محمد عبلة... يلعب «خارج الكادر»

منحوتات طائرة وتجارب متنوعة في الحفر والتصوير

من أعمال محمد عبلة ({الشرق الأوسط}) - محمد عبلة
من أعمال محمد عبلة ({الشرق الأوسط}) - محمد عبلة
TT

محمد عبلة... يلعب «خارج الكادر»

من أعمال محمد عبلة ({الشرق الأوسط}) - محمد عبلة
من أعمال محمد عبلة ({الشرق الأوسط}) - محمد عبلة

لا يكف محمد عبلة عن اللعب مع الفن، فبعد رحلة متنوعة مع الحفر والرسم والتصوير والرسم على الماء، ومغامرة رسم الضوء الاصطناعي، في معرض ممتع سيظل من علاماته الفنية الفارقة، إضافة إلى اختبار تقاطعات وتجاورات الكولاج والرسم بشرائح السلويت، ها هو يواصل غواية هذه اللعب مفاجئاً محبيه بمعرض مرح في فن النحت، سماه «خارج الكادر»، أو خراج الإطار، مقام حالياً بجاليري مصر، بالقاهرة.
وضم المعرض مجموعة من المنحوتات الصغيرة والمتوسطة الحجم لوجوه وكائنات وأشياء، يمتزج فيها عالم البشر بانفعالاته وعواطفه وصخبه الإنساني، وعالم الطبيعة بفطريته وبداهته وطيوره وحيواناته الأليفة والمتوحشة.
ورغم انفتاح مغامرة عبلة مع فنون النحت القديمة والجديدة، فإنها لا تنقطع عن ما عاشه في تجاربه السابقة، فلا تخلو كثير من أعماله التصويرية من ملامس نحتية لافتة، تارة بإبراز النتوءات على مسطح الرسم المستوي، أو من خلال تكثيف طبقات وعجائن الألوان والأصباغ في الرسم، محافظاً على نكهة خاصة ميزت أسلوبه الفني، فهو من الفنانين القلائل الذين يملكون المقدرة على تحويل لطشة الفرشاة العفوية السريعة إلى رسم، له قوام وملامح وخصوصية، فضلاً عن أن فكرة «التركيب»، التي تنهض عليها مغامرة النحت الجديد، وتنويع زوايا وأبعاد الرؤية لها، ليست غريبة عن عالمه الفني، وولعه الدائم بالتجريب بحثاً عن طرائق وأشكال مغايرة تضيف إليه خبرة بكراً، أو تضعه على عتبة رؤى جمالية مختلفة.
منذ عدة سنوات، أقام عبلة تمثالاً استوحاه من أسطورة «سيزيف»، لا يزال منتصباً بأحد ميادين مدينة «فالسروده» في شمال ألمانيا. وعام 1983، ذهب إلى سويسرا لدراسة النحت في مدرسة زيورخ للفنون مع النحات الشاعر «باول جراس». وكما يقول عبلة في كلمته بكتالوج المعرض: «عندما عرف أني من مصر، قال لي معقول أقدر أعلمك نحت، أنت من مصر التي علمت العالم، أنا ممكن أعلمك الصبر، هذا ما يجب أن تتعلمه لتكون نحاتاً».
ويذكر عبلة أنه قضى عاماً معه في هذه المدرسة، لكنه لم يقم بإنجاز أي عمل نحتي، فقط تدريبات على الصبر والتأمل، والإحساس بالخامات المختلفة.
بهذه الروح من التأمل والصبر ومشاكسة الخامة، أبدع عبلة كائناته النحتية في هذا المعرض، عبر 40 قطعة من البرونز، معتمداً عليه بشكل أساسي في بناء الكتلة، وترتيب وتنظيم علاقتها بالفراغ وبعناصر مساعدة أخرى، منها: أعمدة حديدية وأسلاك وقطع معدنية، و«خردة» مهملة وقعت عليها عيناه بمحض الصدفة، كما استخدم اللحام في كثير من القطع. وبشكل يكاد يكون فطرياً، ينوع عبلة زوايا وأبعاد العلاقة بن منحوتاته وبين الفراغ، وفق هواجسه وتساؤلاته الصورية، فيقوم بالدمج بينهما، وهي السمة الغالبة على معظم الأعمال، حيث تنحصر زوايا المشاهدة في بعدين، من الجانبين الأيسر والأيمن، وأحياناً يترك هذه العلاقة مفتوحة، تتيح الدوران حول العمل ومشاهدته من زوايا شتى، وأيضاً من مسافات متفاوتة في القرب والبعد، ولا يتحقق هذا سوى في بعض المنحوتات، تأخذ الكتلة فيها منحنى تدويرياً أو بيضاوياً، مثل القطعة التي تعكس رمزية الكرة الأرضية، وأخرى تخترق فيها مرآة متوهمة الكتلة محتفظة بوجودها كإطار فارغ، لكنه يوحي بأن ثمة مرآة خرجت منه، وهو المعني الذي قصده عبلة من عنوان المعرض «خارج الكادر»، ما جعل علاقة دمج الكتلة بالفراغ تنعكس بحيوية على خطوطه وتركيباته النحتية التي يقوم بتلوينها أحياناً، مخففاً من لمعة البرونز وقشرة النحاس، حتى لا تتم الشوشرة على مسارات الضوء، وإبراز حيوية المسطحات الخشنة والناعمة، الأمر الذي يتيح له حرية الذهاب والإياب من الماضي إلى الحاضر، وتأمل تراث المضامين النحتية والتصويرية بروح منفتحة مغامرة. هكذا، يستعيد لوحة «المجنون الأخضر» الشهيرة لعبد الهادي الجزار، ويصبها من جديد في أيقونة نحتية هي بمثابة استعارة بصرية مضيئة وتوثيق لمحبة خاصة لعالم فنان رائد. احتفت المنحوتات بالإنسان، في لحظات قوته وهشاشته، في ضجره بنفسه وملله من الوجود، وما يغلي ويفور برأسه، مشكلة بمناخاتها البصرية المرحة حافزاً لكسر الحواجز والأطر التقليدية البالية التي تقيد حريته. كما احتفت بالحياة الساكنة في قلب الأشياء والعناصر، وهي أشياء مألوفة، في نسيج مفردات الحياة اليومية، فهناك كثير من المنحوتات تبرز فيها رمزية الشباك والسلالم، والمرآة والأبواب، وفازات الزهر، وأظن أن عبلة لم يكن مشغولاً باستنطاق هذه الحياة الساكنة في الداخل فحسب، وإنما أراد أساساً أن يوحي بأنه لا مسافة بين الجسم والفراغ المحيط به، فكلاهما يأخذ من الآخر، إلى حد التماهي معه في العمل الفني.
ويبقى الانطباع الأساسي الذي خرجت به من هذه المعرض الممتع أن النحت ليس فقط موجوداً في التماثيل والأعمال النحتية الملموسة، بل الحياة هي حالة نحتية ساكنة، مهمة الفنان أن يخرجها من الداخل المطمور إلى نور الفن فوق السطح.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».