حتى لا نخسر معركتنا الفكرية قبل بدايتها

TT

حتى لا نخسر معركتنا الفكرية قبل بدايتها

لعلها تكون الصدفة التي جمعتني بكتاب فارقت بيني وبينه السنوات، بعنوان «نهاية الإيمان: الدين والإرهاب ومستقبل العقل»، لكاتب مغمور آنذاك اسمه «سام هاريس» استعان بعنوان شابه كتاب فرانسيس فوكوياما «نهاية التاريخ». والكتابان يحملان في طياتهما نوعاً من الحتمية، فالثاني يقول إن التقدم البشري وقف عند مبتغاه بالثقافة الغربية، بينما الأول يضع حتمية نهاية الدين ودوره في سلوك المجتمعات والأفراد، حاملاً في طياته رؤية تعد مزايدة فجة على فكر حركة عصر التنوير، وما تلاها من حركات فكرية في أوروبا لتحجيم دور العقيدة في السياسة والعلم والإدارة. وكما فعل «كارل ماركس»، فقد وجه الكاتب سهاماً قاتلة للدين ودوره في حياتنا، مطالباً بإنهاء آثاره السلبية على البشرية. وحقيقة الأمر أن الكاتب لم يفرق مطلقاً بين الأديان المختلفة، سواء السماوية أو غيرها، فلم تسلم أية عقيدة منه، ومن مطلبه الرئيسي بأن تتحول البشرية إلى اعتناق المذاهب العقلية دون الميتافيزيقية بتبريرات غير مُسندة أو حتى واقعية، ولكنه بالتأكيد خص الإسلام بقدر لا بأس به من الهجوم، مستنداً إلى أطروحات ليست بجديدة، ولكن المستغرب له هو حجم التبجيل الذي لاقاه هذا الكتاب من بؤر فكرية غربية، فدخل قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، وفقاً لجريدة «نيويورك تايمز» الأميركية.
ولعل أكثر ما صدمني كانت جملة قال فيها الكاتب: «إن المتدين الوسطي ما هو إلا مشروع متطرف فاشل»، أي أننا جميعاً متطرفون بحكم العقيدة ولا مناص من ذلك، اعتقاداً منه بأن الطبيعي هو التطرف لأن جوهر الأديان - خصوصاً السماوية - تحث على ذلك، رافعاً شعار العقل الذي يمثل بالنسبة له وسيلة الخلاص الإنساني من الدين، ويؤكد في جملة أخرى «... أن الإيمان المبني على عقيدة دينية هو نوع من الجهل الإنساني الذي لا يسمح بالتصحيح». وبهذه الجملة، وضعنا الكاتب خارج نطاق الخلاص الفكري والإنساني لمجرد أننا مسلمون، وهو ما نرفضه شكلاً وموضوعاً للأسباب التالية:
أولاً: ما من مجتمع عبر التاريخ إلا وكان له نوع من المعتقد الإيماني، الذي يحلو للبعض تسميته ميتافيزيقا. فمنذ القدم، ابتكر الإنسان الآلهة لمحاولة تبرير بعض الظواهر الكونية. فنجد عن قدماء المصريين والإغريق والرومان آلهة لكل شيء: الخصوبة والحرب والطقس والبحر... إلخ. وهو أمر طبيعي ومفهوم، وفي هذه المجتمعات نفسها، نجد العلماء والمفكرين والفلاسفة، ولم تؤثر واحدة على مجرى الأخرى، أو تقدم الحضارة ذاتها.
ثانياً: الدين الإسلامي، على سبيل المثال، لم يمنع ظهور المناهج العقلية، وكتب التاريخ الإسلامي غنية بأسماء لا مجال لحصرها هنا، وذلك مع تسليمنا بأن البعض تعرض لحركات رفض مجتمعي أو سياسي، ولكن المجمل هو أن الحضارة الإسلامية لم تكن عاقراً في مجال حركة العقل وتطور العلم، وهو ما لا يمكن أن يمثل نتوءاً، بل كان القاعدة.
ثالثاً: إن الكتاب جزءٌ من حركة ممتدة تهدف لمحاولة تغليب العقل على العقيدة، بدأت بمحاولة عزل الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا عن السياسة والعلم وإدارة الدولة، وامتدت مع مرور الوقت للهجوم على العقيدة ذاتها. ومع كل أسف، فلقد أُخذنا فيها كعالم إسلامي بغير إرادتنا نتيجة للخلط بين تجربة الدين الإسلامي وتجربة الكنيسة الكاثوليكية، فتم وضعنا في بوتقة واحدة امتدت لتشمل الأديان بصفة عامة، وقد تعرضت لها بالتفصيل في إحدى مقالاتي بعنوان «تجربتان دينيتان مختلفتان».
رابعاً: إن أكبر حركة عنف عرفتها الإنسانية، ممثلة في التجربة النازية بألمانيا، لم يكن للدين أي باع فيها، فالنازية لم ترتبط بعقيدة دينية على الإطلاق، بل كانت عقيدة مبنية على أسس المنهج العقلي الممتزج بالقومية المتطرفة، التي كان الدين منها براء. ومن ثم، فإن البعد عن الدين ليس بالضرورة معناه البعد عن التطرف، فالتطرف السلوكي، سواء للفرد أو المجتمع أو الدولة، لا يرتبط بالضرورة بالدين. وهنا، تحضرني أيضاً التجربة السوفياتية، والآلام الإنسانية المرتبطة بها، التي كانت المسيحية منها بريئة.
وفي ما يتعلق بالإسلام، وما نسب إليه في هذا الكتاب، فإنما يعكس فهماً خاطئاً لأصول وتاريخ هذا الدين الحنيف من قبل الكاتب، مع التسليم بأخطاء في سلوكيات ساسة ورجال دين عبر التاريخ الإسلامي. وإذا ما كانت هذه مشكلة الكاتب، فإنها أصبحت أيضاً مشكلتنا نحن المسلمين أيضاً، ولي شخصياً باعتباري من المسلمين الذين استاءوا من مثل هذه الافتراءات على عقيدتي وتاريخها، ولكن هذا الكاتب مجرد نموذج من تيار ممتد ضد الإسلام، الذي أصبح بعد الحرب الباردة أساساً لصناعة العدو الجديد. ونحن كما أوضحت في المقالة السابقة «في خطر التمترس الفكري والثقافي»؛ نشجب الجهل بنا ولكننا مقصرون جماعة في تقديم منظومة الدفاع العقلي والتاريخي عن عقيدتنا، فغير المسلم ليس على استعداد للاستماع إلى خطابنا الديني / الثقافي، الذي هو موجه لنا وليس لهم، فنخسر المعركة الفكرية قبل بدايتها لأننا لا نتحاور بلغتهم، فنزهو بأنفسنا دون أن ندرك أن الوقت في غير صالح الأجيال القادمة منا، التي تتحدث لغةً جديدةً وتبتعد زمنياً عن منابع ثقافتنا وديننا الحنيف، ويجب التواصل الفكري معها، فلقد عشقنا ديننا أمام مرآة الذات الإسلامية، واليوم فرض علينا الجهاد ولكنه جهاد بلغة جديدة وخطاب جديد ليفهمنا العالم بمفرداته، فنُعرفهم قيمة هذا الدين الحنيف.



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.