النووي الإيراني أم «قضينة» العالم العربي

لا ينبغي التخوف منه وحصول طهران عليه سيروّض سلوكها

النووي الإيراني أم «قضينة» العالم العربي
TT

النووي الإيراني أم «قضينة» العالم العربي

النووي الإيراني أم «قضينة» العالم العربي

«قضينة» العالم العربي أو حتى «قضينة» الشرق الأوسط، تعني تحويل المنطقة من مجموعة دول ذات سيادة لها حكومات وبها شعوب كما هو متعارف عليه في العلاقات الدولية إلى حزمة من القضايا والملفات وتهميش فكرة الدولة كلاعب رئيس أو حتى دور شعوبها وقياداتها. الناس العاديون بحاستهم الفطرية يؤكدون كل يوم على رفضهم لفكرة «القضينة» التي تحاول تفريغ الدول من شعوبها ويعلنون ذلك صراحة من خلال احتجاجاتهم اليومية. فهل احتجاجات ما سمي بالربيع العربي هي رفض لقضينة العالم العربي، أم أن هناك وجها آخر لهذه الاحتجاجات يهدف إلى إسقاط الدولة كما في الحالة المصرية، وبالتالي تصبح هذه الاحتجاجات امتدادا لفكرة قضينة الدولة العربية؟ وهل يمكن اعتبار أن النووي الإيراني هو سقف «قضينة» الشرق الأوسط؟
هنا أحاول وضع سياق نظري وتحليلي لما نراه يتكشف أمام أعيننا، ولكننا لا نعرف له اسما بعد.
منذ سنوات والغرب يتحدث عن منطقتنا كمجموعة من الملفات والقضايا، آخرها الملف النووي الإيراني، ومن قبله كانت قضية الكيماوي السوري، ومن قبلها الحديث عن ملف «القاعدة» والإرهاب وقضية الديمقراطية وحقوق الإنسان، وقبل كل هذا وذاك كانت محاولة نقل اغتصاب الصهاينة لفلسطين لمجرد قضية، وهناك مناطق كاملة مثل الخليج العربي يتم الحديث عنها منذ السبعينات في القرن الماضي على أنها قضية أمن الطاقة أو توصيل الطاقة إلى العالم الصناعي. وقبلنا نحن في عالمنا العربي بهذا، كما قبلنا من قبل طواعية أن نسمي ما يحدث في فلسطين بالقضية الفلسطينية - أي لا فلسطين هناك - هي مجرد قضية لاجئين وسكان، وفي أحسن الأحوال نسميها Palestinian issue أو المسألة الفلسطينية.
ماذا تعني فكرة «قضينة» الشرق الأوسط بالنسبة للمصالح العربية التقليدية. «قضينة» الشرق الأوسط تعني أن الانتقال من عالم الجيوبولتكس الذي نعرفه في عالم الدول التي أساسها أرض وحدود معروفة، إلى تهميش فكرة الأرض والتعامل مع القضايا عابرة الحدود من إرهاب وأسلحة نووية أو كيماوية أو حتى قضايا مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهذا يعني إغفال قضية الأرض في منطقة الصراع الأساسي فيها على الأرض والحدود في فلسطين التي تحتلها إسرائيل، أو في الجولان السوري المحتل، وكذلك جزر أبو موسى والطنب الصغرى والكبرى الواقعتين تحت الاحتلال الإيراني، أو سبتة ومليلية المغربية التي تقع تحت الاحتلال الإسباني. إذن «قضينة» الشرق الأوسط تعني أول ما تعني تغيير الموضوع. فبدلا من الحديث عن الاحتلال الإسرائيلي نتحدث عن الإرهاب وعن عنف الفلسطينيين تجاه إسرائيل، وبدلا من أن نتحدث عن التمدد الإيراني في العراق وسوريا وعن حزب الله الذي حول الدولة اللبنانية إلى رهينة إيرانية، أو عن احتلال إيران لجزر الإمارات الثلاث أبو موسى والطنب الكبرى والصغرى.. بدلا من هذا كله، نتحدث عن النووي الإيراني أو الكيماوي السوري. نحن أمام محاولة فجة لتغيير الموضوع في المنطقة العربية ولفت الأنظار بعيدا عن جيوبولتيكا المنطقة وعن الأراضي العربية المحتلة إلى مجرد قضايا قد تحل أو لا تحل على المدى المتوسط أو تقذف بعيدا على المدى البعيد حال تأزم الأوضاع ووصولها إلى النقطة الحرجة. على سبيل المثال، عندما قامت الانتفاضة الفلسطينية في نهاية الثمانينات من القرن الماضي سلطت الضوء بشكل رائع على أن هناك شعبا فلسطينيا ينتفض ضد الاحتلال وأن هذه الأرض ليست خالية من سكانها كما صور للعالم، عندها سارع الإسرائيليون ومعهم الأميركيون إلى اختراع فكرة عملية السلام. فالأساس في عملية السلام من وجهة نظر جماعة «قضينة» الشرق الأوسط هو ليس السلام بل العملية. وها نحن ومنذ أكثر من عشرين عاما ونحن نتفاوض، فالعملية أجلت فكرة الحل الذي أنتجته الأزمات المتعاقبة الناتجة عن الانتفاضات الفلسطينية. وربما يكون الشيء نفسه بالنسبة للثورات العربية منذ عام 2011.
الأساس في «قضينة» الشرق الأوسط هو إبعاد العيون عن إمكانية التوصل إلى حل، أيضا تغيير الموضوع بعيدا عن الثورات في سوريا ومصر وتونس وإلهاء الناس بقائمة من القضايا مثل النووي والكيماوي والإرهاب. كما كان الحديث من قبل عن قضية المياه على أنها الصراع القادم في الشرق الأوسط، وذلك بعد أن أعلنت الدول العربية النفطية بقيادة الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز عام 1973 المقاطعة النفطية للغرب، كمحاولة للتقليل من أهمية النفط العربي من ناحية ولنقل الحديث بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعيدا عن سطح الأرض إلى جوف الأرض، ونقل الحديث أيضا بعيدا عن أهمية البترول الذي يمنح العرب ميزتهم النسبية في الصراع العربي الإسرائيلي، إلى الحديث عن المياه بما فيها إلهاء أغنى دولة في المنطقة بالمياه مثل مصر بقضية السدود الأفريقية. الأساس ليس المياه وإنما تغيير الموضوع و«قضينة» العالم العربي.
«قضينة» الشرق الأوسط أيضا هي تبني الصراعات التي تعكس تجمعات أكبر من الدولة، مثل قضية الصراع السني الشيعي الذي لاح في الأفق بوضوح أكبر بعد الاحتلال الأميركي للعراق بعد سقوط صدام حسين. هذا الصراع الذي بدأ التنظير له في واشنطن في سياق نقل الصراع الإسلامي الأميركي داخل الفضاء الإسلامي نفسه وغرق الناس في تفاصيل هذا الصراع وتبعاته السياسية، مثل أيهما أفضل كحليف لواشنطن في «الشرق الأوسط»: الشيعة أم السنة؟ وكتبت في هذا كتبا وأوراق عمل معظمها كان يقول بأن الرؤية التقليدية كانت تقول: إن الشيعة متمثلين في إيران هم أعداء واشنطن، وجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 لتثبت أن السنة هم الخطر الحقيقي. وبدأ هذه المقولة المؤرخ المتخصص في التاريخ العثماني برنارد لويس وتبعه الأستاذ في جامعة جونز هوبكنز فؤاد عجمي، ثم تبعهما الإيراني والي نصر الذي حل محل فؤاد عجمي في برنستون بعد أن غادر عجمي إلى ستانفورد. المهم هو أن التنظير للصراع السني الشيعي والسياسات الناتجة عنه كان محور تفكير كبير في واشنطن، وقبلها كان الحديث عن تيارات ما تحت الدولة من «المناطقية» «والقبلية» في إطار تقسيم الدول والذي بدأ الحديث عنه في البنتاغون من خلال أبحاث متطرفين يمينيين مثل الباحث الفرنسي الأميركي لوران مورافيك الذي دعا بشكل فج بعد 11 سبتمبر 2001 إلى تقسيم السعودية. ولم يتوقف مورافيك عند بحثه الذي عرض له في البنتاغون عام 2002، بل أصدر كتابا فيما بعد بعنوان «أمير الظلام» يصور السعودية كعدو لدود لأميركا ومصالحها في الشرق الأوسط. قضية تقسيم الكيانات السياسية استمرت وأتت أكلها من خلال نجاح التقسيم في السودان، والآن يستمر حديث التقسيم ليشمل كلا من ليبيا والعراق وأخيرا نرى هذا الطرح في المسألة السورية من خلال إقامة دولة للعلويين وأخرى للأكراد. كل هذا يصب فيما أسميه بـ«قضينة» الشرق الأوسط، أي تجاوز الدولة وقادتها أو محاصرتها والالتفاف حولها، وما النووي الإيراني إلا حلقة متقدمة في «قضينة» المنطقة العربية.
وهكذا يصبح الشرق الأوسط العربي هو مجموعة قضايا وليس دولا وشعوبا وحكومات، كما هو متعارف عليه في التعريف الكلاسيكي للعلاقات الدولية. المنطقة العربية اليوم هي حزمة من القضايا تبدأ بالنفط وأمن الطاقة وأمن إسرائيل والأسلحة البيولوجية والكيماوية والنووية وقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان واللاجئين الفلسطينيين أو الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا وعملية السلام إلى آخر قائمة طويلة من القضايا تحاول تهميش دور الدولة والقيادات المحلية حتى يتم تدريجيا ليس تدويل الأزمة السورية أو القضية الفلسطينية فحسب، وإنما تدويل العالم العربي برمته. قد يرى البعض في هذا قراءة غير مبررة بالنسبة للاتفاق النووي الأخير بين إيران ومجموعة 5+1 الغربية، ولكن بربط القضايا بعضها ببعض تتضح ملامح مشهد استراتيجي جديد للشرق الأوسط عموما، والمنطقة العربية خصوصا.
ماذا تعني «قضينة» الشرق الأوسط بالنسبة لفهمنا لطبيعة العلاقات الدولية في الشرق الأوسط؟
معظم الطلاب الذين يدرسون لدرجة الدكتوراه أو الماجستير في العلاقات الدولية قد يحارون في فهم «القضينة» وعلاقتها بتحويل قضايا الشرق الأوسط من صراع جيوبولتيكا إلى حزمة من القضايا تجعل دم المنطقة موزعا بين القبائل كما يقال. فكيف لهم أن يفهموا هذه التحولات التي لا تفسرها نظرية بعينها قد درسوها، فهم يقضون شهورا طويلة لمناقشة المدارس الفكرية والنظريات الحاكمة للعلاقات الدولية من المدرسة الواقعية التي ترى أن النظام الدولي هو نظام «كل دولة تساعد نفسها بنفسها» (self help system) بحجم قدراتها، إلى المدرسة المثالية التي ترى أن القيم هي الحاكم في العلاقات الدولية في نظرية السلام الديمقراطي (الديمقراطيات لا تحارب بعضها بعضا)، إلى نظريات أخرى كثيرة تجمع بين عناصر مختلفة من النظريتين السابقتين أو تعدلهما مثل نظريات جوزيف ناي وربورت كوهين في الاعتماد المتبادل للشعوب الذي سبق الحديث عن العولمة أو بشر بها، وفوق كل هذا وذاك وبعد ظهور مدارس مختلفة مثل البنيوية بدأ الكثيرون يركزون على بنية النظام الدولي ذاتها structure على أنها هي التي تحكم العلاقات الدولية، وبعدها ظهرت فكرة دوافع سلوك الدول في نظرية structure - agent. الواقعية تركز على الدولة الوطنية كفاعل رئيسي في العلاقات الدولية agent وتأخذ في الاعتبار البنية السياسية للنظام الدولي. ماذا تعني هذه النظريات في فهم ما يحدث في منطقتنا وما علاقتها بما اسميه «قضينة» الشرق الأوسط على ضوء ما حدث في الملف النووي الإيراني؟
الملف النووي الإيراني يكشف بما لا يدع مجالا للشك بأن سياسة إدارة أوباما تجاه الشرق الأوسط لا تحكمها أي نظرية معروفة في العلاقات الدولية من حيث فهمها لطبيعة العلاقات الدولية في الشرق الأوسط عموما وفي منطقة الخليج العربي خصوصا. فرغم أن أميركا ملتزمة بتوازن القوى كمفهوم حاكم في فكرة التفوق النوعي لإسرائيل على جيرانها كأساس للواقعية السياسية فإنها تخل بذات التوازن في سلوكها تجاه إيران التي كانت المستفيد الأول من مغامرات أميركا في المنطقة من أفغانستان إلى العراق والتي أدت إلى تعاظم الدور الإيراني وتمدد إيران على الأرض من العراق إلى سوريا إلى لبنان مضافا إليها دورها المشاغب في البحرين.
فهل القائمون على «قضينة» الشرق الأوسط والخليج يريدون أن تقوم أميركا بدور القوة التي تضبط توازن القوى مع إيران وتهميش الدول العربية في هذا الشأن؟ وهل القضينة تعني أن يصبح العالم العربي هو مجرد مجموعة قضايا تتحكم فيها دول الجوار غير العربي من إسرائيل لإيران إلى تركيا؟ وهل التعاون التركي الإيراني الجديد في سوريا وما بعدها هو امتداد للتعاون الاستراتيجي بين تركيا وإسرائيل، وتقوم الولايات المتحدة بدور القوة التي تحفظ التوازن؟ هل المعادلة الجديدة هي توريد البترول للغرب والولايات المتحدة تحديدا واستيراد الأمن الإقليمي؟
لست من المرتجفين من القنبلة النووية الإيرانية، بل إنني على العكس أرى في حصول إيران على القنبلة ترويضا لسلوكها وليس العكس. إيران التي على الحافة كما هي الآن تتبنى حزمة سياسات عدائية تجاه العرب وتمددت في الفضاء العربي بأكثر من قدراتها وحجمها، ولكن إيران النووية لن تغامر وستنكفئ على نفسها للحفاظ على قنابلها لا للحفاظ على حزب الله أو المالكي أو الأسد. الواقعية السياسية ترى أن الردع النووي هو أفضل الحالات لتجنب الصراع بين الدول، فرغم أننا نرى صراعات تقليدية كثيرا فإن الردع النووي أثبت أنه يحفظ السلم أكثر من أنه خطر. ولعل باكستان والهند النوويتين خير مثال على ذلك، فهما رغم خلافاتهما الحدودية الحادة فإنهما لم تدخلا في حرب أو نزاعات مسلحة.. ومن هنا يكون حصول إيران على القنبلة النووية أفضل لأنه سيكون لديها مجموعة قليلة من القنابل تحاول الحفاظ عليها وبهذا تتحول إلى لاعب إقليمي راشد وعاقل بدلا من ممارساتها الخارقة للقواعد الدولية. إذن احتواء إيران أو فرملة برنامجها النووي لا علاقة له بالواقعية السياسية. هو فقط يصب في «قضينة» المنطقة ليس إلا. الغرب يعرف، وكل من درس ألف باء البرنامج النووي الإيراني يعرف، أن إيران ومنذ أكثر من عامين لديها كمية كبيرة من محركات الطرد المركزي القادرة على إنتاج أكثر من قنبلة في غضون ستة أشهر إذا ما شاءت ذلك، وربما لذلك قبلت إيران بفكرة الستة أشهر في اتفاق جنيف لأن هذا الزمن يكفيها لإعلان نفسها قوة نووية حال الإخلال ببنود الاتفاق.
ماذا يعني كل هذا؟
يعني هذا الشرح أول ما يعني، أن الانفتاح على إيران ليس سببه الملف النووي وإنما رسم ملامح مشهد استراتيجي جديد للمنطقة تكون القضايا لا الدول وشعوبها وقادتها هي الأساس. مشهد هدفه إنتاج مجموعة من القضايا تحتفظ بالعالم العربي ولمدة خمسين سنة قادمة مشغولا بالـprocess أو العملية كما تم شغله لمدة عشرين عاما وأكثر بالعملية في عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. الهدف من «القضينة» هو تحويل كل الملفات إلى عالم إدارة الصراعات لا حلها.
المشهد الاستراتيجي الجديد كما أراه، هو تحالف المحور غير العربي المتمثل في إيران وتركيا وإسرائيل لتطويق ما تبقى من دول عربية فاعلة تحد من الهيمنة الإيرانية أو الإسرائيلية أو التركية على المنطقة. ولكن من يتابع المشهد يرى أن «قضينة» الشرق الأوسط في التحليل النهائي تساوي مشروع إسقاط الدولة.. ففي اللحظة التي تسمع فيها مثلا بمسمى (مجموعة أصدقاء الصومال)، و(مجموعة أصدقاء اليمن)، و(أصدقاء ليبيا)، والآن (مجموعة أصدقاء سوريا)، ومن الوارد جدا لولا الدعم السعودي الإماراتي الكويتي لمصر لرأينا (مجموعة أصدقاء مصر).. أول ما تسمع بهذه المسميات، فاعرف أن هذه الدول أصبحت قضايا أو تم تدويلها. فعندما نقول (مجموعة أصدقاء) لأي دولة فهو دبلوماسيا معروف أننا إما نتحدث عن دولة فشلت فعلا ومطلوب وضعها تحت الوصاية، أو دولة في طريقها إلى الفشل، أو أنه لم يعد هناك دولة بل قضية أو مسألة the question of Palestine or Syria.. أي أنه تم تدويل الأمر وسقطت الدولة كمثل لشعب وكيان جغرافي أو لاعب سياسي. إذا كان الهدف هو إسقاط ما تبقى من الدول العربية القوية القائمة مثل السعودية ومصر والإمارات، فإن الحل لهذه القضينة يكون في تجمع عربي أمني صريح، شيء أشبه بإعلان دمشق، ولكنه متطور مع دول الخليج (دون قطر) مضافا إليها مصر والأردن (5+2) يكون له برنامج مناورات مشترك مثلا يوحي بأننا أمام حالة دول لاعبة لا مجرد ساحات للعب.
يجب عدم الاستهانة بمشروع «القضينة»، فقد نجحت إسرائيل في إدارة مسألة الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي لأكثر من ستين عاما، وهي قادرة على إدارته لستين عاما أخرى. أميركا والغرب يريدان اعتماد صفحات من كتاب السياسات الإسرائيلية في التعامل مع قضايا المنطقة تدير وتطيل صراع السنة والشيعة مثلا لعشرين عاما، وقضايا المياه والكيماوي والنووي لعشرين عاما أخرى. لا حلول هناك لأي صراع، فقط إدارة صراع.. لا سلام، فقط هناك العملية.. ولا معركة مع إيران أو تغيير نظام في سوريا، فقط إدارة صراع وفي أحسن الظروف تؤدي إدارة الصراع إلى انهيار منظومة الأعداء كما حدث مع الاتحاد السوفياتي سابقا. تم الانفتاح على غورباتشوف وقام هو بنفسه بتحطيم الاتحاد السوفياتي. قد يأمل حسنو النية في إدارة أوباما بأن الانفتاح على إيران هو الطريقة المثلى التي تؤدي إلى انهيار النظام الإسلامي هناك. ولكن هناك فارق كبير بين نظام لاهوتي في طهران ونظام اشتراكي في الاتحاد السوفياتي. فارق بين دولة تكون التقية السياسية عندها عقيدة، ودولة تمارس ما يعرف بالخداع الاستراتيجي. الخداع الاستراتيجي كما لعبة الشطرنج يلعب حسب قواعد معروفة للنصر وللهزيمة، أما التقية السياسية فأساسها إظهار قبول لقواعد اللعبة بهدف تحطيمها.
ومع ذلك، إن لم تكسب أميركا والغرب في انهيار إيران المأمول أو إيقاف برنامجها النووي، تكون قد كسبت «قضينة» الشرق الأوسط. وهذا مكسب لو تعلمون عظيم. التكالب على مقدراتنا من طامع بعيد وجوار غير عربي قريب لا يضمر لنا سوى مزيد من الوهن لنصبح ساحة خلفية لتعاونهم أو حروبهم. إما سوق بضائع أو مسرح حرب، جوار لا يريدنا لاعبين بل يسعى ليجعلنا ساحة للعب. يريدنا قضايا لا دولا تستحق مكانتها تحت الشمس.. ومن هنا، واجب علينا كأكاديميين وأساتذة علوم سياسية، أن نطلق صافرة الإنذار تنبيها من شكل جديد وخطير قادم من الاستعمار والهيمنة، اكتمل أو كاد أن يكتمل اسمه «قضينة» العالم العربي.



«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

TT

«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)
صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)

يطلب مسؤول أمني رفيع في الحكومة العراقية من سائق السيارة أن يسرع قليلاً. عليه اللحاق بطائرة تعيده من دمشق إلى بغداد. واحدة من الرسائل تتدفق إلى هاتفه تقول: «الفصائل السورية في طريقها إلى العاصمة». في مساء يوم السبت السابع من ديسمبر (كانون الأول) 2024 كان المسؤول قد أنهى مهمة روتينية شمال شرقي سوريا، لتنسيق أمن الحدود، لكن البلاد الآن على وشك أن تكون بيد نظام جديد، يشع من أنقاض.

على أسوار دمشق، كانت سيارة المسؤول العراقي تنتظر «ترتيبات استثنائية» مع السلطات الجديدة في سوريا. ونشأت بين الجانبين «اتصالات من عدم».

يقول مسؤول سوري سابق في «إدارة العمليات العسكرية» إنها «المرة الأولى التي تواصلت فيها (هيئة تحرير الشام) مع مسؤول في الحكومة العراقية». ويقول عنصر أمن عراقي كان حاضراً في الترتيبات إن «الأمر تم بسلاسة غير متوقعة حينها، ودخلنا دمشق» رفقة عناصر من «الهيئة» صباح الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024. ثم وصلت رسالة مثل الصاعقة: «هرب (بشار) الأسد».

مطار دمشق بعد سقوط نظام الأسد (أرشيفية-أ.ف.ب)

كان مطار العاصمة السورية مسرح أشباح. حتى ضباط «لواء النقل الجوي» الذين يعرفهم المسؤول العراقي اختفوا. لا أحد يسأل عن تذكرة أو جواز سفر. الممر الخاص بالدبلوماسيين مشرع للرياح. غادر الرجل على متن رحلة استثنائية إلى بغداد.

خلال النهار، تحلق الطائرة وعلى متنها المسؤول الأمني مع حقيبة أسئلة عن سوريا الجديدة. في مسار الرحلة ذاتها، لكن على الأرض، تغادر ميليشيات عراقية كانت تتمركز في سوريا منذ عام 2011. العجلات التي تحركت من ريف دمشق نحو بلدة البوكمال، قرب الحدود العراقية، قطعت رحلة أخيرة باتجاه واحد لمئات المسلحين، تاركين خلفهم خمسة عشر عاماً من «محور المقاومة» ينهار الآن مثل جبل من رمال.

تكشف شهادات خاصة جمعتها «الشرق الأوسط» من شخصيات عراقية ضالعة في الملف السوري قبل هروب الأسد كيف انسحبت ميليشيات من سوريا دون تنسيق، أو ترتيبات مسبقة، وما دار في الكواليس حول رؤيتها لما حدث، وأظهرت لاحقاً أن طهران وموسكو والأسد كانوا قد اتخذوا قرارات عدم القتال في سوريا في أوقات متباعدة، ولم يشاركوا المعلومات المطلوبة مع حلفاء عراقيين إلا في وقت متأخر.

كما تسلط الشهادات الضوء على ردود فعل مجموعات شيعية في أعقاب انهيار نظام الأسد، وصلت إلى المطالبة بتقوية نفوذ الفصائل المسلحة في العملية السياسية العراقية، وتعزيز ما بات يعرف بـ«الحاكمية الشيعية» في بغداد، حتى «تستوعب صدمة أولئك الذين تركوا سوريا».

الرئيس السوري بشار الأسد يصافح رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في دمشق (أرشيفية)

«ليست مناورة... تم خداعنا»

في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، بعد ثلاثة أيام من بدء «ردع العدوان»، أجرى رئيس الحكومة العراقية محمد السوداني مكالمة مع بشار الأسد. يومها كانت فصائل المعارضة السورية قد سيطرت على ريف حلب. وقال السوداني للأسد إن «أمن سوريا يرتبط بالأمن القومي للعراق». في اليوم التالي حاصرت المعارضة حماة. ولم يتصل السوداني بالأسد مرة أخرى.

في نينوى، المحافظة الشمالية القريبة من الحدود مع سوريا كان قادة فصائل شيعية يحاولون إرسال الدعم إلى سوريا، لأنه «مع تحرك الفصائل السورية كان عدد المسلحين الموالين لإيران أقل بكثير عما كانوا قبل سنوات». يقول مسؤول فصائلي في نينوى أيضاً إنهم «أخبروا المقاتلين أن عليكم حماية الشيعة والمراقد في سوريا، وكثيرون تحمسوا».

ويقول كاظم الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء» التي انخرطت في الميدان السوري منذ عام 2013، إن فصيله انسحب من هناك أواخر 2023. ويضيف: «كانت مهمتنا قد انتهت».

أرشيفية لعناصر حركة «النجباء» التي كانت تنشط في شرق سوريا خلال عرض عسكري في بغداد

حتى عام 2018، ازدحمت سوريا بأكثر من 150 ألف مقاتل من «الحرس الثوري» الإيراني، وعناصر «حزب الله» اللبناني، وميليشيات عراقية، وفق تقديرات أمنية عراقية وسورية. بدا أن الجيش التابع للنظام السوري السابق أقل حجماً من كل الحشود الأجنبية. وبحلول ديسمبر 2023 حدث شيء ما، وسمح «الحرس الثوري» الإيراني بمغادرة مجموعات شيعية بعد مشاورات مع الأسد. قيل على نطاق واسع إن «صفقة إقليمية قادت إلى هذا التحول الميداني».

مع انسحاب جزء من الميليشيات الإيرانية وحلفائها من سوريا عام 2023، كان نظام بشار الأسد يحاول استعادة مقعده في الجامعة العربية. وتطلب ذلك منه الكثير من الوقت حتى يمهد لاندماج شبه مستحيل مع العالم العربي، لم ينجح في النهاية.

ومع بدء عمليات «ردع العدوان» في نوفمبر 2024، تقلص عدد الجماعات الإيرانية في سوريا إلى بضعة آلاف، لكن عودة الأسد لم تكتمل.

مع تحرك فصائل المعارضة نحو دمشق، كان الشعور السائد بأن الجماعات الشيعية تتحرك لسد نقص لم تنتبه إليه. في الثاني من ديسمبر 2024، تسلل العشرات من المسلحين ليلاً عبر طريق عسكري غير رسمي إلى الأراضي السورية، وأوقف طيران أميركي طريقهم بقصف أرتال قرب البوكمال. بعد ذلك، كان واضحاً أن الذين تحمسوا لدخول سوريا تراجعوا عن الفكرة.

في صباح اليوم التالي سيطرت قوات المعارضة السورية على 14 بلدة في حماة، وباتت تتفرغ لمعركة حمص. يومها أعلنت كتائب «حزب الله» العراقية أن «الوقت مبكر لاتخاذ قرار إرسال الدعم العسكري إلى سوريا».

ويقول مسؤول في فصيل شيعي مسلح إنه سأل مرؤوسيه في بغداد عن «عمليات ردع العدوان» في أيامها الأولى. قالوا له: «اطمئن... قد تسقط سوريا (بيد المعارضة)، لكن دمشق باقية (يقصد بيد الأسد)». ويضيف: «بعد أسبوع، لم نستوعب ما حدث».

قبل وصول المعارضة السورية إلى حمص، كانت المجموعات الشيعية ترجح أن الأمر سيتوقف هناك. يقول قيادي في فصيل شيعي إن «تقارير استخبارية اطلع عليها مسؤولون في جهاز الأمن الوطني العراقي، وقيادة الحشد الشعبي، وقادة فصائل، أفادت بأن الروس والإيرانيين سيوقفون زحف المعارضة، وأن مدينة حمص ستكون النقطة الفاصلة».

لم يستخدم الروس تفوقهم الجوي إلا بشكل محدود. ومع تحرك فصائل المعارضة من حماة باتجاه حمص في 6 ديسمبر 2024، كانت طائرات يُعتقد أنها روسية ضربت جسر «الرستن» الرابط بين المدينتين بقوة تدميرية لا تمنع عبور الأرتال.

لاحقاً، أظهرت لقطات مصورة من الجو أن الروس احتفظوا بطائرات سوخوي المزودة بالصواريخ في قاعدة حميميم دون استخدامها، وعبرت فصائل المعارضة الجسر إلى حمص التي أضحت محررة بالكامل بحلول فجر 7 ديسمبر 2024.

لقطة من فيديو لقناة «سوريا» تظهر طائرات حربية روسية رابضة في قاعدة حميميم باللاذقية خلال عمليات «ردع العدوان«

الآن، بات كثيرون من «محور المقاومة» أكثر قناعة بأن الزحف السريع للفصائل ليس مجرد مناورة. يقول القيادي الشيعي إنهم في تلك اللحظة فهموا أن «الإيرانيين شاركوا معنا مواقف متضاربة (...) ربما تم خداعهم».

لقد بقي السؤال عن أدوار طهران وموسكو غامضاً. لم تمتلك فصائل شيعية أجوبة حاسمة في الأشهر القليلة التي تلت هروب الأسد. اليوم، يعتقد الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء»، أن «الموقف الروسي والإيراني لم يتغير إلا بعد أن تراجع نظام الأسد، وانهارت القوى الماسكة للأرض، وتحولت المعركة إلى مواجهة مع شعب»، وفق تعبيره.

لكن مصادر من فصائل كانت نشطة في سوريا منذ عام 2013 تحدّثت عن «قرار اتخذته إيران مبكراً بعدم خوض معركة في سوريا بسبب حسابات إقليمية أشد تعقيداً». تقول المصادر إن «إيران لم تكن متأكدة من نتائج لصالحها في حال واجهت زحف المعارضة، لأنها اكتشفت متأخرة أن موسكو باتت تتصرف لوحدها في سوريا».

في النهاية، بدا أن أقطاب التحالف بين موسكو وطهران والأسد ينفصلون عن بعضهم، ويتخذون قرارات ميدانية متباعدة، سمحت بتقدم سريع للمعارضة، وهروب أسرع للأسد. لكن الأكيد من وجهة نظر القيادي الشيعي أن «الجماعات العراقية لم تكن في صلب نقاشات أفضت إلى ما حدث في النهاية».

في تلك اللحظة، كان أكثر من عشرة فصائل عراقية قد أمضت أكثر من عشر سنوات في الجبهة السورية، تورط خلالها آلاف المسلحين في بحر من الدماء.

و«تدور الدوائر»

في السادسة فجراً، يوم 8 ديسمبر 2024، كتب رئيس الوزراء العراقي الأسبق عادل عبد المهدي رسالة عبر «إكس» قال فيها: على الباغي تدور الدوائر. ثم طغت أجواء الصدمة على القوى السياسية الشيعية في بغداد.

يومان بعد التحرير، تكون جميع الفصائل قد غادرت الأراضي السورية، والأسد في موسكو. في 12 ديسمبر 2024، ظهر نوري المالكي وهو زعيم «ائتلاف دولة القانون» وكان حليفاً قوياً للأسد لسنوات، ليصرح بأن «الهدف مما حدث في دمشق هو تحريك الشارع في بغداد». وانفجر الرأي العام بالأسئلة عما حدث.

حاول المجتمع السياسي الشيعي في بغداد استيعاب الصدمة، ونشطت في الكواليس نقاشات عن «مستقبل الشيعة في العراق»، طغى عليها ارتباك شديد، وفق شهادات أشخاص شاركوا في اجتماعات خاصة عقدت في الأسابيع التي تلت هروب الأسد.

وتحدث هؤلاء أن صناع قرار شيعة لم يجدوا أجوبة عما حدث في سوريا، ودور إيران فيه، وواجه كثيرون صعوبات في الإجابة عن سؤال كيف سيتغير العراق والمنطقة بعد الأسد؟.

يقول أحد المشاركين في جلسة خاصة عقدت في يناير (كانون الثاني) 2025 إن الأزمة في سوريا لا تتعلق بهروب الأسد، وانكسار «محور المقاومة»، بل إنها بالنسبة لـ«العراقيين الشيعة تتعلق بإعادة تعريف دورهم بعد سقوط تحالفات وتوازنات قديمة».

جانب من أحد اجتماعات قوى «الإطار التنسيقي» (وكالة الأنباء العراقية)

وظهرت أعراض جانبية لهذه النقاشات الصعبة على الجماعات الشيعية. وروّج كثيرون من بيئة «المقاومة» لمشروع «الفيدرالية الشيعية» التي تمتد من سامراء إلى البصرة، على بحر من نفط. سرعان ما اضمحلت الفكرة مثل رماد بارد.

وتصاعد حديث جاد عن «الحاكمية الشيعية». يقول قيادي في فصيل مسلح إن «القوى الشيعية كانت تركز خلال الأشهر الماضية على تقوية الوضع الداخلي، وتعزيز حضورها في الحياة السياسية، وهذا ما يفسر المشاركة الفاعلة في الانتخابات التي أجريت في 11 نوفمبر 2025، وفوز فصائل مسلحة بمقاعد في مجلس النواب الجديد».

يبدو أن جميع الذين قاتلوا في سوريا فازوا بمقاعد في البرلمان الجديد. لقد حصلت حركة «عصائب أهل الحق» بزعامة قيس الخزعلي على 28 مقعداً داخل البرلمان، وفازت منظمة «بدر» بزعامة هادي العامري بـ18 مقعداً، وحصلت كتلة «حقوق»، التابعة لـ«كتائب حزب الله»، على ستة مقاعد، بينما حصلت قائمة تابعة لـ«كتائب الإمام علي» على ثلاثة مقاعد، وحصل تحالف «خدمات» بزعامة شبل الزيدي على تسعة مقاعد.

ويطرح هؤلاء اليوم مشروعاً انتقالياً يقوم على أدوار شيعية جديدة، يتقدمه طموح متنامٍ لدى قادة مثل قيس الخزعلي لصياغة مظلة تحمي الجماعات الشيعية من التفكك عبر حضورٍ أثقل في مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية معاً.

وفي مارس (آذار) 2025، سئل الخزعلي عن سوريا الجديدة. وقال إن «الدولة العراقية من واجباتها ومن مصلحتها أن تتعامل معها ما دامت تلك الدول والحكومات تمثل دولها».

ويقول قيادي شيعي إن لحظة هروب بشار الأسد لم تكن حدثاً في سوريا بقدر ما كانت زلزالاً في الوعي الشيعي داخل العراق؛ إذ دفعت الجميع إلى إعادة التفكير في شكل التحالفات التي حكمت الإقليم لأعوام طويلة. لكن خلف هذا التحول تبرز أسئلة معلّقة، وشكوك حول «مستقبل النظرية الإيرانية ذاتها» بعدما بدأت تتعرّض لاختلال كبير بعد أربعة عقود من النفوذ المتواصل في المنطقة. يقول القيادي إن «الجواب لم ينضج بعد».


سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
TT

سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)

مع مرور عام على إطاحة نظام بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024، تتابع أوساط سياسية وبحثية أميركية تطورات السلطة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع. ويشير هؤلاء إلى مساعي دمشق لتوطيد العلاقات بالمجتمع الدولي، في وقت تواجه فيه تحديات داخلية تشمل الاستقرار السياسي، وإعادة بناء الاقتصاد، فضلاً عن تحديات خارجية تتعلق برفع العقوبات ومكافحة الإرهاب.

وثمة إجماع بين أوساط أميركية معنية بالملف السوري على أن سقوط الأسد فتح نافذة تاريخية لإعادة بناء البلاد، لكن النجاح يعتمد على ترسيخ نموذج مستقر.

ويرى الخبراء أن الشرع «حقق تقدماً مذهلاً في عام واحد؛ من إنهاء الحرب، إلى الانخراط الدولي، لكنه يحتاج إلى مزيد من الإصلاحات لتجنب احتمالات الفوضى».

ويقول ستيفن كوك، الزميل الأول في «مركز دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا» بـ«مجلس العلاقات الخارجية»، إن «لقاء الشرع مع الرئيس (الأميركي) دونالد ترمب في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 يمكن أن يكون منطلقاً لبدء عمل جاد وواعد في سوريا»، مشيراً إلى أن «رفع واشنطن العقوبات يتزامن مع إظهار دمشق مساعيَ جادة للقيام بإصلاحات سياسية؛ أهمها في (التعامل مع الأقليات ومكافحة التطرف)»، لكنه يحذر بأن «الحكم في بلد مفلس وممزق سياسياً يظل سؤالاً مفتوحاً».

ويشير كوك، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن الانتخابات البرلمانية المحدودة التي جرت في 5 أكتوبر (تشرين الأول) 2025 (التي غطت 119 مقعداً من 210)، كانت «خطوة رمزية مهمة»، لكنها لم تشمل مناطق الدروز والكرد؛ مما قد يعكس «هشاشة الانتقال»، داعياً إلى توسيع الممارسة لتجفيف منابع الانقسام.

الرئيس السوري أحمد الشرع يحضر بدمشق حفل توقيع مذكرة تفاهم للاستثمار في سوريا يوم 6 أغسطس 2025 (رويترز)

تغيير الشرق الأوسط

يشيد آرون زيلين، الخبير في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، بجهود الشرع في مكافحة «داعش»، ويقول إن لديه فرصة لإحداث تأثير إيجابي في منطقة الشرق الأوسط، لكنه نصح الحكومة السورية الجديدة بالتركيز على تفكيك فصائل مسلحة في البلاد.

وعدّ زيلين تصريحات الشرع الإصلاحية بشأن بناء مؤسسات الدولة علامة إيجابية على توجهات حكومته، رغم قلقه من أن الاقتصاد المدمَّر يهدد الاستقرار في سوريا، لا سيما مع التقديرات التي تفيد بأن تكلفة إعادة إعمار البلاد قد تصل إلى 216 مليار دولار.

بدوره، يقول إدوارد جيريجان، مدير «مركز بلفير للعلوم والشؤون الدولية» بجامعة هارفارد، إن الشرع يواجه «اختباراً لإعادة التوحيد» في بلاد متعددة الطوائف والإثنيات، ويوصي بـ«تعزيز الثقة الداخلية» عبر إصلاحات أمنية موحدة.

ويبدي المحلل الأميركي سيث فرانتزمان تفاؤلاً كبيراً بمستقبل سوريا، عادّاً الشرع «رجلاً مثيراً للإعجاب ومغيراً للعبة»، ويصف التحول في سوريا في أقل من عام بـ«الجنون المطلق»؛ بالتحول من دولة منبوذة إلى دولة بفرص واعدة ومدعومة من الغرب ولاعبين وازنين في الخليج العربي والمنطقة.

ورأى الشرع، في تصريح أمام «منتدى الدوحة» يوم 6 ديسمبر 2025، أن سوريا تسير في الاتجاه الصحيح، بعدما تحولت من منطقة مصدرة للأزمات إلى نموذج للاستقرار، مشيراً إلى أن البلاد «تحتاج الآن إلى بناء مؤسسات مستقرة؛ وهو ما يضمن استمرارية عادلة لبناء الدولة».

الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي خلال توقيع اتفاق دمج «قسد» في الجيش السوري بدمشق يوم 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

صراعات داخلية

ويقول فرانتزمان إن زيارة الشرع التاريخية إلى البيت الأبيض في نوفمبر 2025 تعدّ «محوراً مهماً لإعادة بناء سوريا المحطمة»، بالتزامن مع رفع الشرع من قائمة العقوبات الأميركية، وتجديد تعليق «قانون قيصر».

ويشيد معظم التحليلات بالشرع لتحقيقه تقدماً ملموساً في الاستقرار الداخلي، لكن التحذيرات تتعلق بالصراعات الداخلية التي قد تذكي أعمال عنف أو فوضى. أما خارجياً؛ فتشيد تقارير أميركية بحرص الشرع على توجيه بلاده نحو الغرب، وانضمامها إلى «التحالف الدولي ضد (داعش)»، حيث يشيد مركز «بروكينغز» بعلاقات الرئيس السوري بتركيا والولايات المتحدة، بوصفها مفتاحاً للاستقرار، محذراً من السماح بعودة نفوذ روسيا وإيران.

وكان الشرع قد أقر، خلال حضوره مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار»، بالرياض، في 29 أكتوبر 2025، بأن هناك مخاطر استراتيجية ارتبطت بالفترة السابقة تسببت في خلق حالة من الاضطراب والقلق لبعض دول العالم.


الصعود التركي في سوريا... من المواجهة إلى التحالف

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
TT

الصعود التركي في سوريا... من المواجهة إلى التحالف

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)

تشكلت في الأسابيع الأولى لسقوط نظام بشار الأسد في سوريا قناعة بأن تركيا لعبت الدور الأكبر في الوصول «السلس» لفصائل المعارضة إلى دمشق في 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024، وتعزز ذلك مع دعم أنقرة السريع للإدارة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، وتقديم نفسها بوصفها أحد «الرعاة الأساسيين» في مرحلة ما بعد الأسد.

كانت تركيا أول دولة ترسل مسؤولاً رفيع المستوى إلى سوريا للقاء الشرع في «قصر الشعب»، إذ زار رئيس مخابراتها، إبراهيم كالين، دمشق يوم 12 ديسمبر 2024، وتوجه للصلاة في الجامع الأموي، ليبدو أنه حقق وعد الرئيس رجب طيب إردوغان، في الأيام الأولى للثورة السورية في 2011، عندما قال سينهار نظام الأسد بأسرع وقت و«سندخل دمشق ونصلي في الجامع الأموي».

وأوحت تصريحات لوزير الخارجية هاكان فيدان بأن تركيا هي من لعبت الدور الرئيسي في سقوط الأسد وفتح الطريق أمام الشرع إلى دمشق، عندما قال، بعد أيام قليلة، إن أنقرة أقنعت روسيا وإيران، خلال الاجتماع بصيغة «آستانة»، على هامش «منتدى الدوحة» في 7 و8 ديسمبر 2024 بعدم التدخل.

من وجهة نظر فيدان، كان «نظام بشار الأسد ضعيفاً للغاية خلال العامَين أو الأعوام الـ3 الماضية، مع مقاومة نسبية في بعض الأماكن، لكن المعارضة دخلت حلب دون إطلاق نار تقريباً. مع ذلك، لو كرر الروس والإيرانيون رد فعلهم في عام 2016، لكان الشعب السوري قد واجه خطر المزيد من إراقة الدماء والنزوح».

وعندما سُئل فيدان: «كيف أقنعتم روسيا بعدم الوقوف إلى جانب الأسد؟». أجاب بكلمة واحدة: «تحدثنا».

إسرائيل قصفت مطار حماة العسكري في مارس الماضي على خلفية تقارير عن استخدامه من جانب تركيا في نقل مواد لوجيستية ومعدات لإقامة قاعدة جوية في حمص (أ.ف.ب)

تقييم الحصاد

في 16 أغسطس (آب) 2025 عقدت مجموعة التنسيق بين المؤسسات التركية اجتماعاً برئاسة نائب وزير الخارجية نوح يلماظ، الذي أصبح الآن سفيراً لتركيا في دمشق، أُجريت خلاله مراجعة شاملة للعلاقات مع سوريا والخطوات التي ستُتخذ خلال الفترة المقبلة لتعزيزها وتنفيذ الاتفاقات التي توصل إليها الجانبان في مختلف المجالات.

خلال الأشهر الـ8 الأولى بعد سقوط الأسد، وعبر تحركات مكثفة، كانت تركيا أول دولة تعيد فتح سفارتها في دمشق، إضافة إلى قنصليتها في حلب، كما وقعت في 12 أغسطس مذكرة تفاهم للتعاون العسكري والتدريب والاستشارات.

وتحركت تركيا على المستوى الثنائي والإقليمي لدعم حكومة الشرع في مكافحة تنظيم «داعش»، وإقناع الولايات المتحدة بمنظور جديد يجعلها تتخلى عن دعمها لـ«قسد» التي تشكل «وحدات حماية الشعب» (الكردية) عمودها الفقري، في السيطرة على شمال شرقي سوريا، بعد التحالف معها في الحرب على «داعش».

في هذا الإطار سعت تركيا إلى تشكيل تحالف يقوم على مبدأ «الملكية الإقليمية»، الذي يعني أن تقوم دول المنطقة بنفسها على حل مشاكلها دون تدخلات خارجية، وبدأت بالفعل جهوداً لتشكيل منصة خماسية تضمها مع كل من الأردن والعراق ولبنان إلى جانب سوريا، وعقد وزراء الخارجية والدفاع ورؤساء المخابرات في الدول الخمس اجتماعاً في عمان في 9 مارس (آذار) الماضي، لكنه لم يسفر عن تأسيس آلية سعت إليها أنقرة.

نتيجة لذلك شكّلت تركيا آلية تنسيق مع سوريا عبر مركز عمليات مشترك في دمشق، لتأكيد دعمها للحكومة السورية في الحرب على «داعش».

وعقدت خلال الأشهر الـ10 المنقضية 3 اجتماعات لوزراء الخارجية والدفاع ورئيسي المخابرات في البلدين فضلاً عن الزيارات الثنائية المتبادلة على مستوى وزيري الخارجية، وزيارات رئيس المخابرات التركية لدمشق، كما زار الشرع تركيا 3 مرات في الفترة بين فبراير (شباط) وأغسطس.

على الصعيد الاقتصادي، أعادت تركيا تشغيل جميع البوابات الحدودية مع سوريا، وتم توقيع بروتوكول في أنقرة يوم 5 أغسطس الماضي، لإنشاء لجنة اقتصادية وتجارية مشتركة، وبدء دراسة إنشاء مناطق صناعية، بهدف إنعاش الاقتصاد السوري المتضرر من جراء الحرب وتعزيز التجارة بينهما. كما أعاد البلدان الجاران تأسيس مجلس الأعمال المشترك، الذي توقف عن العمل في 2011.

وتقول تركيا إنها تهدف إلى تجاوز عتبة ملياري دولار في صادراتها إلى سوريا بنهاية العام الحالي، مستغلة الزخم في العلاقات التجارية بينهما. واتخذت خطوات جديدة لتسهيل وتسريع التجارة مع سوريا، وتم الاتفاق على أن تصبح حلب مركزاً لوجيستياً قوياً في الفترة المقبلة.

جانب من لقاء ترمب ونتنياهو بالبيت الأبيض في يوليو 2025 (أ.ف.ب)

تنافس مع إسرائيل

في المقابل، تغيرت أهداف تركيا في سوريا عما كانت عليه خلال حكم بشار الأسد، فبعدما كانت تركز على تأمين حدودها مما تصفه بـ«تهديد (قسد)»، وإنشاء منطقة آمنة على حدودها الجنوبية بعمق يتراوح ما بين 30 و40 كيلومتراً، تسعى اليوم إلى إزالة هذه المجموعة الكردية من المعادلة السورية، عبر ترك أسلحتها والاندماج في مؤسسات الدولة، وإقناع الولايات المتحدة بوقف دعمها لها عبر عرض قيام إدارة سورية جديدة بحراسة سجون «داعش»، ودعمها في هذا الأمر. وزادت على ذلك بالسعي لدى الولايات المتحدة لملء الفراغ، حال انسحاب القوات الأميركية.

لقد أظهرت تحركات تركيا في الواقع السوري الجديد سعيها لملء الفراغ العسكري من خلال العمل على إنشاء قواعد برية وبحرية وجوية في وسط سوريا وعلى سواحلها عبر نموذج يشبه تدخلها في ليبيا بعد القذافي، كما تردد من خلال وسائل إعلام، والانفراد بأكبر دور في الاقتصاد السوري وإعادة الإعمار والتدخل في جميع المجالات من الصحة إلى التعليم وغيرها، استكمالاً لما بدأته بالفعل منذ سنوات في شمال سوريا.

أثارت هذه التحركات قلق إسرائيل التي تخشى استبدال الوجود التركي بالوجود الإيراني في سوريا، وفرض أمر واقع جديد تكون فيه تركيا هي الضامن سياسياً وأمنياً، اعتماداً على علاقاتها القوية مع الإدارة الجديدة ومع فصائل معادية لها.

جانب من اجتماع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وترمب والشرع لبحث رفع العقوبات المفروضة على سوريا في الرياض مايو الماضي (واس)

«نعم أخذتها»

وبدا أن تركيا نجحت في سباقها لإظهار دورها بوصفها «راعياً» تتشاور معه الإدارة السورية حول مستقبل البلاد، وبرزت بوصفها واحدة من أبرز القوى المهيمنة، وهو ما أكده الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، خلال لقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالبيت الأبيض في يوليو (تموز) 2025.

قال ترمب إنه هنّأ إردوغان، في اتصال هاتفي بينهما، على «أخذه سوريا (...) وإنه كان يحاول النفي، ويقول إنه لم يأخذها، وإنه قال له إنك فعلت شيئاً عجز الآخرون عن فعله طوال ألفي عام، مهما تعددت أسماؤها تاريخياً، وإنه (إردوغان) قال في النهاية نعم أخذتها».

وجاء موقف ترمب بعد متابعة حالة التنافس بين تركيا وإسرائيل في سوريا، والمخاوف المتبادلة بينهما التي دفعت إسرائيل إلى تدمير قواعد جوية ومطارات رئيسية، بينها مطار حماة العسكري، والقضاء على مقدرات الجيش السوري، مع تردد أنباء، بعد 3 أشهر من سقوط حكم الأسد، عن سعي تركيا إلى إقامة قواعد جوية في حمص، ما دفع تركيا وإسرائيل إلى إرساء قواعد اشتباك تمنع الصدام بينهما في سوريا خلال اجتماعات فنية في باكو توسطت فيها أذربيجان.

عرض ترمب على نتنياهو حل مشاكله مع تركيا إذا كان منطقياً في طلباته، لافتاً إلى علاقته الجيدة مع إردوغان، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي قال، قبل مغادرة واشنطن، إن تركيا تريد إنشاء قواعد عسكرية في سوريا، وإنه يرفض إقامتها لأنها تُشكل خطراً على إسرائيل.

بدورها، تؤكد تركيا أن المسألة الرئيسية بالنسبة إليها وللولايات المتحدة هي ضمان ألا تشكل إسرائيل تهديداً لسوريا، وألا تكون سوريا مصدراً لتهديد أي طرف في المنطقة، وأن يحترم الجميع سلامة أراضي وسيادة بعضهم، بحسب ما قال وزير خارجيتها، هاكان فيدان، الذي شارك في جانب من اجتماع ترمب والرئيس السوري أحمد الشرع بالبيت الأبيض في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025.

وعبرت تركيا، أكثر من مرة، عن عدم انزعاجها للمفاوضات بين دمشق وتل أبيب، مشددة على أن هدفها الأول هو وحدة أراضي سوريا وسيادتها.

ورد إردوغان، الذي التقى ترمب في البيت الأبيض في سبتمبر (أيلول) الماضي، على تصريح أخير لنتنياهو، منذ أسابيع قليلة، قال فيه إن إسرائيل «أوقفت تركيا في سوريا»، مطالباً بالتركيز على ما تفعله تركيا بدلاً من التركيز على ما تكتبه الصحافة الإسرائيلية، مضيفاً: «نحن نفعل ما يلزم في إطار أولوياتنا الاستراتيجية، وسنواصل ذلك».

جانب من الاجتماع بصيغة «آستانة» لوزراء خارجية تركيا هاكان فيدان وروسيا سيرغي لافروف وإيران عباس عراقجي على هامش منتدى الدوحة في ديسمبر 2024 (الخارجية التركية)

شبح العقوبات

تحرص تركيا أيضاً على عدم البقاء بعيداً عن أي ملف يتعلق بسوريا، بما في ذلك رفع العقوبات، الذي بدأ بإعلان مفاجئ من ترمب، قال إنه بناء على طلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وإردوغان، الذي شارك، عبر الهاتف في اجتماع بالرياض، في مايو (أيار) تمت فيه مناقشة رفع العقوبات.

وأكد إردوغان مواصلة تركيا دعمها لدمشق في حربها ضد التنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها «داعش»، واستعدادها لتقديم الدعم فيما يتعلق بإدارة وتأمين مراكز الاحتجاز التي يُحتجز فيها عناصر «داعش»، لافتاً إلى أن قرار ترمب رفع العقوبات عن سوريا يحظى بأهمية تاريخية، وأن هذا القرار سيكون مثالاً للدول الأخرى التي فرضت عقوبات على دمشق، وأن فرص الاستثمار ستشمل مختلف المجالات في سوريا، بعد رفع العقوبات.

وسبق إعلان ترمب رفع العقوبات اجتماع ثلاثي لوزراء الخارجية التركي، هاكان فيدان، والولايات المتحدة، ماركو روبيو، وسوريا، أسعد الشيباني، على هامش «منتدى أنطاليا الدبلوماسي» في جنوب تركيا، في أبريل (نيسان) الماضي، لمناقشة تفاصيل تعهد ترمب بإسقاط العقوبات عن سوريا.

وتلقى فيدان دعوة لزيارة أميركا بالتزامن مع زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع، وشارك في جانب من لقائه مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب في 10 نوفمبر الماضي.

وعقد فيدان لقاءات مع وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، والممثل الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترمب في الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، والسفير الأميركي في أنقرة المبعوث الخاص إلى سوريا، توم براك، والعديد من المسؤولين الآخرين في البيت الأبيض، فضلاً عن لقاء مع الشرع ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، ولقاء ثلاثي جمعه بالشيباني وروبيو.

وقال فيدان إنه تم خلال الاجتماعات تبادل وجهات النظر حول كيفية إدارة المناطق الإشكالية في شمال وجنوب سوريا، وفي أماكن أخرى، بشكل أفضل وكيف يمكن تنفيذ العمل على إلغاء «قانون قيصر»، وإن التركيز منصبّ حالياً على ما يمكن فعله لرفع العقوبات في إطار «قانون قيصر» بشكل كامل، لمساعدة الاقتصاد السوري على التعافي.

وأشار إلى أن الشرع التقى أعضاءً في الكونغرس، وشدد على أهمية التصويت على إلغاء «قانون قيصر»، مضيفاً أن الرئيس الأميركي يتبنى نهجاً إيجابياً تجاه التعامل مع القضايا السورية.

الشرع وعبدي خلال توقيع اتفاق اندماج «قسد» في مؤسسات الدولة السورية في دمشق 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

هاجس «قسد»

تعمل تركيا على استغلال حالة التشاور المستمر بشأن سوريا، في ضمان موقف أميركي داعم لتنفيذ الاتفاق الموقع بين الشرع، وقائد «قسد»، مظلوم عبدي، في دمشق 10 مارس الماضي، بشأن اندماجها في الجيش والمؤسسات الأمنية السورية، الذي يفترض أن ينتهي تنفيذه قبل حلول نهاية العام الحالي.

وبعد 47 عاماً من الصراع المسلح، أطلقت تركيا مبادرة العام الماضي، لحل حزب العمال الكردستاني ونزع سلاحه، أسفرت عن دعوة زعيمه، السجين لديها، عبد الله أوجلان في 27 فبراير الماضي، إلى حله والتخلي عن الكفاح المسلح، والتحول إلى العمل الديمقراطي في إطار قانوني.

وتتمسك أنقرة بأن دعوة أوجلان تشمل جميع امتدادات حزب «العمال الكردستاني»، وأن «البنية الحالية لـ(قسد) تقوّض وحدة سوريا وتهدّد الأمن القومي لتركيا وتعرّضه للخطر»، وأنه لا يمكن حصر مسألة نزع سلاح حزب العمال الكردستاني في تركيا وحدها.

وتطالب «قسد» تركيا بعدم عدّ مؤسساتها العسكرية والإدارية والأمنية، والإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا، تهديداً لها، لأنها «مؤسسات للسلام والأمن».

وعدّ قائد «قسد»، مظلوم عبدي، أن اتفاق 10 مارس مع الشرع شكل منعطفاً مهماً بإغلاق الطريق أمام محاولات تقسيم سوريا ومنع انزلاقها إلى حرب أهلية، وضمن الاعتراف الدستوري بحقوق الكرد، لكنه أكد أنه «يجب أن تكون هناك سوريا لا مركزية، بحيث يتمكّن كل إقليم من إدارة نفسه».

وذهب الكاتب في صحيفة «حرييت» القريبة من الحكومة التركية، فاتح تشيكرجه، إلى أن أميركا تسعى لتأسيس «نموذج بارزاني» الذي أرسته في شمال العراق ضد إيران، في شمال سوريا، وأن الممر الذي يجري إعداده من العراق إلى سوريا يهدف إلى ذلك، وهو مطلب إسرائيلي أيضاً لمنع نقل الأسلحة من إيران إلى لبنان والمنطقة المحيطة.

ولفت إلى أن تركيا لم تقبل في البداية بنموذج مشابه لـ«بيشمركة بارزاني»، وهي الآن تعد «قسد» الحليفة لأميركا، تنظيماً إرهابياً، لكنها يمكن أن تقبل الأمر بعد ذلك في شمال سوريا كما حدث في إقليم كردستان العراق.

الحال، أن تركيا ستواصل خلال المرحلة المقبلة السعي لترسيخ موقعها بوصفها أبرز قوة مؤثرة في إعادة تشكيل سوريا، مستفيدة من علاقتها الوثيقة بالإدارة الجديدة ودعم واشنطن المتزايد لدورها. ومن المتوقع أن تضغط أنقرة باتجاه استكمال دمج «قسد» في مؤسسات الدولة السورية وتقليص أي حضور عسكري غير مرغوب فيه قرب حدودها. لكن التنافس مع إسرائيل والحضور الأميركي قد يحدان من قدرة تركيا على فرض رؤيتها بالكامل.