مفهوم الإرهاب في عصر الميليشيات المسلحة

قراءة في العلاقات الشائكة بين إيران والمجموعات المتطرفة

متطرفون في كانو بشمال نيجيريا يرفعون صوراً لخامئني والخميني ونصر الله في مظاهرة عام 2014  (أ.ف.ب)
متطرفون في كانو بشمال نيجيريا يرفعون صوراً لخامئني والخميني ونصر الله في مظاهرة عام 2014 (أ.ف.ب)
TT

مفهوم الإرهاب في عصر الميليشيات المسلحة

متطرفون في كانو بشمال نيجيريا يرفعون صوراً لخامئني والخميني ونصر الله في مظاهرة عام 2014  (أ.ف.ب)
متطرفون في كانو بشمال نيجيريا يرفعون صوراً لخامئني والخميني ونصر الله في مظاهرة عام 2014 (أ.ف.ب)

وسّعت إيران في السنوات الأخيرة من علاقاتها العسكرية مع الميليشيات والمجموعات المسلحة. ويأتي إعلان وزارة الخارجية المغربية عن تزويد طهران لجبهة البوليساريو الانفصالية بالصواريخ المضادة للطائرات؛ ليعيد إلى الواجهة الدولية طبيعة العلاقات، بين الدول والميليشيات، وبخاصة أن المملكة المغربية، تتحدث عن أدلة دامغة تضم أسماء لشخصيات فريق تقني من «حزب الله»، وصل إلى مدينة تندوف الجزائرية، لتدريب مقاتلي الانفصاليين على حرب الشوارع، واستعمال الأنفاق. ويبدو أن الاتهامات المغربية تؤكد السياسة الإيرانية الثابتة المعتمدة على الميليشيات لخلق واقع دولي جديد.
يبدو أن هذه العلاقة الملتبسة بين إيران والميليشيات وانتشار الإرهاب في حاجة إلى مزيد من تسليط الضوء عليها، وبخاصة أن كل المجموعات الميليشياوية لا يتم التعامل معها دولياً باعتبارها حركات إرهابية. ذلك أن الفعل الإرهابي المعاصر لا يتخذ طابعاً سكونياً من حيث التنظيم والفكرة والآليات المستعملة؛ مما يجعل الباحث في الظاهرة الإرهابية أمام واقع متطور، ومتفاعل مع محيطه ومستجدات الواقع الدولي.
ومن التحديات المرتبطة بمفهوم العنف السياسي والإرهاب، ما يطرحه البروز القوي للميليشيات المسلحة في الجغرافية الإقليمية العربية، بعد سنة 2011، والدور «الدولتي» الذي تتقمصه هذه المجموعات المسلحة، من خلال سيطرتها الفعلية على الدولة، كما هو الشأن بالنسبة لـ«حزب الله» في لبنان وميليشيا الحوثي في اليمن؛ أو من خلال مطالبتها بالانفصال، كما هو الشأن بالنسبة لجهة البوليساريو؛ وكذلك الدور المركزي الذي تلعبه فصائل الحشد الشعبي في سوريا والعراق، من الناحية الأمنية والعسكرية والسياسية.
وتبعاً لهذا التطور اللافت، الذي جاء في سياق حراك عربي شبابي سنة 2011، يتبين أن طبيعة التحولات الشعبية المحلية، في تشابك مع ما هو إقليمي وعالمي؛ فرضت تشكيل آليات تنظيمية، وتحيزات ثقافية طائفية مسلحة، وسّعت من دائرة الممارسة الإرهابية، دون أن يعني ذلك أنها مدرجة بالضرورة في المفهوم الكلاسيكي لمصطلح الإرهاب.
صحيح أن هذا الوضع دفع بالكثير من الدول إلى إصدار قوانين وقوائم خاصة بمحاصرة ومحاربة الإرهاب؛ غير أن هذا التطور سواء في القانون المحلي للدول الكبرى، كما هو الشأن بالقانون الجديد للإرهاب البريطاني لسنة 2015، أو المبادرات العربية، مثل القانون الاتحادي رقم 7 لسنة 2014 في شأن مكافحة الجرائم الإرهابية في الإمارات العربية المتحدة، وقانون مكافحة الإرهاب للمملكة العربية السعودية سنة 2017، الذي عوّض القانون القديم الصادر سنة 2014. فرغم جدية المحاولات القانونية العربية والدولة، الخاصة بتوفير ترسانة قانونية كفيلة بمحاصرة والحد من الإرهاب؛ فإن هذه الجهود لم تستطع لحد الآن توحيد المفهوم، ولا التوصل لآليات مُجمع عليها، تكون محددة وصارمة بخصوص، الحدود الفاصلة بين التطرف كحالة نظرية، والتحريض على ممارسة العنف، بغرض إرهاب الأفراد أو الدولة، وإلحاق بالغ الضرر بهم، لتحقيق أهداف سياسية وآيديولوجية.
وعليه؛ لا بد من إعادة تعريف للظاهرة الإرهابية، في تصور الأمم المتحدة؛ وبالتالي تجاوز المفهوم القديم للإرهاب الذي تطرحه «اتفاقية جنيف» لسنة 1937، التي تتحدث عن السلوك الفردي للظاهرة الإرهابية، وتعرف الإرهاب بكونه مجموعة من «الأعمال الإجرامية الموجهة ضد دولة، والتي يكون من شأنها إثارة الفزع والرعب لدى شخصيات معينة أو جماعات من الناس أو لدى الجمهور».
في هذا الإطار، أصبح من اللازم اليوم الاستناد إلى تلك الجهود التي بذلتها الأمم المتحدة، والجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي تحولت إلى مسودة جاهزة للمصادقة منذ عام 2000؛ بهدف التوصل إلى مفهوم عالمي شامل ومتوافق عليه حول الإرهاب. ويبدو أن سياسة الأمم المتحدة شهدت نوعاً من التغيير في التعامل مع الظاهرة الإرهابية، حيث نجد أن مكتب الأمم المتحدة لمحاربة الإرهاب مكلف خمس مهام لمكافحة الإرهاب، دون أن يضع له تعريفاً محدداً، غير أنه اكتفى بالإحالة للمرجعية المعتمدة بالنص التالي:
«اعتمدت الجمعية العامة القرار 71-291 والمؤرخ في 15 يونيه عام 2017 بإنشاء مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب. وقد تم تعيين السيد فلاديمير إيفانوفيتش فورونكوف وكيلاً للأمين العام لمكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب في 21 يونيه 2017.
وكما اقترح الأمين العام أنطونيو غوتيريس في تقريره «A - 71-858» بشأن قدرة الأمم المتحدة على مساعدة الدول الأعضاء في تنفيذ استراتيجية الأمم المتحدة العالمية لمكافحة الإرهاب، وفرقة العمل المعنية بالتنفيذ في مجال مكافحة الإرهاب ومركز مكافحة الإرهاب، والتي أنشئت في البداية من قبل إدارة الشؤون السياسية، وتم نقلها إلى مكتب جديد لمكافحة الإرهاب برئاسة وكيل للأمين العام».
صحيح أن هذه الجهود الأممية استطاعت تحفيز المجموعة الدولية على خلق تحالفات موسعة ضد الإرهاب في الشرق الأوسط؛ إلا أنه يجب الأخذ بعين الاعتبار، أن الدينامية والسياق الدولي الحالي، أنتجا نمطاً جديداً من الممارسة الميليشياوية التي تر
وتبعاً لتلك الرعاية، تحدِث الميليشيات نمطاً جديداً من الممارسة الإرهابية؛ حيث تُجبر المجتمع والدولة (عادة ما تكون الدولة ضعيفة)، على اختصار الطائفة الدينية في حزب سياسي يمتلك أسلحة، «وجيشاً» موازياً للجيش الدولة، كما هو الشأن في لبنان، واليمن. وقد تتخذ الميليشيات المسلحة الإرهابية الجديدة طابعا، انفصاليا وانقساميا وإثنيا وطائفيا، كما هو الشأن بالنسبة لـ«حزب الله النيجيري»، والذي يخوض معركة تشيع قسري وسط مسلمي نيجيريا.
وهكذا نجد أن الممارسة الميليشياوية للإرهاب لا تكتفي بالصراع مع الدولة الأم، وجماعاتها المجتمعية المتحدة تاريخياً؛ بل إن التطور والفاعلية الجديدة التي اكتسبتها الممارسة الإرهابية في عصر الميليشيات، يجعل من هذه الأخيرة «دولاً» داخل دولة معترف بها في الأمم المتحدة. وفي الوقت نفسه لا تجد مؤسسات الأمم المتحدة في نفسها، حرجاً في الدخول مع الميليشيات المسلحة، في حوارات رسمية؛ رغم أن الميليشيات هي تنظيمات مسلحة غير منظمة بقانون، ولا يخضع نشاطها المسلح لأي مراقبة حقيقة من الدولة.
وإذا كانت بعض النماذج تسهل لنا التصنيف، كما هو الشأن بالنسبة لمجمل ميليشيات الطوارق بدولة مالي؛ والتي تتشابك مع الجماعات الإرهابية الدينية؛ مما يجعلها في قائمة المنظمات الإرهابية. فإن عشرات الميليشيات المنتشرة حاليا بليبياً (على سبيل المثال)، تستعصي عن التصنيف؛ ذلك أن العرف واجتهادات القانون الدولي في هذا السياق تركز على طبيعة الحرب الأهلية، والممارسة الفعلية للقتال والدفاع عن النفس. ورغم أن المنظمات الدولية، ومنها تلك التابعة للأمم المتحدة، تدين بعض الجهات المسلحة بارتكابها أعمالاً وحشية وإبادة جماعية؛ فإن ذلك لا يعني من الناحية القانونية أن تلك الميليشيات والجهات المسلحة تعتبر بالضرورة حركات إرهابية.
وهذا الواقع، يطرح أكثر من سؤال حول كيفية التعامل مع الميليشيات الإرهابية؛ من حيث التصنيف، والاعتراف الدولي بها والتعامل معها سلماً وحرباً؛ وهل يمكن التعامل معها وفقاً لقواعد القانون الدولي، باعتبارها حركات سياسية مسلحة؟ أم وجب تصنيفها باعتبارها منظمات إرهابية، أسوة بـ«القاعدة» و«داعش»، و«طالبان باكستان»؛ و«كتائب حزب الله العراقي» و«حركة النجباء» بزعامة أكرم الكعبي، وغيرها من الميليشيات المسلحة؟
إن هذا «الفراغ القانوني» يشجع إيران لتفريخ ودعم الميليشيات والجماعات المسلحة، على مستوى الشرق الأوسط وأفريقيا؛ وفي هذا السياق يمكن فهم إعلان المغرب أن طهران دعمت جبهة البوليساريو بالأسلحة (منها صواريخ مضادة للطائرات). وكذا وصول عناصر من «حزب الله» إلى مخيمات الصحراويين بمدينة تندوف الجزائرية، لتدريب مقاتلي البوليساريو على حرب العصابات، واستعمال الأنفاق لأغراض قتالية. ويمكن القول، إن مثل هذه التصرفات الإيرانية، تتماشى مع رؤية الحرس الثوري لطبيعة الصراع الجيوبوليتيكي الدولي. حيث يتم استعمال الميليشيات الشيعية العقدية الموالية لولاية الفقيه، لفرض وضع أمني وعسكري جديد؛ بما يخدم المصالح الاستراتيجية الإيرانية في جغرافية سياسية معينة، ويوسع من دائرات تحالفاتها.
ومن أجل هذا الهدف المركزي، لا تتوقف إيران عن اتباعها استراتيجية التوسع والهجوم، وخلق مزيد من مناطق التوتر داخل الدول المناهضة لسياستها الدولية؛ أو تلك المتحالفة مع ما تعتبره إيران «محور الاستكبار العالمي». كما تنهج سياسة إعلامية ودبلوماسية مصحوبة بحمولة عسكرية، تلعب فيها الميليشيات المتعددة التابعة لطهران دوراً محورياً، في إشعال الحروب؛ مما يمكن الحرس الثوري من تثبيت الوجود الإيراني في منطقة معينة، عبر «عسكرة» العلاقات الدولية، القائمة بين طهران ودول معينة.
غير أن الخطوة الإيرانية الجديدة بدعم جبهة البوليساريو الانفصالية، لا يجب فصلها عن الدور الذي تقوم به الميليشيات التابعة لطهران في نيجيريا المتمثلة في «حزب الله النيجيري». ذلك أن السياسة الإيرانية في غرب أفريقيا لم تعد تكتفي بنشر التشيع في الوسط السني؛ بل انتقلت لمرحلة خطرة من التعاون العسكري بين إيران والتنظيم الشيعي النيجيري، المرتبط بعلاقة ولاء بولاية الفقيه والمذهب الجعفري. وهذا بدوره مكّن إيران عبر ميليشيات مسلحة، من خلق جيب عقدي وطائفي مسلح مرتبط بالرؤية الإيرانية الجديدة، القائمة على الدخول إلى مناطق الصراع الدولي عبر وكلاء – أو عملاء – ترتبط مصالحهم الوجودية بالسياسة الخارجية وبالمصالح الاستراتيجية الإيرانية.
على المستوى الأفريقي دائماً، وصلت محاولات إيران لزعزعة الاستقرار لدولة كينيا التي تربطها بطهران علاقات مهمة اقتصاديا؛ حيث ألقت قوات الأمن الكينية سنة 2014 القبض على رجلين إيرانيين دخلا البلد بجوازات سفر مزورة، وقيل يومها إنهما ينويان تنفيذ عمليات إرهابية داخل البلد. كما تكرر الأمر نفسه في البلد نفسه سنة 2015، عندما اعتقلت السلطات الكينية شخصين كينيين من أصول إيرانية.
أما في غرب القارة، فيمكن الإشارة إلى التهريب الذي قام به فريق من الحرس الثوري للسلاح إلى الداخل النيجيري. وقد اكتشفت قوات الأمن النيجيرية سنة 2010، شحنة من الأسلحة، قادمة من إيران تتضمن، صواريخ كاتيوشا من عيار 107 ملم، وقاذفات صواريخ إيرانية وقنابل يدوية. وقد أكدت الأمم المتحدة في تقرير لها، أن هذه الشحنة تمت بواسطة شركة تابعة للحرس الثوري تسمى شركة «بهينيه» للتجارة. ووفقاً لتقرير للأمم المتحدة، فإن شحنة الأسلحة الإيرانية، انتهت بإلقاء القبض على ثلاثة نيجيريين، واثنين من ضباط «فيلق القدس» وبحوزتهم أسلحة، بينما استطاع السيد «أكبر طبطبائي» الذي يعتقد أنه قائد «فيلق القدس» بأفريقيا، الاختباء في السفارة الإيرانية والهرب إلى طهران. أما في بداية 2013، فقد أوقفت السلطات النيجيرية ثلاثة مواطنين تدربوا على استعمال السلاح بإيران.
عموماً، جاء في تقرير نشره مركز بحوث تسليح الصراعات، أن الفترة الممتدة 2006 إلى 2012 شهدت نحو 14 حالة «دعم» إيراني للسلاح بأفريقيا، 4 حالات فقط مع الحكومات؛ و10 أخرى مع ميليشيات وجماعات انفصالية».
* أستاذ زائر للعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس الرباط



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.