أفلام رعب حديثة بأبعاد جديدة وقديمة

أعداؤها من الداخل والخارج على حد سواء

{أخرج} بوادر القلق الأول
{أخرج} بوادر القلق الأول
TT

أفلام رعب حديثة بأبعاد جديدة وقديمة

{أخرج} بوادر القلق الأول
{أخرج} بوادر القلق الأول

في الأشهر القليلة الماضية شاهدنا عدداً كبيراً من أفلام الرّعب كالعادة في المواسم التي تسبق أو تلي تلك النّخبة من الأفلام التي تدخل سباق الجوائز السنوية. فهناك أفلام رعب على مدار السنة تقريباً وهي تخلف، من ناحية الكم، ما كان منتشراً في الأربعينات والخمسينات من أفلام الوسترن التي كانت تسود سنوات تلك الفترة من دون منافس فعلي.
لكن قلة من أفلام الرعب هي تلك التي تفرز خلال المشاهدة وبعدها ما يتجاوز عوامل التخويف. It على سبيل المثال، نضح بمواقف تجمع بين مراهقين وسر من الماضي يرتدي ثياب وحش طليق، لكن ما بين انتمائه لسينما التخويف وبين خلاصته الموضوعية لا يوجد ما يؤدي لرسالة اجتماعية أو سياسية عاكسة لمضمون معمّـق.
«جرائم فيليسكا بالفأس» لتوني فالنزويللا يرمي إلى تقديم قاتل يضرب بالفأس ولا أكثر من ذلك، في حين أنّ الأجزاء التالية من The Ring وSaw ليست سوى مشاهد من حفلات تعذيب مختلفة تنتمي، كما في أفلام أخرى مشابهة، إلى حالات منعزلة. في «الحلقة» شريط يفتح الباب أمام الماضي وفي السلسلة الأخرى، سجناء يحاولون البقاء على قيد الحياة في غرف تحت أرضية منعزلة.
وجه آخر
لكن ما شاهدناه في نحو متعاقب خلال الأشهر الأربعة الماضية كفيل بإعادة أفلام الرّعب إلى أدوارها المفقودة عندما كان الفيلم منها هو إعلان موقف ما حيال موضوع يتجاوز فعل الخوف بصرف النظر عن مصدره. هذان الفيلمان هما «أخرج» (Get Out) لجوردان بِل، والثاني والأحدث: «مكان هادئ» لجون كرازنسكي.
ما يجمع بينهما هو وجود عدو مدمر. صحيح أنّ لكل فيلم رعب أعداءه وأشراره سواء من الآدميين أو من المخلوقات المتوحشة الآتية، ربما، من العالم البعيد، إلّا أنّ العدو في هذين الفيلمين ليس فقط هيئات شكلية لوحوش أو حالات لآدميين ينتقلون إلى الجريمة الوحشية، بل هو عدو كامن في المجتمع ذاته. لا يمكن صرفه بتجاهله ولا تؤدي مواجهته إلّا لكشفه وخطره.
إلى جانب تقديم الفيلمين عدواً يمثل وضعاً وليس مجرد شكل مخيف، فإنّ الملاحظة المهمّـة الأخرى هي أنّ مصدر هذا العدو يختلف على نحو تناقضي. في «أخرج» هو عدو يكمن في داخل المجتمع الذي تقع فيه الأحداث. في «مكان هادئ» هو عدو يكمن في خارج ذلك المجتمع. في الفيلمين المجتمع هو واحد: الزمن الحاضر في الفيلم الأول والزمن القريب المقبل في الفيلم الثاني وكلاهما يدور في أميركا اليوم. كلاهما عن خطر، لكنّ الخطر داخلي في الأول وخارجي في الثاني.
«أخرج» هو عن الوجه العنصري المتجذر، حسب الفيلم، والمتواري وراء ظلالات هشّـة. كريس واشنطن (دانيال كاليويا) أفرو - أميركي عادي الشأن لديه فتاة بيضاء (أليسون ويليامز) توضح المشاهد الأولى بينهما عن حب يريدان تتويجه بالزواج. لذلك، ومن باب التمهيد، يقرّران زيارة عائلتها الثرية التي تعيش خارج المدينة. يسأل كريس صديقته روز عن شكل اللقاء المتوقع مع عائلتها من منطلق أنّه أسود البشرة. إنّه قلق داخلي يبدو طفيفاً ويتم ذكره مرّة واحدة خلال مطلع الفيلم وجوابها عليه أنّ والديها منفتحان وأن كريس لا يجب أن يقلق.
العكس التام هو ما سيحدث. طبعاً اللقاء في البداية ودي للغاية. الأب (برادي ويتفورد) والأم (كاثرين كينر) يغمران كريس باستقبال بشوش وتودّد ظاهر. الوحيد الذي يكشف عن عداوته هو ابنها الشاب جيريمي (كالب لاندري جونز). لاحقاً ما سيتبدى لكريس أنّه وقع، وبرضى صديقته وموافقتها في مصيدة يعدّها أفراد العائلة لمن هم في مثل لونه. وكنّا رأينا في مطلع الفيلم مشهد خطف لشاب أسود أخطأ العنوان فدخل حياً راقياً يقطنه البيض. سيارة تلحق به وتخطفه. لاحقاً ما نرى هذا الرجل موجوداً في الحفل الذي أقامته العائلة في دارها الواسع. نشاهده وقد تم تطويعه وخسر هويته وبدا كما لو أنّ الحياة النوعية خرجت من بين جوانبه كما فعلت مع الخادمة السوداء التي باتت تشبه الروبوت.
المفاد الناتج عن ذلك ليس أنّ العنصرية في أميركا ما زالت موجودة (مثل هذا التقرير نجده في نشرات الأخبار التلفزيونية)، بل في أنّها عميقة التّجذر في النفوس. عائلة أرميتاج لا تختلف عن عصبة الكوكلس كلان إلّا في أنّها كاذبة حين تعبر عن انفتاحها وفي أنّها مستعدة لممارسة نوع متقدم من تطويع الرجل الأفريقي ليكون عبداً من صنع العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين.
إنّه العدو الداخلي الذي يشير إليه الفيلم بسبابته. تحت رماد الماضي لا تزال هناك نار مستعرة. وبعيداً عن أحداث دامية تعرّض فيها السود لعنصرية عنيفة من البيض (رجال شرطة أو مدنيين)، هناك أحداث مخيفة تقع وتنطلق من خفايا النفس وتسلك طريقاً يبدو أليفاً وودوداً إلى أن يكشف عن ذاته.
عدو بيننا
في «مكان هادئ» الذي انطلق لعروض ناجحة قبل أسبوعين (وحط في المركز الأول تماماً كما فعل «أخرج» من قبل)، هذا العدو آت من الخارج.
الزمن هنا قريب (بعد عامين فقط من الآن) خلالها استُعمرت الأرض من قِبل مخلوقات (فضائية؟) غريبة تصطاد ضحاياها بالسمع فقط. لذلك من بقي حياً من البشر لا يستطيع إصدار أي صوت إذا ما أراد البقاء حياً. الناس تعيش في صمت دائم صعب التطبيق.
نفهم أنّ احتلال تلك المخلوقات للأرض شاسع، لكنّ نجاح المخرج جون كرازينسكي الأول هو تقديم نموذج مصغّــر لحالة أكبر حجماً.
إنّها عائلة بيضاء قوامها الأم إيفيلين (إميلي بْـلنت) والأب لي (كرازنسكي) والفتاة ريغان (ميليسنت سيموندز) والصبي ماركوس (نوا جوب). هذه تعيش في ركن من غابة بعد أقل من سنة على انتشار وحوش تسترق السمع على البشر وتقضم حياة من يطلق صرخة أو يُصدر صوتاً. لذلك تعيش العائلة في السر داخل بيت (أقرب إلى كوخ كبير) مستسلمة لشروط البقاء أحياء عبر عدم الحديث أو إصدار أي صوت مهما كانت الدواعي. في مشهد مفزع تدوس الأم خلال نزولها سلماً يؤدي إلى غرفة تحت الأرض على مسمار كبير فينغرس في قدمها. لا تستطيع إطلاق صرخة الألم ويتركنا الفيلم أمام الإحساس بها فقط.
في مشهد آخر لها تنجب طفلاً لا يستطيع كتم بكائه ما يضعها والعائلة في حال أصعب. كل ذلك والزوج يحاول من مطلع الفيلم حتى نهايته القيام بمسؤولياته حيال حماية العائلة كاملة.
«مكان هادئ» يكاد أن يكون فيلم رعب كامل المواصفات على هذا الأساس. فيلم تستطيع أن تجد له ظلالاً سابقة وأخرى لاحقة لولا أنّه في الوقت ذاته فيلم يحمل في جانبه موضوعاً اجتماعياً مهماً. هو غلاف لما يكمن في داخله تماماً كحال «أخرج».
لكنّ الفارق هو أنّ فيلم جوردان بل يتحدث عن عدو يعيش بيننا، يتحدث «مكان هادئ» عن عدو يحطّ علينا. هذا الوضع ليس المحتوى الكامن في عمقه بل حقيقة أنّ هذا الاحتلال آت من منبع غريب. بالتالي هو غزو من جانب قوى شريرة تترصد الأميركيين وتلتهمهم.
لتأسيس ذلك، يختار كرازينسكي عائلة بيضاء (على أساس أنّها ما زالت رمزاً أميركياً أكثر من سواها من الأعراق) وواقع أنّها عائلة يرمز بدوره إلى جذور الحياة الأميركية المهددة من عوامل خارجية. هي عائلة معبّـرة عن معظم الأميركيين المشتركين معها في لون البشرة وفي التكاتف العائلي.
في زمن مضى كان يمكن لهذا الوضع أن يحمل رمزاً مختلفاً كالغزو الشيوعي الذي أثار مخاوف الشعب والمؤسسة في الولايات المتحدة فتناولته أفلام رعب وخيال - علمي متعددة من أبرزها «غزو ناهشي الجسد» Invasion of the Body Snatchers لدون سيغال (1958).
هذا الفيلم تم إعادة صنعه مرتين سينمائيتين لاحقاً. مرة على يدي فيليب كوفمان سنة 1978 ومرّة بعنوان Body Snatchers من إخراج آبل فيرارا سنة 1993. ويستطيع الملم أن يلحظ اختلاف الرسالة الضمنية. فبعدما كانت تعنى بإظهار خطر حدوث غزو شيوعي لأميركا يسطو على الشخصية الأميركية ويدجنها، ابتعد فيلم كوفمان عن التصدي لمفادات سياسية وأطلق فيلم رعب جيدا كما هو بأقل ما يمكن من مفادات، نسخة فيرارا جاءت تابعة لموسم سياسي مختلف. في التسعينات وبعد أن خرجت الولايات المتحدة من حرب كبيرة (فيتنام) دخلت حرباً كبيرة أخرى (أفغانستان والعراق). نسخة فيرارا تدور حول غزو التطرف العسكري للولايات المتحدة.
فن جيد
بين نسخة كوفمان ونسخة فيرارا ولدت نسخة أخرى لغزو مختلف. المخرج جون كاربنتر (الذي كان حصد شهرته بعد تحقيقه ما تحوّل إلى جزء أول من سلسلة «هالووين») أقدم على تحقيق فيلم بعنوان «يعيشون» (They Live) سنة 1988. فيلم مر تحت رادارات النقد (العربي خصوصاً) على أساس أنّه مجرد فيلم رعب لا يستحق الوقت ولا يستأهل الكتابة عنه.
لكن «يعيشون» هو تحديداً العمل السياسي الأهم بين كل ما حققه المخرج كاربنتر من أفلام. والسبب هو أنه حكايته (نظارة تكشف عن أن معظم الأميركيين هم مخلوقات مخيفة) لا ترمز فقط إلى مبدأ غزو ما بل تربطه بالمؤسسة الاجتماعية القائمة على المبدأ الاستهلاكي في ظل مؤسسات اقتصادية تستخدم الأمن لتثبيت موقعها. في النظرة الأولى هم غزاة من الفضاء يحتلون أجساداً آدمية. في النظرة الثانية هم رمز للفارق الكبير بين الفقراء والأغنياء. المواطن الأميركي العادي (يؤديه رودي بايبر) سيكتشف الحقيقة دوما كلما وضع النظارة الخاصة على عينيه. الإعلان التجاري على المبنى واضح بلا نظارات، بنظارات ينقلب إلى كلمة واحدة تدعو للطاعة. من دون نظارات يرى حفنة الدولارات كما هي. حين يضع النظارة تنقلب إلى عبارة تدعو لعبادة المال فقط. سيجد أنّه مهدّد لأنّه يعرف الحقيقة ولم يتحوّل بعد إلى شكل لا كيان له. كل ذلك وسط ربط الحكاية بفترة حدوثها خلال الحقبة الريغانية.
والخطر الكامن في المؤسسة يتضح في سلسلة من أفلام الرعب كما أطلقها كل من جورج أ. روميرو في سلسلة «ليلة الأحياء الموتى» في أواخر الستينات، و- لاحقاً - وس كرافن في سلسلة «كابوس شارع إيلم». في الأولى الزومبيز هم نتاج اجتماعي هيمنت عليه القوى السياسية والإعلامية والاقتصادية، وفي الثانية هي حقائق من الحياة تتضح كلما استسلم الشخص للنوم. ولكرافن أيضاً أفلام رعب هي أكثر اتصالاً بمعاداة الحرب الفيتنامية وتصوير مآلاتها على أساس الضرر التي أدت إليه مثل «الهضاب لها أعين» (جزأين).
كل واحد من الأفلام المذكورة لديه حسنات في الكتابة والإخراج وشتى العناصر الفنية ما يجعل تناولها كأعمال رعب بمنأى عما ترمز إليه ممتعاً بحد ذاته. كل منها ينجح في تصوير هيمنة الخطر على الأنفس والهوية الفردية أو الجماعية. وكل منها يحفل بمرجعيات لأفلام حملت قبلها مثل هذه المسائل وكانت بدورها من أفضل ما أنجبته السينما في تاريخها.
بالعودة إلى آخرها: «مكان هادئ» فإنّ الصمت الذي يقطع أوصال العائلة يتوازى، في أهميته، مع حقيقة أنّ الفيلم بلا فصل ثالث. هناك التمهيد لكل شيء (الفصل الأول) ثم الحبكة (الفصل الثاني). أمّا الفصل الثالث الذي هو عادة ما يحمل الذروة النهائية وحلولها فهو غائب. ينتهي الفيلم لا بنصر بين للأميركي ولا بهزيمة مدمرة للغازين (على الرّغم من مشهد فرارهم)، بل بإيحاء أن المسيرة الصامتة للبقاء على قيد الحياة ستطول.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)