موسم رمضان التلفزيوني يصل خجولا إلى المحطات اللبنانية بسبب المونديال

نجمات بامتياز يطبعن أبرز مسلسلاته بينهن هيفاء وهبي وميريام فارس

مشهد من مسلسل «اتهام» لميريام فارس، من تأليف كلوديا مرشيليان وإخراج فيليب أسمر
مشهد من مسلسل «اتهام» لميريام فارس، من تأليف كلوديا مرشيليان وإخراج فيليب أسمر
TT

موسم رمضان التلفزيوني يصل خجولا إلى المحطات اللبنانية بسبب المونديال

مشهد من مسلسل «اتهام» لميريام فارس، من تأليف كلوديا مرشيليان وإخراج فيليب أسمر
مشهد من مسلسل «اتهام» لميريام فارس، من تأليف كلوديا مرشيليان وإخراج فيليب أسمر

غابت أجواء التنافس التي اعتدناها بين محطات التلفزة اللبنانية في موسم رمضان لهذا العام. فوصول هذا الشهر الكريم وبالتزامن مع مباريات كأس العالم لكرة القدم أثر في أدائها بشكل عام.
صحيح أن الحديث عن برامج التلفزيون الخاصة في هذه المناسبة، ولا سيما المسلسلات الدرامية منها، سبق وصول شهر رمضان بأسابيع طويلة، إلا أن المشاهد اللبناني بقي يترقب المزيد منها دون أن يفقد الأمل، ولكن انتظاره ذهب سدى لأنه وكما يقول المثل اللبناني (اللي ضرب ضرب واللي هرب هرب)، فما عاد هناك من ضرورة للتجاذب أو التنافس من أجل الحصول على أحقية عرض مسلسل على هذه الشاشة أو تلك في ظل تزامن المناسبة مع المونديال.
ورغم أن التلفزيونات المحلية لن تعوض هذا الفراغ ولا حتى من خلال عرض مباريات كأس العالم وعددها 64، لأن الأمر منوط فقط بشركة (سما) صاحبة الحق الحصري لعرضها في لبنان عبر الأقمار الصناعية - فإن ذلك لم يحفز مؤسسات الإعلام المرئي على استخدام أسلوب شد الحبال بين بعضها بعضا لتغيير هذا الواقع.
وقد تكون محطة تلفزيون «المستقبل» هي الوحيدة التي شذت عن القاعدة، وعملت كالعادة على استقطاب أكبر عدد من مشاهديها من خلال تقديمها شبكة برامج رمضانية بامتياز ترضي جميع الأذواق، ولم ترتكز فقط على المسلسلات، بل على برامج الترفيه.
أما تلفزيونات (الجديد) و(إم تي في) و(إل بي سي)، فاكتفت كل منها باختيار عملين دراميين أو ثلاثة على الأكثر لكسر الجليد فيما بينها وبين مشاهدها وبأقل ضرر مادي ممكن، لا سيما أنها تعرف في قرارة نفسها أن المونديال هو الذي سيكتسح نسبة المشاهدة على الساحة التلفزيونية، فيشكل بحد ذاته أهم وأكبر عنصر تسلية للمشاهدين دون منازع. ففي مؤتمر صحافي ضم كوكبة من أهل الإعلام تلته دعوة إلى الغداء، أطلق تلفزيون «المستقبل» شبكة برامجه الرمضانية، التي تضمنت دراما منوعة، إضافة إلى باقة من البرامج الترفيهية التي تقدمها وجوه من أهل البيت وغيرهم.
«كلام على ورق» و«طوق البنات» هما عنوانا المسلسلين اللذين اختارتهما «المستقبل» لعرضهما على شاشتها في الشهر الكريم؛ الأول من بطولة الفنانة هيفاء وهبي والمصري ماجد المصري ومن إخراج محمد سامي. يحكي المسلسل قصة امرأة متزوجة تجمعها قصة حب برجل آخر لا يلبث أن يقتل، فتجد نفسها في قفص الاتهام ضمن أحداث سريعة تضعها على مفترق طرق.
أما المسلسل الثاني، فيعد أحد أضخم الإنتاجات العربية لهذا الموسم، يجتمع فيه منى واصف ورشيد عساف وديمة قندلفت وغيرهم، وهو من إخراج محمد زهير رجب. ينقل المسلسل مجموعة قصص مترابطة يختلط فيها الخاص والعام، حيث الخيانة والحب والظلم والحق والحرية والاستبعاد وينتصر فيها الياسمين الشامي، ولذلك كان «طوق البنات».
ولونت «المستقبل» شبكتها الرمضانية بسلسلة من برامج الترفيه كـ«خلي السهرة عنا» و«مود من الضحك» و«إيه بس بس»، التي بينها ما هو حواري فني مسل، يشارك في تقديمه وعلى مدى خمس عشرة ليلة من القسم الأول من شهر رمضان كل من: كارين سلامة، وجوزف الحويك، وغيدا مجوب، وإيلي أحوش. أما النصف الثاني من الشهر، فسيقدمه ميشال قزي ضمن برنامج ألعاب وربح جوائز قيمة، بينها سحب يومي للفوز بسيارة.
وينقل الممثل ميشال سليمان مشاهدي قناة «المستقبل» إلى أجواء مليئة بالضحك والمرح، فيطل عليهم في فقرات منوعة يستقبل فيها ضيفا مشهورا في «ستاند آب كوميدي»، لينتقل بعدها إلى فقرات تقليد ودبلجة مسلسلات لبنانية بطريقة مضحكة، وليختتم بفقرة يجري فيها تنويم الضيف للوقوف على طبيعة أحلامه في «مود من الضحك». وتطل لمى لوند في «إيه بس بس» ومع فريق من الاختصاصيين في عالم التجميل، للبحث عمن هو بحاجة إلى تغيير مظهره جذريا في أسلوب تلفزيون الواقع ومباشرة أمام الكاميرا.
من ناحيتها، ركزت قناة (الجديد) على أعمال الدراما بشكل عام، فاختارت أكثر من مسلسل درامي لعرضه في شبكة برامجها الرمضانية. أما أبرزها، فهو مسلسل «الاتهام» لميريام فارس التي ستكون نجمته، وهو من تأليف كلوديا مرشيليان وإخراج فيليب أسمر، ويشارك في بطولته المصري حسن الرداد وعزت أبو عوف، وتقلا شمعون ونهلة داود وغيرهم. يحكي المسلسل قصة فتاة لبنانية (ريم) تسافر إلى القاهرة للعمل في مصنع للقطن لإعالة عائلتها، لكنها تقع فريسة عصابة تعمل في المخدرات والدعارة، غير أنها تجد من ينقذها من أسر السجن، فتقرر الانتقام من كل من ظلمها، وأثناء خوضها معركتها في الحياة تصطدم بأن رأس العصابة التي أوقعت بها هو والد حبيبها خالد (حسن الرداد)، فتجد نفسها بين نارين، نار الظلم التي اكتوت بها وأدت إلى وفاة والدتها المفجوعة ونار حبها لابن ظالمها. كما اختارت «الجديد أيضا ثلاث مسلسلات سورية، وهي «الغربال» و«صرخة روح 2» و«خواتم». الأول من بطولة عباس النوري وبسام كوسى ومنى واصف وإخراج ناجي طعمة، ويتناول صراع الخير والشر وما يمكنه أن يولّد من مآس وظلم على باقي الشخصيات الموجودة في ساحة الصراع. أما الثاني، فهو من بطولة أيمن زيدان وأمل عرفة وعباس النوري وغيرهم ومن إخراج سيف الدين السبيعي. يتألف المسلسل من ست خماسيات تتحدث عن قصص الخيانة الزوجية المحرمة في طرح جريء. أما الثالث، فهو من بطولة عبد المنعم العمايري وكاريس بشارة، ويحكي عن ذكاء الأنوثة المسجون في خاتم الشيطان الذي يؤول في النهاية إلى التخلي عن الظلام. ولم تتوان «إم تي في» عن دخول ساحة السباق الرمضاني هذا العام، ولكن على طريقتها اللبنانية الصرفة. «لو» و«عشرة عبيد صغار» هما اسما المسلسلان اللذان اختارتهما لعرضهما في شبكتها الرمضانية، إضافة إلى البرنامج الحواري الفني للإعلامي نيشان ديرهاروتونيان، «ولا تحلم»، الذي يستقبل فيه ككل عام من هذا الشهر نجوم أهل الفن على الساحة العربية.
مسلسل «لو» الذي سبق أن قدمته الشركة المنتجة له (سيدرز برودكشن - صبّاح إخوان) مع تلفزيون (إم تي في) في مؤتمر صحافي، يلعب بطولته كل من نادين نسيب نجيم ويوسف الخال وعابد فهد، ويلقي الضوء على مفهوم الخيانة الزوجية من ثقافة إلى أخرى في مختلف المجتمعات الإنسانية، نتيجة وجود خلل ما بين الزوجين. أما مسلسل «عشرة عبيد صغار» المقتبس عن قصة للروائية البريطانية آغاثا كريستي، الذي تنوي أيضا (إم تي في) إطلاقه إعلاميا في مؤتمر صحافي الأسبوع المقبل، فيحكي قصة عشرة غرباء جرت دعوتهم إلى جزيرة بعيدة بمعلومات كاذبة، فيموتون جميعا الواحد تلو الآخر، وشيئا فشيئا يدركون أن القاتل بينهم. وفي النهاية، تصبح القصة لغزا صعبا، حيث تموت كل الشخصيات، وتبقى الشرطة مع عشر جرائم غير محلولة. وهو عبارة عن ثلاثين حلقة فيها الكثير من التشويق، ومن بطولة وسام حنا، وريتا حرب، وتقلا شمعون وبريجيت ياغي، وجورج شلهوب.
«إل بي سي» من جهتها حسمت أمرها منذ البداية، فقررت أن تشارك في الموسم، ولكن دون المبالغة في المنافسة، حيث إن القيمين على برامجها، ارتأوا عدم المغامرة في ظل تزامن الشهر المبارك مع مباريات المونديال. ولذلك، فهي تأنت في خياراتها هذه، فضمت إلى مسلسل «الإخوة» الذي ستواظب على عرضه (بدأت بثه منذ نحو الشهر) طيلة موسم رمضان، مسلسل «باب الحارة» في جزئه السادس، إضافة إلى المسلسل اللبناني «عريس وعروس» بطولة ورد الخال ويورغو شلهوب ومسلسل «سيرة حب» لسيرين عبد النور. والمعروف أن «باب الحارة» يسلط الضوء على الحياة الدمشقية والقيم النبيلة والعادات والتقاليد الأصيلة في سوريا. وجديده هذا العام مشاركة باقة جديدة من الممثلين السوريين فيه أمثال أيمن زيدان.
أما مسلسل (عريس وعروس)، فهو من نوع الكوميديا الخفيفة ويلعب بطولتها، الممثلان ورد الخال ويورغو شلهوب ويتألف من ثلاثين حلقة. ويعد مسلسل «سيرة حب» الذي تلعب بطولته الممثلة سيرين عبد النور مع السوري مكسيم خليل، يشبه في تركيبته المسلسل السابق «روبي» من النوع الرومانسي. ويتألف من تسعين حلقة، يبدأ عرض ثلاثين منها في موسم رمضان ليجري استكمالها بعده.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)