام 2000، لم يكن هناك وجود لمواقع بالعربية. وفي 2012، لم يتجاوز عدد مستعمليها نحو 20 مليوناً، بينما الآن تجاوز 200 مليون من مستخدمي الشبكة بالعربية. وبالنسبة لعدد المواقع، هناك أكثر من 50 ألف موقع باللغة العربية، ومحركات البحث الآن موجودة، ولكن هل هي متطورة بالشكل الذي نعرفه في «غوغل» أو «ياهو»؟ نعترف بأن هناك نوعاً من النقص، ولكن التقانة تتطور بين لحظة وأخرى.
ونحن نعهد إلى رجال المعلوماتية، وإلى اللسانيين على وجه الخصوص، لإيجاد كثير من الحلول.



منطقُ الفلاسفة ومنطق القصّاصين

منطقُ الفلاسفة ومنطق القصّاصين
TT

منطقُ الفلاسفة ومنطق القصّاصين

منطقُ الفلاسفة ومنطق القصّاصين

أتيحت لي في الأسبوعين الماضيين تجربةٌ جميلة قرأتُ فيها كتابيْن مميّزين عن طبيعة الفعل القصصي (السردي). الكتاب الأوّل عنوانه: «الرواية الفلسفية كنوعٍ أدبي - the Philosophical Novel as a Literary Genre» لمؤلفه مايكل ميتياس Michael Mitias، والكتاب من منشورات عام 2022. الكتاب الثاني عنوانه: «كيف تعمل القصص - How Fiction Works» لمؤلفه الناقد الأدبي ذائع الصيت جيمس وود James Wood الذي يكتب منذ سنوات عديدة في مطبوعات ومواقع عالمية أهمها النيويوركر. صدر كتاب وود عام 2009، وتتوفر له ترجمة عربية أنجزها فلاح رحيم. قادتني هاتان القراءتان إلى التفكّر الحثيث في إشكالية العقل الفلسفي مقابل العقل القصصي: هل هي إشكالية حقيقية؟ هل ثمّة تعارض مؤكّد بين العقليْن؟ وهل منطق الفلسفة يلغي بالضرورة منطق القصة؟ انتهيتُ إلى أننا لسنا في حاجة لتجسير الهوّة بينهما؛ لأنّها (الهوة) مفترضة ونتاجُ وهمٍ راسخ لأسباب تعليمية ومهنية. يعمل المنطق الفلسفي والقصصي (السردي) في كلّ عقل بشري بطريقة متزامنة، وهذا ليس محض رغبة شخصية بقدر ما هو وسيلة تكيفية لعيش حياة طيبة ورفيعة في معاييرها المُشخّصة.

ظهر الفلاسفة منذ أكثر من 5 آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. منذ البدء رأى الفلاسفة في صناعة الحُجج (Arguments) وظيفة أساسية لهم؛ لذا تراهم انخرطوا في مناقشات حجاجية قاسية لم تهدأ يوماً ما. تنازعوا فلسفياً بشأن موضوعات عديدة: من أين جاء العالم؟ ومِمّ صُنِع؟ ولماذا وُجِدنا نحن البشر في هذا العالم؟ على الرغم من الحجاج القاسي بين الفلاسفة فإنّهم اتفقوا على أمر واحد: القصة ليست أداة يمكن الاعتماد عليها في التفكير. هُمْ رأوها وسيلة لا تخلو من جنبة انحيازية (تمييزية)، ووسيلة تتبع هوى خالقها، ومغاليةً في الاعتماد على الحقائق الحاضرة؛ لذا كرّس الفلاسفة أنفسهم لإيجاد أداة تفكير أكثر صرامة، وشيئاً فشيئاً تشاركوا قناعة راسخة بأنّ تلك الأداة هي المنطق Logic.

في سنة 350 قبل الميلاد تمكّن الفيلسوف المقدوني متعدد الاشتغالات (Polymath)، أرسطو، من جمع وتوحيد الأقيسة المنطقية المتناثرة بعمله الكبير: الأورغانون (Organon). جابهت سطوة المنطق الأرسطيّ العتيدة تحدياً بيّناً خلال عصر النهضة الأوروبية، عندما عمد الفلاسفة الطبيعيون ذوو العقول التجريبية (من أمثال ليوناردو دافنشي، وغاليليو غاليلي، وويليام هارفي) إلى استبعاد (بل وحتى مهاجمة) الكتب المدرسية الخاصة بالمنطق الأرسطيّ؛ لأنهم وجدوه قصير النظر محدوداً، تنخره الهشاشة، وغير ذي فائدة؛ لكنّ المنطق استعاد بعض مجده الغابر فكانت له عودةٌ خلال عصر التنوير بفعل جهود ديكارت وعبارته التأسيسية في «الكوغيتو» (إشارة إلى العبارة اللاتينية: Cogito Ergo Sum - أنا أفكّر إذن أنا موجود)، وكذلك علم الفلك الرياضياتي الذي وضع أساسه إسحاق نيوتن، ومفهوم العقل المتسامي الذي جاء به إيمانويل كانْت. منذ تلك الجهود المتقدّمة في جبهة المعرفة البشرية راح المنطق يندفعُ حثيثاً في توسيع مكانته في نطاق الفلسفة. مع أواخر القرن التاسع عشر صار المنطق الأرسطيّ أساساً في انبثاق الفلسفة التحليلية (Analytic Philosophy)، عندما وسّع غوتلوب فريغه (Gottlob Frege) من نطاق القوانين المنطقية الأرسطيّة لتكون حساباً (Calculus) يمكنه تناول أي محاججة.

هذا هو ما جعل الفلاسفة (وعامة الإنتلجنسيا والأكاديميين) يعزفون عن ربط القصة بالتفكير. تمكّنت منهم دهشةٌ مديدة راسخة بلحظات الإلهام واسعة النطاق التي تأتي مع الفلسفة، ابتداءً من الفلسفات الهندية القديمة حتى الانعطافة اللغوية التي جاءت مع نشر كتب فتغنشتاين وتأسيس مدرسة التحليل اللغوي والفلسفة التحليلية البريطانية. من المشروع أن نتساءل: ما الذي يمكن أن يكون خاطئاً مع هذه النسخة من المقايسة الفكرية؟

لم يكن الفلاسفة ومريدوهُمْ مخطئين بشأن اعتبار المنطق تفكيراً. هُمْ أخطأوا في اعتبار المنطق الشكل الأوحد للتفكير. السبب وراء هذا الأمر هو وجود - على الأقل - طريقتيْن للتفكير: المنطق والقصة. كلٌّ من المنطق والقصة بوسعه حلُّ معضلاتٍ ليس في استطاعة الآخر تقديم حلّ مناسب لها، وكلٌّ من المنطق والقصة بمستطاعه تخليقُ أشياء لن يستطيع الآخر تخليقها أبداً.

ثنائية الذكاء هذا (الذكاء المنطقي والذكاء القصصي) يمكن عرضُها بمقاربتيْن: تحليلية وتجريبية. في المقاربة التحليلية: توظّفُ القصة والمنطق طُرُقاً إبستمولوجية (معرفية) مختلفة ومتمايزة. طريقة المنطق هي المعادلة المساواتية (Equation)، أو بطريقة أكثر دقّة من الوجهة التقنية: الاستدلال الارتباطي (Correlational Reasoning) الذي يستبعدُ المؤثرات الفردانية؛ في حين تعتمد القصة طريقة الخبرة الذاتية، أو بتوصيف أكثر تقنية: التأمّل السببي (Causal Speculation). كلُّ مقاربة لها نطاقها الإجرائي الخاص: المنطق ثابت يعتمد على تكرار كثرة من الوقائع؛ في حين أنّ القصة متطايرة تمتاز بالخفة، وقد تعتمد على بيانات قليلة أو حتى قد لا تحتاج إلى أي منها (تخليق ذهني خالص أو ما يسمى في العادة رواية الأفكار Novel of Ideas).

في المقاربة التجريبية: يمكن اقتفاءُ أثر كلّ من القصة والمنطق في عمليات ميكانيكية مختلفة في الدماغ البشري. هذا مكافئ للقول (وعلى خلاف ما ظنّه كثير من العلماء الإدراكيين من قبلُ، ولا يزال قسمٌ ضئيل منهم يعتقد به) إنّ الدماغ البشري لا يعملُ كحاسوب. تعتقد الرؤية الحديثة لعمل الدماغ البشري أنّه يعمل جزئياً كحاسوب (أي مُعالِج منطقي)؛ لكنّ الدماغ البشري يعمل في معظم فاعلياته كماكينة سردية لأنّ واحدة من بين غاياته الرئيسية التي تطوّرت عبر الفاعلية الداروينية هي التأثر بالبيئة المحيطة والاستجابة لها بفعل تكيفي مناسب يستفيد من فواعل التغذية الاسترجاعية الحسية (الخبرة). هذا الفعل يتطلبُ تأمّلاً تسبيبياً؛ أي بعبارة أخرى: يتطلبُ تفكيراً قصصياً.

هذا ما تغافله الفلاسفة والإنتلجنسيا. هُم حسبوا أنّ الذكاء يمكن اختزالُهُ في آلية (ميكانيزم) مفردة، وعندما جعلوا تلك الآلية مكافئة للمنطق بات من البديهي أن تُترك للقصة وظيفةٌ وحيدةٌ باقية هي مناقلة الأفكار. كان الفلاسفة غارقين في لجّة الثقة المفرطة بهذا الاستنتاج إلى الحد الذي جعلهم يغفلون أو تناسون عقبةً بيّنة: تستطيعُ القصة مناقلة الأفكار فقط عندما يمتلك الدماغ القدرة على التفكير بصورة طبيعية (تلقائية) في القصة، أي: عندما تقترن القدرة المنطقية مع القدرة السردية (الحكائية)، وبعكس هذا لن تستطيع القصة التأثير السلس والتلقائي فينا. ما رآه الفلاسفة طرداً للقصة من مملكة التفكير البشري كان في الحقيقة تأكيداً لتغلغل الشكل القصصي في نظام التشغيل الأساسي للذكاء البشري. هذا النسق هائل التعقيد للتداخل الخلاق بين المنطق والقصة هو ما ساعد البشر على تخليق حبكات قادت إلى الصنائع الإبداعية الخلاقة لكلّ شيء في الحضارة البشرية على المستويين المادي والرمزي.

الدور القيادي الرائد للفاعلية السردية يعني - بين ما يعنيه من تفاصيل كثيرة - أنّ المنهاج الدراسي المُؤسّس على المنطق الذي اعتمدته مدارسنا لعقود طويلة إنما هو قصير النظر لسببيْن على الأقل:

أولاً: لأنّه قلّل إلى حد بعيد من قيمة الكيفية الأساسية التي يفكر بها الكائن البشري بصورة طبيعية، وترتّب على هذا الأمر نتائج سلبية عميقة الأثر من حيث مترتباتها الاجتماعية. مأسَسَت المناهج الدراسية القائمة على المنطق الخالص لفعالياتِنا المدرسية ودفعت بالتلاميذ إلى مهاوي الحَيرة، والشعور بالخجل والفشل، وكبحت التنامي المتوقّع للأخلاقيات الرفيعة عندما تعاملت مع التلاميذ بقسوة مفرطة عبر تقييم العقول البشرية بمقاييس الواجبات المطلوب تنفيذها بدقة منطقية كلاسيكية صارمة مع عدم الحيود عنها. من هذه الواجبات: الحفظ، والتفكير النقدي، والتعليل الكمي... وهذه كلها واجبات يمكن إنجازها بكيفية أفضل من البشر بواسطة هواتفنا الذكية وحواسيبنا المحمولة. أكّدت المناهج الدراسية أيضاً، وبكثير من الحماسة المفرطة، على الأقيسة المنطقية والكمية والبيانات، وهذا ما ساهم في تعظيم مناسيب تشوّه الشعور بالشخصانية الفردية والكينونة الذاتية (Depersonalization)، والهشاشة، والاحتراق النفسي...

ثانياً: تتغاضى المناهج الدراسية الحالية عن التاريخ الطبيعي لتطوّر أدمغتنا البشرية. ذلك التاريخ يشوبه الغموض. هذا صحيح تماماً، لكنْ برغم هذا نحنُ نعلم أنّ التركيبة المنطقية للدوائر العصبية في أدمغتنا البشرية ليست انعطافة تطورية حديثة أطاحت بالتقنية العقلية التي طوّرت القصة وأحاطتها بالرعاية الكاملة على مدى حقب زمنية طويلة. كان للمنطق (للتفكير المنطقي، لا فرق) الكثيرُ من الزمن لكي يضع بصمته المميزة على تطوّر الذكاء البشري، ولو أنّ آليات التطور الدارويني ابتغت طرح القصة جانباً وتركها تذوي بعيداً عن متناول فاعلياتنا الدماغية لكان من المنطقي أن يمتلك المنطق الهيمنة الكاملة على أدمغتنا بدلاً من أن يرتضي التعايش مع التفكير القصصي. تقودُنا هذه الحقائق الأساسية إلى استدعاء العديد من الأسئلة ذات النكهة التمردية على المواضعات السائدة: ماذا لو أنّ الفلاسفة قدّروا القصة (التفكير القصصي) كما فعلوا مع المنطق؟ أظنّهم لو فعلوا لكنّا انتهينا إلى إشكالية غريبة: ربما لو تعاملنا مع القصة مثلما تعاملنا مع المنطق لخسرنا القوة الذاتية الكامنة في التفكير القصصي، ولجعلنا التفكير القصصي أقرب إلى المهارات الشائعة التي تفتقد ندرة العبقرية الفردية والكشوف الذاتية المتفرّدة على المستويين التقني والرمزي.

القصة تسعى لتقديم إجابات وقتية لها حد كافٍ (Good Enough) من القدرة على تناول المعضلات الواقعية في الحياة البشرية. القصة انتقالة من الإجابات المطلقة للمنطق إلى البراغماتية الوقتية للتفكير القصصي. مع الارتقاء المستدام بتفكيرنا القصصي نستطيع أن نجعل حيواتنا الأرضية أكثر مناعة ضد الهشاشة والانكسار، وأكثر صحّة جسدية ونفسية وذهنية، وأكثر سعادة. لا أظنّ هذا المسعى أقلّ أبداً من شرف المسعى الذي ظلّ جوهر الفعل الفلسفي ومبتغاه منذ بواكير الفلسفة وحتى يومنا هذا.