فرنسيس مكدورمند: أطلب من الجمهور أن يؤازر النجاح الذي تشهده سينما المرأة

تتحدث عن الأوسكار والغضب ومراحل حياتها

كما بدت في «فارغو»
كما بدت في «فارغو»
TT

فرنسيس مكدورمند: أطلب من الجمهور أن يؤازر النجاح الذي تشهده سينما المرأة

كما بدت في «فارغو»
كما بدت في «فارغو»

أن تموت فرنسيس مكدورمند أو لا تموت... هذه هي المشكلة.
على الأقل في غضون فيلم Blood Simple عندما استأجر زوجها (دان هدايا) تحرياً خاصاً (م. إيميت وولش) ليقتلها قبل أن تقلب الزوجة الطاولة ويصبح زوجها هو المهدد بالقتل.
«Blood Simple» (1984) كان الفيلم الأول لفرنسيس مكدورمند التي ملأت قبل أيام ليست بالبعيدة عواميد الصحف والمجلات وشغلت صفحات المواقع بسبب فوزها بالأوسكار عن فيلمها الأخير «ثلاث لوحات خارج إيبينغ، ميسوري».
دخلت فرنسيس ذلك الفيلم مجهولة وخرجت منه نجمة. لكن ذلك لم يكن الشيء الوحيد الذي خرجت به مكدورمند من الفيلم، بل خرجت كذلك بزوج وقف - مع شقيقه وراء الكاميرا مخرجاً هو جووَل كووَن.
كانت في السابعة والعشرين من عمرها عندما مثلت ذلك الفيلم، فهي وُلدت في الثالث والعشرين من شهر يونيو (حزيران) سنة 1957 من عائلة كندية بالتبني. والدها كان مبشراً دينياً في بعض كنائس الولايات الشرقية والوسطى من أميركا وانتقلت معه كثيراً قبل أن تستقر العائلة في بنسلفانيا حيث دخلت مدرستها العليا.

حب التمثيل بدأ مبكراً عندما لعبت، وهي ما زالت دون العشرين سنة دور ليدي ماكبث في مسرحية في المعهد وبعد تخرجها دخلت معهد يال الشهير للدراما.
بعد يال وصلت إلى نيويورك وشاركت مع الممثلة هولي هنتر العيش في شقة واحدة ولعبت على خشبة المسرح خارج برودواي قبل أن تجد نفسها مطلوبة لتمثيل ذلك الفيلم البوليسي الداكن.
بعد «دم بسيط» وضعها المخرج سام ريمي في دور مساند في «موجة جريمة» ثم انتظرت عامين ودخلت تصوير «تربية أريزونا» لزوجها وشقيقه ناتان كووَن وشاركتها هولي هنتر الأدوار الأولى لجانب نيكولاس كايج.
في العام التالي وجدناها في فيلم الآن باركر «مسيسيبي بيرننغ» لتكر السبحة بعد ذلك: «داركمان» لسام ريمي (1990)، «أجندة مخفية» لكن لوتش (1990)، «اختصارات» لروبرت ألتمن (1993)، «نجمة منفردة» لجون سايلس (1996). هذا وسواه تقاطع دوماً مع أدوارها في أفلام الشقيقين جووَل وناتان كووَن: «جسر ميلر» (1990) «بارتون فينك» (1991) و«فارغو» (1996) أحد أهم أفلامها في ذلك الحين.
أفلامها لم تتوقف عند نهاية التسعينات بل استمرت من دون انقطاع يذكر مع زوجها ومن دونه. وبذلك بنت صرحاً من نحو 48 فيلما بما فيها الفيلم الذي مكّنها من الحصول على جائزة الأوسكار للمرة الثانية عن «ثلاثة إعلانات...» (الأول كان عن دورها في فيلم «فارغو» بعد عام من إنجاز الفيلم).
عندما تسلمت الأوسكار استغلت وقوفها على المنصّة لكي تدعو هوليوود إلى قبول الإناث من الممثلات لا كمواهب أداء فقط، بل كشركاء عمل وصاحبات قرار. هذا ترك انطباعاً جيداً. لكن هل سيدوم؟
الشرق الأوسط التقت فرانسيس مكدورمند ودار معها الحوار التالي:
> بقدر ما كان فوزك بالأوسكار حدثاً بالنسبة إليك وللفيلم بأسره بقدر ما تركت كلمتك تأثيراً كبيراً. هل تتوقعين تغييراً كبيراً في هوليوود بناءا على دعوتك أو بسبب ما حدث منذ فضيحة هارفي وينستين؟
- التغيير بدأ بالفعل. هناك حذر من الخوض في الطمي وتفضيل استخدام الطرق الآمنة هذه الأيام. لم أقصد من كلمتي القول بأن وضع الممثلات سيء، بل قصدت أن هذا الوضع يمكن له أن يكون أفضل. هوليوود مدينة رجالية المنشأ إلى حد، لكن المرأة كمنتجة وكمخرجة وككاتبة وممثلة كان لها دور كبير في هذه النشأة ولا تزال لكن الحقوق عليها أن تتساوى ولا تترك لقرارات فردية. كذلك يجب أن تتسع دائرة التعاون الخلاق مع النساء. على هوليوود أن تستمع أكثر.
> أفلام المرأة في العام الماضي ومطلع هذا العام كانت حاضرة بقوّة. رأيناها قوية في فيلمك، وكذلك في أفلام السوبر هيرو. ما تعليقك على هذا النجاح؟
- إنه نجاح كبير. الجمهور يقبل على هذه الأفلام. أقبل على «ثلاثة إعلانات» وأقبل على «ليدي بيرد» وعلى «ووندر وومان». لكن ما على هوليوود والجمهور القيام به هو السعي لمزيد من هذه الأفلام. بل أطلب من الجمهور مؤازرة هذه الأفلام النسائية.
> طالما أن الجمهور راغب بها. أقصد أنه في اللحظة التي يتوقف الجمهور عنها ستتوقف هوليوود عن إنتاجها. أليس كذلك؟
- هذا ما يحدث عادة لذلك أهيب بالجمهور أن يؤازر النجاح الحالي وألا يجعله ظرفياً. عليه أن يطلب حضور المرأة على نحو أقوى. هذا يتم بسيناريوهات جيدة لا بنسخ متكررة وشخصيات نمطية‪.‬
> هل تجدين أن هذا الحضور النسائي على الشاشة هو رد غير مباشر على تلك الفضائح التي وقعت مؤخراً؟
- ليست موقوتة بالطبع لكي تواكب تلك الفضائح أو تأتي كاحتجاج عليها أو كنتيجة معاكسة لها. وشخصياً لا أكترث لكي أصرف الوقت على الحديث في شأن هذه الفضائح. ما علينا القيام به هو طرح الأسئلة الأكبر حول سياسة التفرقة الجنسية وكيف يمكن أن نتجاوزها. هناك بطولات على الشاشة وهذا جيد، لكن هوليوود مدعوّة لتقديم المزيد.

إضافة على السيناريو
> «ثلاثة إعلانات» قدّم شخصية امرأة قوية العزيمة مستعدة للذهاب إلى أقصى درجات ممكنة في مسعاها لمعرفة ما حدث لابنتها. البعض قارن شخصيتك هذه بشخصية جون واين في أفلامه. هل تعجبك هذه المقارنة؟
- نعم. أحببت توظيفه كفكرة. دائماً ما أحببت تمثيله. هل تعلم، كانت قدماه صغيرتان على الرغم من طوله وهذا ما جعله يسير كمن يبحث عن توازنه. هذا ما قرأته في أحد الكتب عنه.
> هل تهوين قراءة كتب السير الشخصية؟
- لا. لكن ذلك الكتاب، الذي لا أذكر اسم مؤلفه، كان استثناءً. قرأته بشغف من الغلاف إلى الغلاف. تعرف أن اسمه كان ماريون موريسون وغيّره إلى جون واين. اسم أفضل تأثيراً. كان يعرف ما يريد ويعرف أن الجمهور يريده جون واين وليس ماريون موريسون.
> في «ثلاث لوحات» اشتغلت على صورة المرأة الواثقة من نفسها. هل كان ذلك موجوداً في السيناريو أم أنك تدخلت لتطويره؟
- إذا نظرت إلى قائمة أفلامي ستجدني لعبت الكثير من شخصيات المرأة الضحية. هذه المرّة أعتقد أنني منحت الدور شيئاً أكثر مما كان عليه في البداية لكن ليس للمرّة الأولى. أعتقد أنني دوما ما جلبت إلى الشخصية ذلك القدر الإضافي. ما أثارني على الورق هو أن هذه المرأة يمكن النظر إليها كضحية من أكثر من وجه إلى أن قررت أن تأخذ الأمور والقرارات بنفسها. بذلك توقفت عن أن تكون ضحية وأصبحت عنصراً في تغيير مسار حياتها.
> هل بنيت شخصية ميلدرد تبعاً لشخصية حقيقية تعرفينها؟
- لا. لكني أعتقد أن هناك أجزاءً من هذه الشخصية في كل النساء أو في كثير منهن على أي حال.
> هناك أيضاً من قارن بين دورك في هذا الفيلم ودورك في «فارغو» على صعيد قوّة الشخصية في كلا الفيلمين.
- علي أن أقول إنني لا أوافق. شخصيتي في «فارغو» كانت ملازمة للمرحلة الاجتماعية التي كانت تعيشها المرأة حين ذاك وهي مرحلة مختلفة عن تلك التي نعيشها اليوم. تستطيع أن تقول إن كلتا المرأتين كانتا عنيدتين في سبيل تحقيق غاية البحث عن الحقيقة. مارج في «فارغو» كانت تريد أن تكشف حقيقة خطة وضعها رجل للتخلص من زوجته والحصول على فدية من أبيها لذلك قام بتدبير حادثة الاختفاء. ميلدر في فيلمي الأخير هي امرأة غاضبة إلى حد مواز للتراجيديا الإغريقية. الأولى ليست غاضبة بل عنيدة وتقوم بواجبها كامرأة بوليس وهي حبلى. هنا هي ليست غاضبة بل في حالة هيجان.
> مارج كانت شرطية طيبة، لكن ميلدرد لم تكن امرأة طيبة.
- إلى حد نعم. لكن ميلدرد خسرت ابنتها وهي معذورة. لو حدث ذلك معك هنا (أميركا) لا تدع هذا الوضع من دون أن تسعى بكل طاقتك لتعرف ما الذي حدث ومن هم الجناة ولماذا لم يستطع البوليس معرفتهم. ربما في ظروف أخرى كانت ميلدرد ستبدو امرأة طيبة. لكني أود أن أؤكد على أنها لم تكن مجرد امرأة غاضبة. لا. لم تكن غاضبة مطلقاً بل مهتاجة.

ستون سنة
> هل حدث أنك شعرت بغضب جامح كما في «ثلاث لوحات»؟
- أغضب لكني لا أنفعل. كل غضب له طريقة معالجة. إنه رد فعل طبيعي لكن على المرء أن يعالجه بحكمة. الغضب قد يكون أفضل حافز للتغيير.
> هل أخبرك المخرج مارتن ماكنوف أنه شاهد أفلامك السابقة؟
- أعتقد أنه لم يشاهد كل أفلامي السابقة فقط بل مسرحياتي أيضاً. شعرت وأنا أتحدث إليه أنه يعرفني. طبعاً قال لي أنه شاهدني على الشاشة كثيراً، لكن حديثه معي جعلني أشعر بأنه شاهدني أكثر مما أوحى.
> هل شعرت في مراحل حياتك المختلفة بحالة من عدم الإنصاف؟
- عمري 60 سنة الآن ولا بد أنه حدث معي حالات كثيرة من هذا النوع. أكثر من ذلك، مهنتي كلها بُنيت على وضع من اللا إنصاف. منذ أن كنت ممثلة شابة وهناك من قال لي لا تستطيعين فعل هذا الأمر أو تمثيل هذا الدور. وهناك من قال إنني لست ممثلة طبيعية. لكن هذا حفزني لأثبت أخطاءهم وسوء تقديرهم لما أستطيع القيام به. أعتقد أن دوري في «ثلاث لوحات» هو ذروة الرد على أولئك المشككين. لم يكن من الإنصاف أن يُقال لي ذلك. كان يمكن أن يدمرني أو يدمر أي ممثلة أو ممثل مبتدئ.
> هل يغير الأوسكار وضع الممثل ومهنته بالفعل؟
- يعتمد الأمر على حالات مختلفة. بالنسبة لي سعيدة بما حصلت عليه من تقدير. غولدن غلوبس وأوسكار وجوائز جمعيات نقاد كثيرة، لكن لا أرى كيف يمكن لهذه الجوائز أن تتدخل مباشرة في توجيه مهنتي. لقد أفادت ممثلين آخرين من الجنسين، لكنها لم تتدخل في تطوّر مهنة ممثلين آخرين.
> هل تعتبرين بلوغك الستين بمثابة حجر أساس لمرحلة جديدة؟
- إنها مناسبة ربما للنظر إلى الماضي ومعاينة موقعي الآن، لكني بصراحة لا أتكل كثيراً على النتائج (تضحك). لقد فكرت سابقاً في أن أمارس عملاً آخر بجانب التمثيل، لكني لم أكن مستعدة في الواقع. لم أجد سبباً كافياً. أنا زوجة جيدة. هناك مراحل في حياتي ركّزت فيها على أن أكون «ست بيت» صالحة.
> ماذا عن التمثيل للمسرح؟ هل يشكل لديك الأهمية ذاتها؟
- أحب المسرح ودائماً ما سعدت بالتمثيل المسرحي، لكني أستطيع البقاء حية من دونه. لن أموت إذا لم أمثل للمسرح، لكني أفضل أن أبقى ممثلة مسرحية.
> مثلت تحت إدارة زوجك وشقيقه عدة أفلام آخرها قبل سنتين («مرحى يا قيصر») لكن ذلك لم يحد من نشاطك مع مخرجين آخرين. ما الذي تجدينه مختلفاً بين العمل مع مخرج هو زوجك وبين العمل مع مخرج غريب عنك؟
- لماذا عليه أن يحد من نشاطي؟ أنا ممثلة وأقرأ الكثير من العروض وأختار ما أعتقد أنني أجد نفسي فيه أو ما يجعلني أشعر بأن علي أن أدعم هذا العمل بوجودي أو، ثالثاً، أنه من الإجادة بحيث علي القبول به لهذا السبب على الأقل.
مسألة أنني متزوجة من مخرج هي في نهاية حساباتي. لكن من ناحية سؤالك هو الاختلافات فأنا سعيدة بأن زوجي كما أي مخرج آخر يمنحني الحرية لكي أتصرف كما أرغب. أعتقد أن هناك مخرجين أوصياء يطلبون من الممثل ما لا يشعر به وإن قام به على خير وجه. بالنسبة لي لا يثيرني مثل ذلك المنهج. أجده يأخذ مني ولا يعطيني شيئاً.
> هل تشاهدين أفلامك حال خروجها للعروض السينمائية أو تتحاشين ذلك كما يفعل البعض؟
- أشاهدها بالطبع. ليس عندي أي سبب لكي أخشى ردة فعلي على ما قمت به.
> هناك من يؤثر ألا يراها مطلقاً أو ليس في الوقت الراهن لها على أي حال.
- نعم. قرأت ذلك سابقاً، لكن ذلك عائد إلى قرار شخصي لا أطبقه بنفسي. أحب أن أرى الفيلم الذي مثلته في أي وقت. هناك أفلاماً لي شاهدتها أكثر من مرّة.
> هل تشاهدين أفلامك القديمة؟
- نعم لكني لا أفعل ذلك كثيراً.
> بالنسبة لك ما هو التطوّر الذي طرأ على تمثيلك منذ الثمانينات وإلى اليوم؟
- هذا سؤال صعب لأن هناك الكثير من التطوّر الذي لازمني طوال هذه الفترة. أعتقد أن هذا التطوّر طبيعي ويحصل مع معظم الممثلين. بالنسبة لي ألاحظ أنه بات لدي صوت مختلف. في البداية ربما كنت تستطيع أن تضع بدلاً عني أي ممثلة أخرى، لكن بعد حين أعتقد أنني أصبحت أنا على الشاشة. هل تدرك ما أقول؟
> تماماً. وهذا ربما بدأ مع «فارغو».
- ذكرت «فارغو» في حديثك أكثر من مرّة وأوافقك. كان الدور من تلك التي منحتني الفرصة لكي أستبدل بعض الحقائب السابقة بجديدة. وبما أنك سألت، شاهدت مؤخراً فيلمي الأول «دم بسيط» وبعده شاهدت «فارغو» والآن «ثلاث لوحات» وبينها جميعاً هناك أدوار أخرى، وأعتقد أن هذا التطور الذي تتحدث عنه موجود في كل هذه الأعمال. هي مراحل وكل مرحلة تضيف شيئاً لما سبق.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».