هل يستطيع «داعش» تهديد المونديال الروسي؟

جبهة أصولية جديدة في آسيا الشرقية

دعاية داعشية موجهة ضد المونديال الروسي («الشرق الأوسط»)
دعاية داعشية موجهة ضد المونديال الروسي («الشرق الأوسط»)
TT

هل يستطيع «داعش» تهديد المونديال الروسي؟

دعاية داعشية موجهة ضد المونديال الروسي («الشرق الأوسط»)
دعاية داعشية موجهة ضد المونديال الروسي («الشرق الأوسط»)

من المؤكد أن فصول المسرحية الإرهابية «داعش وأعوانه» لم تنته، ولا يبدو في الأفق أنها سوف تسدل الستار عن فصلها الأخير عما قريب، ذلك أنه كلما انتهى أحد مشاهدها الطوال، طفا على السطح مشهد آخر أطول وأخطر، وكأنها نوع من الكائنات الطفيلية، تلك القادرة على تغيير شكلها ونوعها بها يلائم البيئة الجديدة التي تعيش فيها.
آخر فصول «داعش» تتصل بالمونديال الكروي المقرر إقامته في شهر يونيو (حزيران) المقبل في روسيا، حيث كل الشواهد تشير إلى أن التنظيم ينتوي بالفعل القيام بعمليات إرهابية على الأرض هناك، الأمر الذي يستدعي أسئلة كثيرة عن جدية تلك التهديدات، والأسباب التي تدفع الدواعش لنقل معركتهم إلى الأراضي الروسية، عطفاً على حتمية النظر إلى الماضي القريب، وهل كان للدواعش بالفعل يد ما في حوادث إرهابية شهدتها روسيا أو بعض الجمهوريات القريبة منها، والكثير من الأسئلة المشابهة.
آخر صيحات وإنذارات «داعش» فيما يخص كأس العالم الذي سينطلق في 14 يونيو (حزيران) المقبل، ويستمر حتى 15 يوليو (تموز)، في نحو 11 مدينة روسية، كان عبارة عن ملصق للمجموعة الإرهابية الداعشية يحمل تهديداً مباشراً للرئيس فلاديمير بوتين بأنه «سيدفع ثمن قتل المسلمين».
الملصق يبين مسلحا داعشياً، في وسط انفجار كبير حاملاً سلاحاً آلياً من نوعية «الكلاشنيكوف»، في ساحة كرة قدم مكتظة في الخلفية، بينما يظهر بوتين على يسار الصورة، مع هدف أسود وبرتقالي يستهدفه مباشرة، ووسط الملصق مكتوب بخط عريض: «روسيا 2018... بوتين أنت كافر... ستدفع ثمن قتل المسلمين».
يعن لنا التساؤل لماذا بوتين على نحو خاص يوجه له هذا التهديد، وهل هو التهديد الأول من نوعه؟
يمكن القطع بأن «داعش» ينظر لبوتين بوصفه العدو الأكبر له، فقد كان تدخله في المواجهة المسلحة الدائرة على الأراضي السورية مع أفراده عاملاً حاسماً ومؤثراً في اختلال ميزان القوى لصالح الأسد، كما أن الأسلحة الروسية المتقدمة التي استخدمت هناك سببت خسائر بالغة في صفوف الدواعش، مقارنة بخسائر أخرى أحدثتها قوات أخرى مثل القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة، عطفاً على قوات الأسد، مما أوقع بالدواعش خسائر بشرية ولوجيستية هائلة، فهل يكون الانتقام في روسيا صيف 2018؟
لم يكن الملصق الأخير هو أول تهديد من الدواعش لروسيا، عبر سلسلة المنشورات التي أطلقتها ولا تزال مؤسسة «الوفاء» الإعلامية، ذراع «داعش» الإعلامية، ففي شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي استطاع الدواعش تسخير صورة للنجم الأرجنتيني ولاعب فريق برشلونة «ليونيل ميسي» للترويج لدعاية دموية ضد روسيا، فقد ظهر اللاعب الشهير في بوستر وكأنه سجين خلف القضبان ويبكي دماً، ومرفق بالملصق عبارة ذات دلالات آيديولوجية خطيرة ومثيرة تقول: «الإرهاب العادل... إنكم تقاتلون دولة لا تعرف الخسارة في ميزانها».
ملصق آخر ظهر في التوقيت نفسه ومكتوب باللغتين الروسية والعربية يقول: «انتظرونا»، وفيه مسلح يطل على ملعب المونديال في موسكو، وهو يقرأ عبارة «انتظروا».
وقد يتساءل البعض أليست روسيا وما حولها من جمهوريات سوفياتية سابقة متاحة للدواعش من قبل ومن بعد المونديال حتى يركزوا جهودهم على تلك المناسبة العالمية الكبرى، حيث الضحايا المحتملون من كل شعوب العالم وليسوا من الروس فحسب؟
هناك في واقع الأمر أكثر من جواب، فالبعض يرى أن نجاح الدواعش في تنفيذ تهديداتهم سوف يعطي دفعة دعائية هائلة للتنظيم ومقاتليه، ويعزز من الحضور الإعلامي للجماعة التي انحسرت الأضواء عنها بعد هزيمتها في الأراضي التي سيطرت عليها سواء كان ذلك في العراق أو سوريا.
أحد التقارير الغربية الصادر عن مؤسسة «آي إتش إس» البريطانية للتحليلات، يذهب أيضاً إلى أن مشاركة منتخبي السعودية وإيران في البطولة المقبلة، قد يعطي حافزاً أكبر للتنظيم لاستهداف روسيا.
وربما فات القائمين على المؤسسة البريطانية أن مصر عضو مشارك في كأس العالم وهناك عشرات الآلاف من المصريين الذين سيذهبون لدعم فريقهم في المونديال، ومعروف أن مصر تعيش معركة شديدة الوقع مع الجماعات الإرهابية المختلفة أسماؤها وأشكالها على أرض سيناء، وفي الأيام القليلة الماضية استطاعت قوات الجيش والشرطة في مصر القضاء على الرجل الثاني في تلك المجموعات «ناصر أبو زقوم»، مما يجعل محاولة الانتقام من مصر والمصريين عبر كأس العالم، أمراً واجب الوجود كما يقول الفلاسفة بالنسبة لـ«داعش».
ولعل المتابع المحقق والمدقق للعلاقة بين روسيا والدواعش يدرك أن هناك عمليات إرهابية عدة تبناها التنظيم في روسيا خلال السنوات الماضية وكان آخرها في شهر فبراير (شباط) الماضي، حين تبنى التنظيم الهجوم الذي استهدف كنيسة في داغستان الواقعة جنوب روسيا وأدى إلى مقتل خمسة أشخاص.
وفي ديسمبر (كانون الأول) 2017 أعلن التنظيم عينه مسؤوليته عن الهجوم الذي وقع في مركز تجاري في مدينة سان بطرسبرج بروسيا، وأسفر عن إصابة ثلاثة عشر متسوقاً، والعهدة على وكالة أنباء أعماق الناطقة باسم «داعش».
قبلها بنحو 4 أشهر، أي في أغسطس (آب) كان «الدواعش» يتحملون مسؤولية عملية طعن حدثت في «سورجوت» الروسية، حين قام أحد عناصر «داعش» بمهاجمة المارة بسلاح أبيض، مما أدى إلى إصابة 8 أشخاص، قبل أن تتمكن الشرطة من قتله.
ولعل المزعج للجهات الأمنية الروسية هو المستوى العالي من الرصد والمتابعة الذي يتمتع به أفراد التنظيم على الأراضي الروسية، مما مكنهم على سبيل المثال من القيام بعملية نوعية خطيرة في أبريل (نيسان) من العام الماضي، وذلك حين نجحوا في الاعتداء على مقر للاستخبارات الروسية في مدينة «خابروفك» الروسية شرقاً، مما أدى إلى مقتل شخصين.
قبل ذلك طالت يد «داعش» قاعدة روسية في الشيشان، جرى ذلك في مارس (آذار)، مما أسفر عن مقتل ستة أفراد من صفوف قوات الأمن الروسية، بحسب مركز «سايت» الأميركي والمتخصص في رصد ومتابعة التنظيمات الإرهابية حول العالم.
ويبدو أن «داعش» ومنذ عام 2015 وهو يضع روسيا في مقدمة أهدافه، ففي ديسمبر من ذلك العام أعلن التنظيم عن مسؤوليته بشأن الهجوم الذي استهدف مجموعة من الأشخاص كانوا يزورون قلعة تاريخية في منطقة داجستان بجنوب روسيا، وما بين 2015 و2017، شهر أغسطس 2016 هجوماً داعشياً على موقع للشرطة الروسية قرب موسكو، أسفر عن إصابة شرطيين، بعد أن هاجم رجلان دورية للداخلية الروسية على بعد 20 كيلومتراً شمال شرقي موسكو.
الثابت وفي ظل الحقيقة المتقدمة هو أن المونديال قد يكون بالفعل في خطر، والأمن الروسي بأجهزته المختلفة يأخذ تهديدات الدواعش على محمل الجد، هذا ما حدث منذ بضعة أيام عندما أعلن جهاز الأمن الفيدرالي الروسي القبض على خلية نشطة من مؤيدي الدواعش، كانت تخطط لارتكاب أعمال إرهابية على أراضي منطقة «روستوف» باستخدام الأسلحة النارية والمتفجرات، التي ضبطت جاهزة ومعدة بالفعل للاستخدام، بالإضافة إلى وسائل اتصالات ووسائط رقمية تحتوي على مواد دعائية لصالح الأنشطة الإرهابية لـ«داعش»، والمثير أن التعليمات التي وردت لتلك الخلية قد جاءت من أميرهم الموجود على الأراضي السورية، فيما تم إلقاء القبض على ثلاثة من أعضاء تلك الخلية، وهؤلاء بالضرورة سوف يعتبرون كنزاً معلوماتياً في توقيت حساس وكبير الفاعلية للأجهزة الاستخباراتية والشرطية الروسية.
وفي كل الأحوال يبقى الخطر الداعشي بالنسبة لروسيا بالفعل قائماً، فلم تكن خلية الأيام الماضية هي الوحيدة من نوعها، ففي 13 و14 ديسمبر الماضي اعتقل جهاز الأمن الروسي 7 أعضاء في خلية تابعة لتنظيم داعش، كانت تخطط لتنفيذ هجمات في أماكن عامة بحسب بيان وكالة «إنترفاكس» للأنباء التي أشارت إلى أنه القي القبض على أعضاء الخلية في مدينة سان بطرسبرج التاريخية الروسية.
ولعل سياق اكتشاف مثل هذه الخلايا «الداعشية» في الداخل الروسي يلقى بالأضواء على محاولات انتقام التنظيم من الدولة التي شكلت ودربت واحداً من أخطر المجموعات المسلحة، والتي أذاقت الدواعش على الأرض في سوريا المرار والعذاب، ونحن نتحدث عما عرف باسم «صائدو الدواعش»، تلك الفرقة التي دربتها وجهزتها ومولتها روسياً، وفتحت أبواب التطوع فيها بأجور تفوق عشرات الأضعاف مما تحصل عليه عناصر قوات نظام الأسد، وقد اعتبرت رديفا لقواته، وبدأت عملها فعلياً في معركة استعادة تدمر فكان أول ظهور لها هناك.
هل من فرصة لإنقاذ المونديال من براثن «الدواعش»، والذين خططوا بلا شك منذ وقت طويل لملاقاة الروس وبقية شعوب العالم على الأراضي الروسية؟
يبدو أن واقع الحال مزعج إن لم يكن مخيفاً بالفعل، فقد حذر رئيس جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، رئيس لجنة مكافحة الإرهاب، ألكسندر بوتنيكوف» من أن الإرهابيين الدواعش سيسعون إلى استهداف المونديال، سيما بعد أن اتجه العائدون المهزومون منهم إلى الجمهوريات السوفياتية السابقة، بهدف اخترق روسيا واستهداف بطولة كأس العالم.
مسألة الأعداد تؤرق الروس بالفعل، فقد انضم إلى «داعش» نحو 4500 مواطن، أي تسعة أضعاف البريطانيين المنضمين للتنظيم، في حين أن هناك 20 ألف مواطن على الحدود الروسية يشتبه في تورطهم بمنظمات دينية و«جهادية» متطرفة.
ويبدو أن قضية أمن وآمان المونديال لم تعد تشغل بال الروس فقط، بل بقية الدول الأوروبية التي اعتراها القلق والخوف على مواطنيها الساعين للمشاركة في كأس العالم، ولهذا جاءت تصريحات وتحذيرات الاستخبارات الروسية قبل يوم واحد من سفر «بوريس جونسون» وزير الخارجية البريطاني إلى موسكو، للقاء نظيره الروسي سيرجي لافروف من أجل إجراء محادثات تتعلق بموضوعات عدة من بينها تأمين بطولة كأس العالم.
في هذا الإطار أيضاً تفيد وكالة «تاس» للأنباء الروسية بأن وزارة الداخلية ستحاول فرض مزيد من السيطرة على مدن كأس العالم، من خلال إنشاء وحدات شرطية جديدة تكون بجانب الشرطة العادية لتأمين جماهير الحدث الرياضي الأهم في 2018 وتعتبر أبرز مهام الشرطة السياحية القيام بدوريات في أماكن إقامة الجماهير الأجنبية خلال كأس العالم.
يبقى المشهد الأخير، وهو ذاك الذي تتداخل فيه التهديدات الإرهابية مع تصفية الحسابات السياسية، والأمر باختصار غير مخل يدور حول محاولة الدوائر الغربية وفق ما يرونه نفوذا روسيا متصاعدا حول العالم، وهناك من يذهب، ربما ضمن سياق نظرية المؤامرة إلى القول بأن بعض القوى الدولية التقليدية النافذة تريد الانتقام من بوتين، وفي المقدمة منها الأميركيون والبريطانيون، غير أنه من غير الممكن تصور الانتقام على جثث الآلاف من الأبرياء، وإن كانت هناك قصص مثيرة ومخيفة مشابهة في أضابير أجهزة الاستخبارات الدولية، وتنتظر إجابات تاريخية عليها. غير أنه وفي كل الأحوال يمكننا الإشارة إلى أن الدواعش باتوا يلعبون الآن خنجراً في الخاصرة الروسية، والتعبير لـ«أندريه نوفيكوف» رئيس مركز مكافحة الإرهاب التابع لرابطة الدول المستقلة، وعنده أنه بعد تفكيك معظم نواة (داعش) القتالية، انتشرت شظاياها في مناطق أخرى، أفغانستان وباكستان، على سبيل المثال، وهناك يتم تشكيل قاعدة جديدة».
التصريحات المتقدمة تثير هواجس عدة بشأن إعادة استخدام «داعش» تجاه روسيا، كما كانت طالبان في ثمانينات القرن الماضي ضد الاتحاد السوفياتي.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟