روبوتات ارامكو السعودية ذكية وتعزز الكفاءة التشغيلية

تمكنت من إيجاد حلول لتراكم الغبار على الألواح الشمسية

مهندسان يجريان عملية صيانة لروبوت المياه الضحلة
مهندسان يجريان عملية صيانة لروبوت المياه الضحلة
TT

روبوتات ارامكو السعودية ذكية وتعزز الكفاءة التشغيلية

مهندسان يجريان عملية صيانة لروبوت المياه الضحلة
مهندسان يجريان عملية صيانة لروبوت المياه الضحلة

تواصل شركة «أرامكو السعودية» أبحاثها العلمية لتطوير أنشطتها التشغيلية من خلال حلول مبتكرة تواكب تقنيات الإنتاج والخدمات في مختلف قطاعاتها، وذلك في إطار التوسع التقني الذي يوفر كثيراً من المزايا التي تتعلق بالكفاءة والسلامة، ويرفع مستويات الموثوقية ويعزّز قدراتها في تطوير أعمالها.
وفيما تعمل جميع قطاعات وأقسام الشركة على تطوير أنشطتها ومواكبة التقنيات الذكية وصولاً إلى حلول مبتكرة، يجري مركز البحوث والتطوير في «أرامكو السعودية» بحثاً متطوراً، يتوقع أن يؤدي إلى تطور سريع في التقنية وتسويق الأنظمة الذكية التي تساند أعمال الشركة وتساعد في مراقبة سلامة المنشآت.
تساعد تلك التقنيات في التعامل مع التحديات القائمة والمتوقعة، إذ تُعتبر ضرورية لتحقيق كفاءة التشغيل وترشيد النفقات في الوقت الذي تساند مركز الشركة العالمي كمُنتج موثوق للزيت والغاز.
يتمثل الهدف الرئيسي الذي تسعى «أرامكو السعودية» لتحقيقه في التقليل من التكاليف السنوية للتآكل من خلال تركيز جهودها على ثلاث آليات رئيسة تتمثل في: التنبؤ بحدوث التآكل من خلال تطوير برامج متقدمة، والكشف عن التآكل واستشعاره، وأخيراً منع التآكل وتقليله من خلال استخدام المواد المتقدمة.
يعمل فريق الأنظمة الذكية في «أرامكو السعودية» على إيجاد حلول لتقنية الفحص المصممة لتلبية حاجات مرافق التشغيل في «أرامكو السعودية»، حيث يركز على مشاريع تشمل تطوير أجهزة ومعالجات ذكية يُمكن تطبيقها لضمان سلامة الموجودات، وذلك بالتعاون مع كبار الشركات والجامعات العالمية.
طور الفريق من خلال تركيزه على الروبوتات في السنوات الست الأخيرة أربع تقنيات فريدة تخدم برنامج الاستشعار والمراقبة.
عبر السنوات تضمن فريق الأنظمة الذكية اثنا عشر شخصاً، سبعة منهم من خريجي جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، ويمثلون عشر دول مختلفة.
درس معظم أعضاء الفريق هندسة الميكانيكا وأنظمة التحكم وذلك ضمن تخصصات الهندسة الميكانيكية، أو هندسة الكهرباء أو هندسة الإلكترونيات، مع التركيز على الروبوتات وأجهزة القياس والمجالات المشابهة الأخرى.
يقع مقر الفريق حالياً في مجمع البحوث بجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية للاستفادة من قربه من مختبر الروبوتات والأنظمة الذكية والتحكم في الجامعة، واستخدام مرافقها مثل ورش العمل المركزية ومختبرات إعداد النماذج الأولية.
في ظل حاجة عمليات «أرامكو السعودية» لحلول تقنية مستدامة وذكية، طور باحثو الشركة «روبوت أرامكو السعودية» للفحص، وهو عبارة عن زاحف مغناطيسي روبوتي قادر على المعاينة وفحص الأنابيب باستخدام الموجات فوق الصوتية. يمكنه أيضاً استشعار تسرّب الغاز على الأسطح الفولاذية المرتفعة التي يصعب الوصول إليها.
يسهم «روبوت الفحص» في خفض الأخطار المحتملة ومدة المعاينة والتكاليف المترتبة على نصب السقالات المفردة المستخدمة في أعمال المعاينة.
«الروبوت» الذي يعمل لاسلكياً، مستقل، ويتيح مستويات متقدمة في مجال الخفة والبراعة أثناء التحرك على الأسطح الفولاذية ضمن نطاقٍ واسعٍ من المنحنيات، بما يجعله متفوقاً على نظرائه في السوق.
ولتسويق تقنية «روبوت أرامكو السعودية» للفحص، أُنشئت شركة جديدة في المملكة من خلال مشروع استثماري واتفاقية للترخيص، وتوجد حالياً ثلاث وحدات من «روبوت الفحص» في مختبر جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية.
نتج عن تصنيع «روبوت أرامكو السعودية» للفحص تقديم عشرة طلبات للحصول على «براءات اختراع»، وقد مُنح سبع براءات اختراع.
«روبوت الفحص» والمراقبة في المياه الضحلة، نظام روبوتي مزوّد بتقنيات فحص مدمجة يمكن تشغيله عن بُعد في المياه الضحلة، وذلك لتعزيز سرعة وكفاءة وسلامة فحص خطوط الأنابيب.
هذه التقنية المتطورة تعتبر نوعا من الابتكار المهم للتعامل مع التحديات الجوهرية التي تواجه «أرامكو السعودية» ضمن أعمالها الواسعة.
وينطوي فحص الأنابيب في المياه الضحلة على مصاعب، حيث يُجري أعمال الفحص غواصون يرتبطون بسفينة الإسناد أو سفن مساندة الغواصين بكابل، وهو يستخدم للتزويد بالهواء وكوسيلة للاتصال مع الغواص ولنقل إرسال مرئي مباشر عبر الكاميرا. ومن شأن استخدام روبوت الفحص والمراقبة في المياه الضحلة الاستغناء عن الغواصين، وجعل عملية الفحص أكثر سلامة وسرعة.
ويكون الإبحار عن طريق «سفن مساندة الغواصين» في المياه الضحلة صعباً، وأحياناً مستحيلاً، بسبب خطر التعرض للاصطدام بقاع البحر أو العوائق تحت المياه. لذلك تُستخدم طرق بديلة لفحص الأنابيب في المياه الضحلة، بما في ذلك استخدام القوارب الصغيرة.
وتُعد تلك الطرق بطيئة جداً مقارنة بالفحص في المياه الأكثر عمقاً. ويُتيح روبوت الفحص والمراقبة في المياه الضحلة المجال لفحص الأنابيب بطريقة آمنة وسريعة وأكثر فعالية، واستخدامه يقلّل كثيراً من الوقت والتكلفة نتيجة لعمليات الفحص في المياه الضحلة.
صمّم روبوت الفحص والمراقبة في المياه الضحلة، وطُور وجُرّب ميدانياً خلال أقل من سنتين ممّا أدّى إلى نشر استخدامه قبل الموعد المحدد بخمسة أشهر.
وحصل الروبوت على جائزة التميز في «أرامكو السعودية» أخيراً لدوره في تعزيز مركز الشركة والمملكة كرائدين في التقنيات الابتكارية. ونتج عن ابتكاره 11 براءة اختراع، وهو محميّ بسبع براءات اختراع.
تعتبر الألواح الشمسية مصدراً اقتصادياً ومستداماً ومتجدداً وموثوقاً للطاقة، لذا ينبغي أن تحظى بعناية وصيانة دورية مستمرة، إذ يمكن لتراكم الغبار على هذه الألواح أن يؤدي إلى تأثير كبير على كفاءتها.
يمكن لتراكم الغبار أن يؤدي إلى تخفيض الكفاءة بنسبة 2 في المائة أو أكثر أسبوعياً، ويمكن لعاصفة غبار أن تخفض فعالية الألواح الشمسية بنسبة 40 في المائة. لذلك ومن أجل تعظيم ربحية وإنتاجية محطة الطاقة الشمسية، من الضروري التقليل من تراكم الغبار والشوائب.
في إطار إيجاد حلول علمية لذلك، ابتكر فريق الأنظمة الذكية بـ«أرامكو السعودية» تقنية روبوتية لتخفيف كمية الغبار، وهي تقنية منخفضة التكلفة للتقليل من الأثر السلبي للغبار على إنتاجية الألواح الشمسية. بعد سنتين توصلت الأبحاث والتجارب على النماذج الأولية إلى حل يتمثل في تقنية آلية للتنظيف الجاف في مواعيد محددة أو عند الطلب.
هذه التقنية جاهزة حالياً لمساعدة الشركة والمملكة لجني الأرباح الكاملة من نشر استخدام الطاقة الشمسية على نطاقٍ واسعٍ في المنطقة من خلال تطبيق تقنية تخفيف آثار الغبار آلياً.
وأثبتت الأبحاث الرئيسة التي أُجريت خلال المشروع، أنّ التنظيف الجاف للألواح الشمسية باستخدام هذه التقنية، التي نتج عن ابتكارها تقديم أربع براءات اختراع لا تؤثر سلباً على أداء الألواح الشمسية.
نتيجةً لذلك صدرت نشرتان علميتان مؤثرتان من شأنهما مساعدة صناعة الطاقة الشمسية في أن تصبح أكثر كفاءة وفعالية في المناطق القاحلة بالسعودية.
قبل إجراء هذا البحث، كانت الألواح الشمسية تُنظّف يدوياً، وهو أمر مكلف ويؤدي إلى استخدام كميات كبيرة من المياه، ويمكن أن يلحق الضرر بها.
ثبت أن هذه التقنية تحافظ على أكثر من 99 في المائة من الأداء، ممّا نتج عنه زيادة في توليد الطاقة بنسبة 1 في المائة على الأقل أسبوعياً مقارنة بالتنظيف بالمياه المقطرة واستخدام الأيدي العاملة، ممّا يعني أن هناك زيادة مباشرة في إنتاج محطة الطاقة الشمسية بنسبة 1 في المائة من خلال التحوّل من الأسلوب الحالي إلى تقنيات تخفيف الغبار آلياً، وذلك يؤدي أيضاً إلى تخفيض تكلفة التشغيل.
نتج عن نجاح تقنية تخفيف الغبار آلياً، التقدم بطلب الحصول على أربع براءات اختراع، فيما تعمل شركة محلية حالياً على ترخيص هذه التقنية وتسويقها.


مقالات ذات صلة

روبوتات أمنية في متاجر أميركية

علوم روبوتات أمنية في متاجر أميركية

روبوتات أمنية في متاجر أميركية

فوجئ زبائن متاجر «لويز» في فيلادلفيا بمشهدٍ غير متوقّع في مساحة ركن السيّارات الشهر الماضي، لروبوت بطول 1.5 متر، بيضاوي الشكل، يصدر أصواتاً غريبة وهو يتجوّل على الرصيف لتنفيذ مهمّته الأمنية. أطلق البعض عليه اسم «الروبوت النمّام» «snitchBOT». تشكّل روبوتات «كي 5» K5 المستقلة ذاتياً، الأمنية المخصصة للمساحات الخارجية، التي طوّرتها شركة «كنايت سكوب» الأمنية في وادي سيليكون، جزءاً من مشروع تجريبي «لتعزيز الأمن والسلامة في مواقعنا»، حسبما كشف لاري كوستيلّو، مدير التواصل المؤسساتي في «لويز».

يوميات الشرق «كلاب روبوتات» تنضم مرة أخرى لشرطة نيويورك

«كلاب روبوتات» تنضم مرة أخرى لشرطة نيويورك

كشف مسؤولو مدينة نيويورك النقاب، أمس (الثلاثاء)، عن 3 أجهزة جديدة عالية التقنية تابعة للشرطة، بما في ذلك كلب «روبوت»، سبق أن وصفه منتقدون بأنه «مخيف» عندما انضم لأول مرة إلى مجموعة من قوات الشرطة قبل عامين ونصف عام، قبل الاستغناء عنه فيما بعد. ووفقاً لوكالة أنباء «أسوشيتد برس»، فقد قال مفوض الشرطة كيشانت سيويل، خلال مؤتمر صحافي في «تايمز سكوير» حضره عمدة نيويورك إريك آدامز ومسؤولون آخرون، إنه بالإضافة إلى الكلب الروبوت الملقب بـ«ديغ دوغ Digidog»، فإن الأجهزة الجديدة تتضمن أيضاً جهاز تعقب «GPS» للسيارات المسروقة وروبوتاً أمنياً مخروطي الشكل. وقال العمدة إريك آدامز، وهو ديمقراطي وضابط شرطة سابق

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
يوميات الشرق دراسة: الأحكام الأخلاقية لـ«تشات جي بي تي» تؤثر على أفعال البشر

دراسة: الأحكام الأخلاقية لـ«تشات جي بي تي» تؤثر على أفعال البشر

كشفت دراسة لباحثين من جامعة «إنغولشتات» التقنية بألمانيا، نشرت الخميس في دورية «ساينتفيك ريبورتيز»، أن ردود الفعل البشرية على المعضلات الأخلاقية، يمكن أن تتأثر ببيانات مكتوبة بواسطة برنامج الدردشة الآلي للذكاء الاصطناعي «تشات جي بي تي». وسأل الفريق البحثي برئاسة سيباستيان كروغل، الأستاذ بكلية علوم الكومبيوتر بالجامعة، برنامج «تشات جي بي تي»، مرات عدة عما إذا كان من الصواب التضحية بحياة شخص واحد من أجل إنقاذ حياة خمسة آخرين، ووجدوا أن التطبيق أيد أحيانا التضحية بحياة واحد من أجل خمسة، وكان في أحيان أخرى ضدها، ولم يظهر انحيازاً محدداً تجاه هذا الموقف الأخلاقي. وطلب الباحثون بعد ذلك من 767 مشاركا

حازم بدر (القاهرة)
يوميات الشرق «غوغل» تطلق «بارد»... منافسها الجديد في مجال الذكاء الاصطناعي

«غوغل» تطلق «بارد»... منافسها الجديد في مجال الذكاء الاصطناعي

سيتيح عملاق الإنترنت «غوغل» للمستخدمين الوصول إلى روبوت الدردشة بعد سنوات من التطوير الحذر، في استلحاق للظهور الأول لمنافستيها «أوبن إيه آي Open.A.I» و«مايكروسوفت Microsoft»، وفق تقرير نشرته اليوم صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية. لأكثر من ثلاثة أشهر، راقب المسؤولون التنفيذيون في «غوغل» مشروعات في «مايكروسوفت» وشركة ناشئة في سان فرنسيسكو تسمى «أوبن إيه آي» تعمل على تأجيج خيال الجمهور بقدرات الذكاء الاصطناعي. لكن اليوم (الثلاثاء)، لم تعد «غوغل» على الهامش، عندما أصدرت روبوت محادثة يسمى «بارد إيه آي Bard.A.I»، وقال مسؤولون تنفيذيون في «غوغل» إن روبوت الدردشة سيكون متاحاً لعدد محدود من المستخدمين

«الشرق الأوسط» (بيروت)
الروبوتات قد تحسّن السلامة العقلية للبشر

الروبوتات قد تحسّن السلامة العقلية للبشر

كشفت دراسة حديثة عن أن الناس تربطهم علاقة شخصية أكثر بالروبوتات الشبيهة بالألعاب مقارنةً بالروبوتات الشبيهة بالبشر، حسب «سكاي نيوز». ووجد بحث أجراه فريق من جامعة كامبريدج أن الأشخاص الذين تفاعلوا مع الروبوتات التي تشبه الألعاب شعروا بتواصل أكبر مقارنةً بالروبوتات الشبيهة بالإنسان وأنه يمكن للروبوتات في مكان العمل تحسين الصحة العقلية فقط حال بدت صحيحة. وكان 26 موظفاً قد شاركوا في جلسات السلامة العقلية الأسبوعية التي يقودها الروبوت على مدار أربعة أسابيع. وفي حين تميزت الروبوتات بأصوات متطابقة وتعبيرات وجه ونصوص تستخدمها في أثناء الجلسات، فقد أثّر مظهرها الجسدي على كيفية تفاعل الناس معها ومدى فاع

«الشرق الأوسط» (لندن)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)