«يوم ببيروت» يضع إصبعه على جرح يتجاهله الأهل

فيلم «يوم ببيروت» يصور شريحة من شباب لبناني يتخبط في الفراغ
فيلم «يوم ببيروت» يصور شريحة من شباب لبناني يتخبط في الفراغ
TT

«يوم ببيروت» يضع إصبعه على جرح يتجاهله الأهل

فيلم «يوم ببيروت» يصور شريحة من شباب لبناني يتخبط في الفراغ
فيلم «يوم ببيروت» يصور شريحة من شباب لبناني يتخبط في الفراغ

ضمن مجريات قصص صغيرة تروي حالات من الضياع واللامبالاة اللذين تعيش في كنفهما شريحة من الشباب اللبناني، يُطلّ علينا الفيلم اللبناني «يوم ببيروت» (one of these days) لنديم تابت.
يبدأ عرض العمل في الصالات السينمائية اللبنانية في 12 أبريل (نيسان) الحالي. قد يكون نافرا للعين وقاسيا على الأهل، ولكنّه في النهاية يضع الإصبع على جرح يتجاهله بعضهم رافضين الاعتراف بواقع يحيط بهم ويهدّد أولادهم. يحاول مخرجه طيلة مجريات الفيلم، أن ينقل متاهات يغرق فيها شباب اليوم تائها عن مصلحته الشخصية ومعانيا من فراغ يقضّ مضجعه.
انتقادات كثيرة وجهت إلى نديم تابت تحمّله وزر مبالغته في بعض أحداث عمله السينمائي الأول، فهو برأيهم وضع الشباب اللبناني في بوتقة واحدة رديئة تشوّه صورتهم. وحسب رأيهم لم يتطرّق إلى أي مناخ إيجابي تعيش فيه شريحة أخرى لا يستهان بها من الشباب. وأصاب تابت الأهل في الصميم عندما غيّبهم عن الفيلم بصورة لافتة، فلم تتضمّنهم أي من مشاهده، للإشارة في سياق صريح وواضح بأنّهم بالفعل غير حاضرين في حياة أولادهم، وبأنّهم لو لم يتخلّفوا عن متابعتهم عن قرب في أجواء تربوية مسؤولة، لما وصلت فلذات أكبادهم إلى طريق مسدود. فاكتفى بأداء ممثلين شباب (منال عيسى، ويمنى مروان، ورين سلامة، وبانوس إبراهميان، ونيكولاس قرداحي)، قدّموا بأدائهم الطبيعي مشكلات يعاني منها شباب اليوم، وتدور حول الإدمان على المخدرات وعلاقات حب غير موزونة، إضافة إلى افتقادهم القيم الاجتماعية في مجتمع يشاركون في صناعة فلتانه كي يتناسب مع ضياعهم.
ولعل الشّعور بالانزعاج الذي لفّ المشاهد مرات كثيرة إلى حد الاختناق من جراء مشاهد ولقطات نافرة (حالات إدمان متفاقمة وعلاقات جنسية سطحية وتهريب أسلحة)، يرفضها في صميمه وعلى أرض الواقع، كان عنصرا أساسيا لجأ إليه المخرج ليحرّك حفيظته ويدلّه على معاني وصول الأولاد إلى شفير الهاوية في ظل غضّ نظر الأهل عن الأخطار التي تهدّد كيان عائلاتهم. فبعضهم يغمض عينيه ولا يحاول حتى استراق النظر إلى أسلوب حياة أولاده بفعل أنانيته وتفضيله لراحته الشخصية على ممارسة مسؤوليته، فيما بعضهم الآخر يكتفي بالتواصل معهم من وراء جدران غرف البيت الواحد من دون بذل جهد الالتقاء بهم.
صُدم بعض المشاهدين بالفيلم، لأن مدينة بيروت أطلّت فيه مشوّهة من خلال مجتمع شبابي فاسد لا يأبه إلّا لتحقيق ملذاته بعيداً عن أي مبادئ وقيم اجتماعية. حتى أنّ البعض خرج من الصالة قبل انتهاء الفيلم لرفضه الاعتراف بواقع مشابه تتنفسه بيروت في شوارعها وأزقتها وبين بيوتها العتيقة التي حلّلتها شريحة من الشباب ساحات مفتوحة لتفتك بهياكل أجسادها الضعيفة وبعقولها ذات الأفكار الركيكة.
ومن المشهد الأول للفيلم الذي يحكي عن هروب بطلته ياسمينة من مركز تعالج فيه ضد الإدمان، ومرورا بلقائها مع صديقها السابق رامي الذي تحنّ إلى أيام جميلة جمعتها به في ماض قريب ونظيف، ووصولاً إلى لحظة اتخاذها القرار بالعودة إلى المركز وحيدة داخل سيارة أجرة، يأخذنا الفيلم وفي إيقاع ينشد بلوغ الذروة تجاه آفات يرتكبها هؤلاء الشّباب إلى طرح سؤال واحد «أين الأهل من هذا الواقع؟» لتستشف الجواب بصورة عفوية إلا وهو أهمية إحاطة الأولاد بأجواء عائلية صحيحة من شأنها أن تقف حاجزاً بينهم وبين مطبّات هم بغنى عنها.
ولا يأتي المخرج الذي صاغ شخصيا سيناريو الفيلم، على ذكر أي حلول ولا يشير إلى أي نوافذ أمل في مجريات قصته، تاركاً للمشاهد استنباط الرسالة التي يهدف إليها وهي ضرورة التّصرف بسرعة لإنقاذ العائلة اللبنانية ولا سيما تلك التي تفكّكت بفعل إهمال الرأسين المدبرين لها.
«سأعود إلى المركز علّ حالتي تتحسن وأعود كما كنت قبلا، وأنت اهتمي بنفسك فربما نلتقي من جديد تماما كما كنّا في الماضي»، هي الرسالة الإلكترونية التي تكتبها ياسمين لصديقتها مايا في نهاية الفيلم وذلك قبيل عودتها إلى مركز معالجتها من الإدمان. فتلخص رسالة إنسانية رغب المخرج خلالها القول بأن هؤلاء الشّباب بحاجة إلى المساعدة والحب، وبأنّهم لا يزالون يتمتعون بالقدرة على التفريق ما بين الصّح والغلط ويحلمون بالانتقال إلى شاطئ الآمان رغم كل شيء.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».