الشعر البريطاني في نصف قرن وتأثيره على الشعر العربي

مدارسه واتجاهاته العامة و«حصانته» تجاه الحداثة

TT

الشعر البريطاني في نصف قرن وتأثيره على الشعر العربي

سأتناول ملامح عامة في الشعر البريطاني انعكست في الشعر العربي، وليس عن تأثير شعراء بريطانيين معينين على شعراء عرب معينين، لأننا لا نجد مثل هذا التأثير في شعر ما بعد الحرب العالمية الثانية، كما نلاحظ مثلاً في تأثير تي.إس. إليوت على الشاعر بدر شاكر السياب، والشاعر صلاح عبد الصبور بشكل خاص، رغم أن هذا التأثير مبالغ فيه إلى درجة كبيرة، وكان مقتصراً على الرؤية الشعرية، وليس على بناء القصيدة وتقنيتها كاستخدام المعادل الموضوعي والمونولوغ الدرامي، كما نلاحظ في قصيدتي «رؤيا فوكاي» للسياب، و«رحلة في الليل» لعبد الصبور.
وعموماً، فإن ما تُرجم من الشعر الإنجليزي، في مختلف مراحله المتقدمة والمتأخرة، إلى العربية، قليل جداً مقارنة بالشعر الفرنسي مثلاً، باستثناء شكسبير، الذي ترجمت معظم أعماله، وقصائد للشعراء الرومانتيكيين، ومن الشعراء المعاصرين تي. إس. إليوت. فقلما نجد شاعراً بريطانياً ترجمت أعماله الكاملة، ولا نقرأ سوى قصائد متفرقة لهذا الشاعر أو ذاك، وأكثر من ذلك لا يكاد القارئ العربي يعرف شيئاً عن الشعر الإنجليزي بعد الحرب العالمية الثانية فقد توقفنا عند وليم تبلر ييتس وإزرا باوند وتي. إس. إليوت وبعدهم عند ستيفن سبندر ودبليو إتش أودن.
هكذا حرم القارئ، والشاعر بشكل خاص، من الاطلاع على تجارب شعرية إنجليزية مهمة، فالشعر الإنجليزي والفرنسي يعدان الأكثر تأثيراً في الشعر العربي منذ أكثر من خمسين سنة، أي منذ عرفنا الشعر الحديث الذي ما كان ليولد ربما من دون تأثير الشعر الإنجليزي على بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وزملائهما، ولاحقاً قصيدة النثر في لبنان بتأثيراتها الفرنسية، وبذلك يبدو جلياً أن الترجمة لعبت دوراً حاسماً في تحديد الاتجاهات الشعرية العربية، خصوصاً في حالة قصيدة النثر.
هناك مدرستان في الشعر العربي، لم تجر دراسة أساليبهما وأشكالهما المتناقضة، ورؤيتهما للشعر والحياة، وطرائق التعبير عن ذلك، وهما المدرسة العراقية، والمدرسة اللبنانية، وهما المدرستان المهيمنتان على مجمل الشعر العربي، وقد تأثرت الأولى بالشعر البريطاني، والثانية بالشعر الفرنسي.
الفرق بين المدرستين أننا في المدرسة الشعرية العراقية نلمس خصائص مشتركة مع الشعر البريطاني: الغنائية، والنزعة الواقعية العامة، والالتزام، إلى درجة كبيرة، بالإيقاع الموسيقي الخارجي. وربما لهذا السبب لم تزدهر قصيدة النثر في العراق في الستينات والسبعينات، كما في لبنان بتأثير الشعر الفرنسي.
هناك خصائص تميز الشعر البريطاني، وبشكل خاص النزعة الواقعية التي ميزت هذا الشعر في مختلف مراحله حيث الاهتمام بمطلق الإنسان وعالمه الحسي وطبيعته الملموسة ومكانه وشروط وجوده في هذا العالم، وفي هذه اللحظة من التاريخ، والانطلاق من الخاص إلى العام، وليس العكس، كما في الفلسفة، وهي خاصية أخرى تميز هذا الشعر عن الشعر الفرنسي الحديث المهتم عموماً بالذهني والمجرد أكثر من اهتمامه بالحسي والملموس ابتداء من الشعراء البرناسيين وإلى الآن كما عند شعراء كثيرين.‏
ولعل سبب ذلك عائد إلى أن فرنسا منذ القرن الرابع عشر هي بلد الفلسفة التي وصلت إلى أقصى تجلياتها الآن وبلد الثورات والانفجارات التي هزت العالم أكثر من مرة، بينما عرفت بريطانيا الاقتصاد السياسي، أي الارتباط العملي بحركة المجتمع، كما كتب فريدريك أنجلز عن ذلك في كتابه {أوضاع الطبقة العاملة في إنجلترا}.
وأدبياً، ظلت بريطانيا محصنة أمام التأثيرات التي يمكن أن «تعكر» حياتها المنتظمة، وتربك إيقاعها الموزون، و«تفسد ناسها المهذبين». فلم تعرف بريطانيا أي حركة أدبية جذرية تشكل اتجاهاً عاماً، كما حدث في فرنسا، ولم تزدهر فيها مثلا الحركة السوريالية، باستثناء محاولات ديفيد غاسكوين، الذي عاش في ثلاثينات القرن الماضي في فرنسا لفترة، وتعرف على الشعراء السورياليين، وتأثر بهم، خصوصاً بول إيلوار. ولم يعرف الشعر البريطاني لحد الآن قصيدة النثر كاتجاه شعري عام، كما هو حاصل عندنا في البلدان العربية، ولا يزال كثير من الشعراء يكتبون شعراً موزوناً مع التنويعات المختلفة المشتقة من الأنماط الوزنية الخمسة.
يعزو الناقد والشاعر ألفريد ألفاريز سبب عدم تأثر الشعر البريطاني بالحداثة الشعرية إلى ما يمكن تسميته بالكياسة أو الدماثة (Gentility)، فحياة الإنجليز منظمة، وعواطفهم وعاداتهم مسيطر عليها، وتعتبر محتشمة مقارنة بعادات شعوب أوروبية أخرى، وبذلك كذلك أثبت الشعر الإنجليزي أنه غير قابل للاختراقات «الحداثوية» القادمة من وراء الحدود، كما حصل في بلدان عديدة، ومنها بلداننا.‏
إن حكم ألفاريز هذا يحمل قدراً كبيراً من الصحة، مقارنة بما كان يحدث في بقاع أخرى من العالم عرفت ثورات شعرية هائلة مترافقة مع هزات اجتماعية جذرية أحدثت قطعاً كبيراً مع الماضي في أكثر من بلد.‏
وعلى الرغم من أن عقد الستينات أحدث خلخلة كبيرة في المفاهيم الاجتماعية والأخلاقية والثقافية إلى درجة القطيعة مع ما سبقه، إلى هذه الدرجة أو تلك، إلا في بريطانيا التي حافظت على انسيابها الطبيعي، ما عدا ربما {ثورة البيتلز} الموسيقية التي انطلقت من ليفربول، ونجحت في اختراق العالم كله، لكنها فشلت في اختراق ما يسمونه في بريطانيا {المؤسسة} ومنها المؤسسة الثقافية.‏ فقد ظل الشعر الإنجليزي كما يقول بيتر فنتش صاحب كتاب {أنسكلوبيديا الأدب البريطاني} يدور طوال خمسين سنة في بيئة مركزية ذات هيمنة ذكورية وأكاديمية بعيداً عن الحداثة والتعددية الثقافية، وقلما برزت أصوات عملاقة قادرة على إحداث الاختراق الكبير خارج كل المدارس والتصنيفات ومواصفات المؤسسة.‏
لقد هيمن ما قبل أربعينات القرن الماضي شعراء ثانويون سموا شعراء ما قبل الحرب مثل فنت ولامير وديفيز.
وأمام غياب القامات الشعرية الكبيرة الملهمة في سنوات الحرب العالمية الثانية، برز تأثير شعراء الثلاثينات مرة أخرى على شعراء ما بعد الحرب الذين أطلق عليهم النقاد تسمية «شعراء الرومانتيكية الجديدة» مثل واتكنز ودبليو وغراهام وباركر، ثم تسمية «شعراء الرومانتيكية الرؤيوية».
وفي النصف الثاني من القرن العشرين برزت أسماء مهمة مثل فيليب لاركن وتوم غن اللذين احتلا مقدمة الشعر الشعري البريطاني لسنوات طويلة، إلى جانب الشاعر تيد هيوز الذي يصعب تصنيفه ضمن اتجاه شعري معين كأي شاعر كبير.‏
غير أن لاركن هو الوحيد الذي بقي وفياً لمبادئ الحركة أو لعناصرها الأساسية في تناوله لمفردات الحياة البريطانية - اليومية بطريقة تقترب من النثر.
ومن الملاحظات التي يمكن تسجيلها عن الشعر البريطاني غياب «الشعر الأسود»، مقارنة بالشعر الأميركي مثلاً بعكس الرواية، لكن ثمة سمة هامة أخذت تميز الشعر الإنجليزي في العقد الأخير، وهي حضور غير عادي لشعراء من أصول غير بريطانية، خصوصاً باكستان وبلدان أفريقية، ما سيترك بلا شك تأثيره على المشهد الشعري البريطاني مع مرور السنين.
* مقتطفات من محاضرة ألقاها الكاتب في «بيت الزايد لتراث البحرين الصحافي» بعنوان «مدارس الشعر البريطاني في خمسين سنة وتأثيرها على الشعر العربي»



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.