لكل عصر سماته التي تشير لجوهره منذ بداية البشرية لحد الآن. فهناك عصر الطفولة البشرية في أثينا، أو على الأقل هكذا كان يسميه ماركس، عصر البراءة الأولى، حيث الكل أحرار قبل أن يقسم الإنسان نفسه إلى مالك ومملوك، عصر الحكمة والفلسفة التي لا تزال حية على الرغم من القرون. وهناك عصر النهضة، وعصر التنوير، حين اكتشفت البشرية نفسها من جديد، وتحررت من خرافة تلك القوى الخفية، التي استندت طويلاً إلى مرجعيات لم يخترها أحد، وحكمت ضمائرنا قبل عقولنا، وأثقلتنا بعقد ذنوب لم نقترفها. ثم حل عصر الانحطاط طويلاً، ومعه توحش الإنسان على أخيه الإنسان الذي بلغ مداه الأعلى في العصر الإمبريالي الذي اكتسح ثلاثة أرباع المعمورة، مسلحاً بالجشع والرأسمال الذي لا يشبع.
كان عصر الاحتدام الكبير بين القوة الكاسحة حادة الأنياب، والإنسان الذي لا يملك سوى أغلاله. وأنتج هذا الاحتدام ثروة جمالية كبرى في الشعر والتشكيل، والرواية والعمارة، ربما لم تعرفها البشرية بهذا الشكل من قبل. وقد ولد منه بالضرورة عصر الثورات، العنيفة وغير العنيفة، التي حاولت اقتحام السماء ثم هوت، لكنها تركت بصماتها الواضحة، التي يصعب على الزمن محوها، على الإنسان ومصيره وتطوره اللاحقين. ولكن خرجت من بطنه أيضاً الحرب، الابنة الشرعية للرأسمال المتوحش والقمع والعنف وضيق الأفق القومي، واستقرت بيننا لأكثر من نصف قرن. وبدا كأن عصراً جديداً سيبدأ.
ولكن للتاريخ دوراته الخبيثة، أو كأنه كف فجأة عن الدوران. كأن شيئاً تضخم كثيراً، ثم انفجر، وحل فراغ مخيف. اختفت من على جدران العالم شعارات الأخوة الإنسانية، والتضامن، والعمل الجماعي، والمصير المشترك. ومعها اختفت تلك الأعمال العظيمة في الشعر والفلسفة والرواية والتشكيل والعمارة.
حلت محلها وحدتنا مع الـ«تويتر»، الذي يقرر مصائر العالم الآن من غرفة منعزلة، ومناجاتنا في «فيسبوك»، الذي صار «أخاً أكبر» لنا، أين منه أخ جورج أورويل، والفساد الذي وصل حتى إلى آلهة الأولمب، حراس كلماتنا وكتبنا، القابعين في أعلى صرح يطل من علٍ علينا، ويقرر ذائقتنا ووجداننا.
أية سمة تميز عصرنا الذي نعيش؟ ما هي سمة هذا العصر؟ لا نكاد نجد سمة واحدة تشير إليه، وتدل على جوهره. لا نرى منه سوى سطح مبهر، مزركش، قد يكون مطلياً بالذهب، لكنه يبقى سطحاً... بلا عمق لنغور فيه ونكتشف معدنه.. اختفت الصراعات والأفكار الكبرى التي حركت البشرية لحد الآن.. لم نعد ننظر إلى أفق بعيد بانتظار الذي يأتي، فقد بتنا على يقين كامل بأنه لن ينتهي... وأساساً لا شيء هناك ليأتي. لا شيء ينبئ أنه موجود. وفي حالة كهذه لا نملك سوى أن نتمدد مسترخين على السطح، سطح العقل والروح.
الكل عارٍ على السطح، وهو فخور بذلك، كأن البشرية تعبت من كل صراعاتها مع نفسها، واستكانت لتلهو بحوافها الريح كما تشاء، بينما «يظل المركز يدور... ويدور»، كما كتب وليم بتلر ييتس في بداية القرن العشرين.
العصر الذي لا سمات له
العصر الذي لا سمات له
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة