معرض فني مصري لذوي «التوحد» يخفّف نوبات التوتر والقلق

عبر ورش عمل استغرقت 7 أشهر

محمد أمام لوحته في المعرض
محمد أمام لوحته في المعرض
TT

معرض فني مصري لذوي «التوحد» يخفّف نوبات التوتر والقلق

محمد أمام لوحته في المعرض
محمد أمام لوحته في المعرض

تحولت قاعة «آدم حنين» في مركز الهناجر للفنون بدار الأوبرا المصرية إلى عالم من الألوان ملكاً لمتحدّي الإعاقة الفائقين من ذوي التوحد وصعوبات التعلم، حيث عُرضت عشرات من اللوحات والتماثيل الجماعية لهم التي تحاكي الأعمال الإبداعية العالمية لفنانين مثل بيكاسو وفان جوخ وبيت موندريان وآخرين بإشراف جمعية «التقدم لذوي الإعاقة والتوحد»، ضمن شهر الاحتفال بالتوحد.
يقول عمر عبد الكريم، مشرف الورشة وأحد مسؤولي جمعية «التقدم لذوي التوحد»، إنّ المعرض يستعرض المدارس الفنية المختلفة التي أثرت في حركة الفن التشكيلي بفنانيها البارزين، وقد جرى اختيار اللوحات على أساس سهولة الخطوط وتعدد الألوان حتى تكون قريبة من المشاركين من ذوي التوحد وصعوبات التعلم. مضيفاً أنّ العمل عليها استغرق 7 أشهر كاملة، بداية من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، وتكونت مجموعات عمل وفقاً للمعايير العلمية، على ألا يزيد عدد المشاركين في كل مجموعة على 4 أطفال، كما جرى مراعاة اختلاف المهارات والقدرات حتى يتكامل أطراف المجموعة الواحدة ويكمل بعضهم بعضاً.
لم يكن الأمر سهلاً على الإطلاق، وفق ما يؤكده عمر، قائلاً: «أطفال التوحد بشكل عام لا يميلون إلى العمل الجماعي، إلا أنّ صبر المشرفين معهم، وإدماجهم في نشاط ممتع كالرسم، أدى إلى استجابتهم وتعديل سلوكهم حتى إنّهم كانوا يلتزمون بكل تفاصيل تقسيم العمل، ويجتهدون في إنهائه».
أمام لوحة تمثل محاكاة لأعمال أنطونيو بادرون ممثل المدرسة التعبيرية التجريدية، وقف بلال يحيى مبتسماً، كي تتمكن عائلته من التقاط صور له بجانب اللوحة التي شارك بها في المعرض، مع 12 طفلاً آخرين. بدا بلال فخوراً بقدراته الفنية، وقال عن لوحته بطريقته العفوية: «رسمت اللوحة ولوّنتها، وتركتها كي تجف».
لبنى عادل، فتاة عشرينية، واحدة من أبرز وجوه التوحد في مصر، كانت تتنقل في القاعة بين الحضور ببهجة، تحيّي الجميع بابتسامتها المرحة، باحثة عن لوحاتها الثلاث التي شاركت بها خلال المعرض.
توقفت لبنى أمام لوحة هي محاكاة لعمل لاريك فوج، ممثل المدرسة التكعيبية التحليلية، وأشارت إلى اسمها المدوّن أسفل اللوحة، ضمن مجموعة مكونة من 10 أفراد، وأكدت أنّها تهوى الرّسم والتلوين والعمل الجماعي، وأنّها تستطيع رسم أي شيء.
بعد ذلك بدأت لبنى في شرح الألوان التي استخدمتها خلال مراحل تنفيذ اللوحة التي كان أبرزها الأحمر والوردي والأزرق، وهي الألوان المفضلة لديها.
في السياق نفسه، وقف الصديقان محمد وعمرو أمام 3 لوحات تمثل محاكاة لأعمال بيكاسو، يلتقطان صور (السيلفي) مبتسمين ويرددان حبهما لأعمال بيكاسو التي علّمتهما مهارة الرسم، إذ كان قد سبق تنفيذ العمل الفني، تدريبٌ على التلوين ونقل الصور من الورق الشفاف.
إلى ذلك، قالت صفا إبراهيم، مشرفة أعمال الصديقين، إنّها لجأت إلى رسومات بيكاسو، بسبب سهولة خطواتها وإمكانية تعليمها، خصوصاً بالنسبة إلى لوحاته الخاصة بالوجوه، بينما استغرق العمل على اللوحتين شهرين كاملين.
فن النحت أيضاً كان حاضراً، إذ قال الشاب عمر الدمرداش، إنّ العمل على التمثال الذي شارك به في المعرض استغرق شهرين كاملين، مؤكدا أنه تطلب منه جهداً كبيراً.
بدوره قال محمود فؤاد نائب مدير التربية الخاصة للفصول الكبرى، في جمعية «التقدم للأطفال ذوي التوحد»، إنّ تفريغ طاقة الأطفال ذوي التوحد وصعوبات التعلم في نشاط فني، هو أمر بالغ الأهمية، وظهر أثر ذلك من خلال ورش العمل الخاصة بالمعرض، حيث لم يتغيب الأطفال عن الورش طوال الأشهر السبعة، كما انعكست المشاركة في تعديل سلوكهم.
وينصح محمود، عائلات الأطفال ذوي التوحد وصعوبات التعلم، بضرورة المساعدة في دمجهم في الأنشطة التي تعتمد على إبراز مهارتهم، خصوصاً تلك الفنية، ويمكن الوصول إلى الجلسات الخاصة بتعليم الفنون لذوي التوحد عن طريق الإنترنت في حال عجز الأسرة عن الاتصال بمتخصص، وذلك حتى تقل الأعباء النفسية عن الطفل، ويصبح أكثر قدرة على التعامل مع محيطه والاندماج به، وبالتالي تقل نوبات التوتر والغضب.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)