إسبانيا: الأزمة الكتالونية بانتظار مقاربات جديدة

بعد توقيف الزعيم الانفصالي بوتشيمون... واحتجازه في ألمانيا

إسبانيا: الأزمة الكتالونية بانتظار مقاربات جديدة
TT

إسبانيا: الأزمة الكتالونية بانتظار مقاربات جديدة

إسبانيا: الأزمة الكتالونية بانتظار مقاربات جديدة

بعد نصف سنة على انطلاق «المغامرة الانفصالية» الكتالونية التي شكلّت أكبر تهديد لوحدة الدولة الإسبانية في تاريخها الحديث، يبدو المشهد محزناً في هذا الإقليم المتوسطي الذي منذ عقود يستقطب اهتمام الفنانين والمبدعين، ويجذب السيّاح والتجار وهواة الرياضة من أرجاء المعمورة. كارليس بويدجيمونت، الزعيم الانفصالي الذي أعلن قيام «الجمهورية الكتالونية» متحديّاً حكومة مدريد وقرارات المحكمة الدستورية، يقبع الآن في أحد السجون الألمانية إلى جانب مهرّبي مخدّرات ومغتصبين ومرضى نفسانيين بانتظار أن يبّت القضاء الألماني طلب تسليمه إلى السلطات الإسبانية. ومن شبـه المؤكد أن تنتظره عقوبة بالسجن لسنوات بتهمة التمرّد والعصيان المدني والتحريض على الفتنة. أما بقيّة الزعماء الذين قادوا «المغامرة الانفصالية» فليسوا بحالٍ أحسن من حال رئيسهم الذي فرّ متخفيّاً إلى بلجيكا، ومن هناك راح يتنقّل في العواصم الأوروبية محفوفاً برموز الحركات الانفصالية في أوروبا. ومعظم هؤلاء الآن إما في السجون قيد المحاكمة، أو اختاروا الفرار من وجه العدالة الإسبانية التي يبدو أنها السلاح الوحيد في متناول حكومة مدريد المركزية... المستمرة في جمودها السياسي إزاء ما يعتمل في أغنى أقاليم إسبانيا.
يرى متابعو الشأن السياسي في إسبانيا أن الملاحقات القانونية التي يخضع لها القادة الكتالونيون الانفصاليوّن تحول دون تكليف أي منهم تشكيل الحكومة الإقليمية المرتقبة بعد الانتخابات الأخيرة التي فازت فيها الأحزاب المطالبة بالاستقلال بغالبية بسيطة. ومن ثم، فمن دون تشكيل الحكومة الإقليمية يستحيل إبطال مفاعيل المادة 155 من الدستور الإسباني التي لجأت إليها سلطات مدريد لتعليق العمل بنظام «الحكم الذاتي» في كتالونيا، ووضع المؤسسات المحلية في الإقليم تحت الإشراف المباشر للسلطات الفيدرالية المركزية.
وليس هناك ما يشير حتى الآن إلى أن الأحزاب الانفصالية مستعدة لتقديم مرشّح لا يخضع لملاحقة قانونية كي يشكل الحكومة الجديدة؛ تمهيداً لمحاولة الخروج من الطريق المسدودة الذي وصل إليه الصدام بين مدريد وبرشلونة. وبعد شهرين على الانتخابات المحلية الأخيرة في كتالونيا يتبدّى يوماً بعد يوم أن البرنامج الوحيد للقوى الانفصالية في هذه المرحلة هو الإصرار على المواجهة، أياً كان الثمن، والتهميش الكامل والمنتظم للمعارضة البرلمانية التي فازت بنسبة 48 في المائة من المقاعد، بل وحصلت على أصوات شعبية أكثر مما حصلت عليه الأحزاب الانفصالية.
- حسابات الانفصاليين
في حسابات الانفصاليين، أن استمرار المواجهة مع مدريد يعزّز صورة «الضحيّة» التي يراهنون على استغلالها لزيادة شعبيتهم واستدرار الدعم الخارجي لمن «يدافعون عن أنفسهم في وجه قمع الدولة المركزية». إلا أن الاستطلاعات الأخيرة تبيّن أن التأييد للقوى الانفصالية إلى تراجع، بينما تتسع دائرة المعترضين على إدارة الأزمة داخل هذه القوى التي تشرذم قادتها بين معتقلٍ وفارٍ من العدالة بعيداً عن القواعد الشعبية. وهذه الأخيرة، تراقب بقلق تراجع النمو الاقتصادي وركود الحركة السياحية وارتفاع معدلات البطالة... بعد خروج نحو أربعة آلاف من المؤسسات الصناعية والتجارية والمصرفية من كتالونيا. وفي المقابل، لا تبدي حكومة مدريد أي جاهزية للانفتاح على الحوار، متشبثّة بمشروع سياسي قوامه البقاء في السلطة بأي ثمن، ومحاصر بسلسلة من فضائح الفساد وتراجع حاد في الشعبية.
بعض الأصوات المعتدلة داخل المعسكر الانفصالي بدأت تدندن ترنيمات «انفتاحية» من باب التمهيد لمرحلة جديدة، وتطويق «المنحى الانتحاري» الذي دفعت باتجاهه بعض القوى المتطرفة. إذ أعلن كارليس رييرا، الناطق بلسان الحزب الذي يتزعمه الزعيم الانفصالي الفار كارليس بوتشيمون، أمام البرلمان يوم الخميس الماضي «أن المسرى الانفصالي انتهى»، داعياً القوى الانفصالية التي خاضت الانتخابات الأخيرة متحالفة إلى «التحلّي بالواقعية والشجاعة وإعادة رسم استراتيجية جديدة». مثل هذه التصريحات الصادرة عن قيادي انفصالي بارز في الحزب الوازن، شعبياً وفي البرلمان، تحمل المراقبين على التفاؤل إذا ما تبيّن أنها ليست من باب كسب الوقت والتقاط الأنفاس بهدف إعادة تنظيم الصفوف تأهباً لمرحلة جديدة من المواجهات مع الحكومة المركزية - المترنّحة منذ تشكيلها - على قاعدة ما تيّسر لتمرير المرحلة، والخروج من الطريق المسدودة الذي أفضت إليه الانتخابات العامة الأخيرة.
لكن بعض المراقبين المتابعين عن كثب الوضع في كتالونيا يرون أن النواة الأساسية للقوى الانفصالية، التي تضّم أحزاباً من اليمين إلى أقصى اليسار التروتسكي - أي البورجوازية المالية والنخب الفكرية - كانت تدرك منذ البداية أن قيام جمهورية مستقلة، معترف بها دوليّاً، شبه مستحيل في المرحلة الراهنة. ذلك أن في صميم هواجس الاتحاد الأوروبي، الذي تشكّل إسبانيا إحدى ركائزه السياسية والاقتصادية والجغرافية، إفلات الحركات القومية العديدة في دياره من عقالها.
وعلى هذا الأساس يرجّح مراقبون أن يكون الهدف الحقيقي من «المغامرة» في فصلها الأول هو دفع الحكومة المركزية الضعيفة، والتي غالباً ما خانها «الحامض النووي الفرنكي» (نسبة إلى ديكتاتور إسبانيا السابق الرحل الجنرال فرانشيسكو فرنكو) النائم في خلاياها، إلى اللجوء للقمع الأمني والاعتقالات والملاحقات القضائية. وهذا ما يؤدي إلى استنهاض القواعد الشعبية المتردّدة حيال تأييد الانفصال، والنيل من صدقية الديمقراطية الإسبانية، تسهيلاً لاستقطاب التعاطف الخارجي الذي افتقدته المغامرة بعد الأسابيع الأولى.
بعض المحللين النافذين في أوساط النخب الانفصالية يلمحّون إلى أن بوتشيمون ورفاقه قد أدّوا دورهم. وبالتالي، فإن المرحلة التالية تقتضي تولّي قيادات جديدة قادرة على استثمار ما تحقق في الجولة الأولى، وبخاصة ارتفاع نسبة المؤيدين للانفصال إلى النصف تقريباً، بعدما كانت تراوح عند 30 في المائة خلال السنوات القليلة الماضية. وهؤلاء يدعون إلى الإسراع في إعادة تنظيم المعسكر الانفصالي حول تفاهمات أفقية ثابتة بين أطيافه المتباعدة عقائدياً واجتماعياً قبل أن يستقرّ الإحباط في أوساط القواعد الشعبية، وتتشكل تحالفات جديدة تمليها ضرورة رأب الصدع الاجتماعي العميق ووقف النزف الاقتصادي المتسارع، الذي بات يرخي بثقله على المشهد الكتالاني منذ أواخر العام الماضي.
- بوادر تفاؤل...
ويبدو الآن أن الجناح المتطرف الذي يقوده بوتشيمون، والذي يأخذ عليه بعض حلفائه «انسلاخه» عن الواقع السياسي والاجتماعي، قد بدأ يفقد سيطرته الحصرية على القرارات التي توجّه الدفّة الانفصالية. ومن البوادر التي تحمل على التفاؤل بانفراجات ممكنة خلال الأسابيع المقبلة، تعاقب الدعوات الصادرة عن الاشتراكيين الكتالونيين وبعض الأصوات المعتدلة في صفوف اليمين والوسط إلى تشكيل «حكومة إنقاذ» ائتلافية تستعيد نظام «الحكم الذاتي»، وتضع «خريطة طريق» مشتركة لحلحلة الأزمة، مع ملاحظة أن هذه الدعوات لم تلقَ الرفض الفوري المعتاد من القوى الانفصالية.
في هذا السياق، يذكّر البرلماني الاشتراكي والمحلل البارز سانتي فيلا بما كان يردّده المؤسس الأول للمشروع الأوروبي جان مونّيه بأن «لا شيء ممكناً من غير الأشخاص، ولا شيء دائماً من غير المؤسسات»، معتبراً أن إنقاذ كتالونيا من محنتها بات مستحيلاً خارج المؤسسات الديمقراطية الوطيدة، وبمعزل عن قيادات حكيمة ومنزّهة عن المصالح الحزبية أو الشخصية.
بيد أن المعضلة الأساسية المستعصية في الأزمة التي تعاني منها كل من كتالونيا وإسبانيا راهناً، تكمن في انحباس الأطراف داخل دوّاماتها وشعاراتها الموروثة، وفي عجزها عن أدنى مستويات التواصل حول مسلمّات التعايش والبديهيات الديمقراطية.
ولعلّ أكثر ما يستوقف المراقب للمشهد السياسي والاجتماعي الإسباني، منذ عقود، هو أن البلد الذي أدهش العالم بنضج تجربته الانتقالية من حكم ديكتاتوري مديد إلى نظام ديمقراطي عصري وراسخ، وكان للكاتالونيين الدور الأبرز في معادلة استقراره ونموه السريع والمذهل، يغرق اليوم في أوحال أزمة عبثية يدرك الجميع أن المنتصر فيها خاسرٌ.
وهنا أشير إلى أنني كنت أجريت عام 2014 حواراً مطوّلاً مع رئيس الوزراء الإسباني الأسبق ادولفو سواريث - الذي قاد عملية تفكيك ديكتاتورية الجنرال فرنكو التي استمرت 35 سنة، ولعب الدور الأساس في إرساء قواعد النظام الديمقراطي - قبل أشهر من وفاته. وخلال الحوار سألته عن سر نجاح تلك التجربة الفريدة في التاريخ الحديث، التي أصبحت مادة تُدرّس في العديد من كليات العلوم السياسية في العالم، فأجاب سواريث: «انتقلنا من القانون إلى القانون بواسطة القانون». وهو ما يعطي الانطباع أن المأزق الكتالوني اليوم هو ثمرة إصرار الانفصاليين على تحقيق أهدافهم خارج الأطر القانونية التي شاركوا في وضعها وارتضوها، وإصرار حكومة مدريد على استخدام القانون لمآرب غير قانونية.
- سمات «الأسرة» الإسبانية
من الشائع في المُتخيّل الاجتماعي الإسباني أن أهل كتالونيا يمثّلون الاعتدال في المسلك والحصافة في التعاطي مع الشأن العام والحرص على الاستقرار بأي ثمن، بعكس الباسك المعروفين بتطرّفهم ونزوعهم إلى العنف، أو الأندلسيين الموصوفين بالمبالغة والإفراط.
ولعلّ في هذه الصفات المتأصلة عند الكتالونيين، إضافة إلى شغفهم بالتجارة واتقانهم أساليبها، ما يساعد على فهم الأسباب التي أبقت هذه المقاطعة في منأى عن الصراعات والاضطرابات الكبرى التي شهدتها إسبانيا منذ القرن التاسع عشر، لتغدو اليوم الإقليم الأغنى من حيث القوة الاقتصادية الخامسة في الاتحاد الأوروبي. إلا أن الحركة الانفصالية التي تتعاقب فصولها على المشهد السياسي الإسباني منذ خريف العام الماضي، وتتدرّج وقائعها بين انقطاع «خيط الحوار» السياسي والعصيان المدني والتمرّد على المنظومة القانونية، تدفع إلى الحذر في التسليم بصواب الأفكار الموروثة، وتنصح بالتروّي عند مقاربة هذه الأزمة، والتكهّن بتداعياتها وتشخيص مخارجها.
لا شك في أن اعتقال بوتشيمون قبل أيام على يد أجهزة الأمن الألمانية، وإيداعه السجن بانتظار البتّ في طلب تسليمه إلى السلطات الإسبانية، شكّل ضربة قاسية للحركة المطالبة باستقلال كتالونيا. غير أنه، من ناحية أخرى، فتح الباب أيضاً على احتمالات التصعيد التي ما زالت تتصدّر برنامج الانفصاليين رغم ظهور بعض بوادر التصدّع في صفوفهم خلال الأسابيع الأخيرة، إثر الدعوات الخجولة – الآنفة الذكر – لفتح قنوات للحوار مع القوى السياسية الأخرى، وإعادة النظر في المسار الصدامي الذي انتهجته الأحزاب والقوى المطالبة بالاستقلال حتى الآن.
- ملاحقة استخباراتية
تفيد معلومات موثوقة بأن أجهزة الاستخبارات الإسبانية كانت تتعقّب بوتشيمون منذ فراره إلى بلجيكا، وإنها هي التي أبلغت الأجهزة الألمانية عن مكان وجوده. ومن المرجّح، أن هذه الأخيرة لم تقدم على اعتقاله من دون إيعاز من السلطات السياسية في برلين، التي تدرك تمام الإدراك أن ردّها على طلب الاسترداد الذي تقدّمت به مدريد، سلباً أو إيجاباً، ستكون له تداعيات ذات شأن على العلاقات بين البلدين.
ومن هذا المنطلق تأتي الخطوة الألمانية لتؤكد أن الاتحاد الأوروبي - الذي كان اكتفى بدور الشاهد على هذه الأزمة المعتملة في دياره، متذرّعاً بأنها «مشكلة داخلية» - أدرك أخيراً أن المشكلة الكتالونية، على غرار القوميات الكثيرة النائمة في البيت الأوروبي: «مشكلة أوروبية» لا بد من التصدّي لها واحتوائها قبل فوات الأوان. ومما لا شك فيه، أن خروج البريطانيين من الاتحاد وصعود الأحزاب والحركات الشعبوية واليمينية المتطرفة - كما بيّنت الانتخابات الإيطالية الأخيرة - هي التي تشكّل الخطر الأكبر على المشروع الأوروبي الذي تسخّر له برلين وباريس طاقات كبيرة لإنهاضه من كبواته الحالية.
القراءات القانونية من جهتها، ترفد القراءة السياسية لاعتقال بوتشيمون وطلب تسليمه إلى السلطات الإسبانية. إذ يستند الحقوقيون إلى التشابه الكبير بين أحكام الدستورَين الألماني والإسباني فيما يتعلّق بتنظيم الإدارة الفيدرالية في الحالة الأولى وأقاليم «الحكم الذاتي» في الثانية. ومن ثم، يستبعدون أن يقرّر القضاء الألماني رفض طلب مدريد، ولا سيّما، وأن التمرّد الانفصالي ملحوظ في الأحكام الدستورية الألمانية ضمن باب الانتهاكات الخطيرة التي تهدد وحدة الدولة وانسجام المجتمع.
- شعور بالخذلان الخارجي
المعسكر الانفصالي، من جهته، بدأت تظهر عليه بالفعل علائم الوهن والإحباط بعدما تيقّن من أن الدعم الخارجي الذي كان يراهن عليه لم يتعدَّ اهتمام وسائل الإعلام لفترة محدودة. وهذا، بينما تتراجع شعبيته داخل الإقليم بفعل الأضرار التي بدأ الاقتصاد الكتالوني يعاني منها بعد هجرة آلاف الشركات والمؤسسات الكبيرة إلى مدريد ومدن إسبانية أخرى. أما الخطوات التصعيدية الأخيرة، كالمظاهرات والصدامات مع الشرطة في شوارع برشلونة، عاصمة كتالونيا، وتصريحات كتلك التي وردت على لسان رئيس البرلمان، عندما قال: «ليس من حق أي قاضٍ أن يلاحق رئيس كل الكتالونيين»، لا بد من إدراجها ضمن السهام الأخيرة في جعبة الانفصاليين إثر انسداد الأفق أمامهم، والملاحقات القضائية في حق زعمائهم، وقلة التجاوب الأوروبي مع مطالبهم.
لكن إذا كان الانفصاليون يجدون صعوبة في استيعاب الأضرار التي لحقت بمشروعهم والتكيّف مع المعطيات الجديدة التي فرضتها عليهم الهزائم التي لحقت بهم، فمن الخطأ الاعتقاد أن سلطات مدريد حقّقت نصراً حاسماً في مواجهتها المفتوحة مع الحركة الانفصالية. فالحقيقة أن الحكومة المركزية المترنّحة التي يرأسها ماريانو راخوي (زعيم الحزب الشعبي اليميني) لا تختصر إسبانيا التي صنفّتها مجلة «الإيكونوميست» في طليعة الديمقراطيات الراسخة، وأوروبا ليست هي البيروقراطية القامعة للهويات... كما روّج الانفصاليون ومعهم الساعون إلى ضرب المشروع الأوروبي.
ومن ثم، فالمجازفة التي أقدم عليها الانفصاليون عندما تجاهلوا أحكام الدستور وقرار المحكمة الدستورية وأعلنوا الجمهورية من طرف واحد، كانت تتويجاً لهروب الحكومة المحلية إلى الأمام بعدما أنهكتها فضائح الفساد، وتراجعت شعبيتها، وانسدّت قنوات الحوار بينها وبين الحكومة المركزية. وفي المقابل، كانت أيضاً ثمرة حسابات مدريد الخاطئة في التعاطي مع الشأن الكتالوني بجمود مذهل وتشدّد مُستلهم من «التجربة الباسكية» التي طويت صفحتها أخيراً بعد أربعة عقود من القمع والعنف المسلّح والإرهاب.
- المسؤولية... والحل
صحيح أن ثمّة مسؤولية كبيرة ملقاة اليوم على عاتق الأحزاب الكتالونية التي دفعت بالملف الانفصالي في طريق من غير منافذ قانونية أو سياسية، وذهبت في التصعيد إلى شفا الانهيار الاقتصادي والعزلة الاجتماعية.
لكن المسؤولية الأكبر تقع على حكومة مدريد، التي قد يغريها الوقوع في فخ توهّم أنها ضربت رأس الأفعى الانفصالية، فتجنح إلى المزيد من التشدد واللجوء إلى أدوات القمع - القانونية والأمنية - كاشفة وجه «الموروث الفرانكوي» الذي جهد الانفصاليون لاستدراجها إليه منذ اللحظة الأولى.
وبناءً عليه، فإن المخرج الوحيد الآمن على الأمد الطويل أمام مدريد هو الإسراع في الإعداد لمراجعة دستورية بالتوافق مع الأحزاب الوطنية ترسي قواعد جديدة لنظام فيدرالي يعطي صلاحيات أوسع للأقاليم التي تنشط فيها حركات وأحزاب تطالب بالمزيد من «الحكم الذاتي» أو الاستقلال قبل أن يرتفع الستار عن مشهد انفصالي آخر.
- كاتالونيا في سطور
> يقع إقليم كتالونيا في الشمال الشرقي من شبه الجزيرة الإيبرية وتبلغ مساحته 32 ألف كيلومتر مربع (6 في المائة من مساحة إسبانيا) ويبلغ عدد سكانه 7.5 مليون نسمة. ويعود تاريخ المؤسسات المحلية، المستقلة أو ذات «الحكم الذاتي»، في كتالونيا إلى أواخر العصر الوسيط عندما كانت تتمتع بصلاحيات إدارية وسياسية واسعة تحت مملكة آراغون، ثم ضمن مملكة إسبانيا.
في عام 1714 وقفت كتالونيا إلى جانب سلالة الهابسبورغ النمساوية في الحرب التي خسرتها ضد سلالة البوربون، التي أسست نظاماً ملكياً مركزياً مطلقاً في إسبانيا، وألغت كل المؤسسات المحلية في كتالونيا.
بعد سقوط النظام الملكي في إسبانيا وإعلان الجمهورية عام 1931، أعلن الكتالونيون قيام جمهوريتهم إثر فوز الأحزاب اليسارية الكتالونية في الانتخابات، لكن بعد التفاوض مع مدريد اكتفوا بالحصول على حكم ذاتي بصلاحيات واسعة بإشراف الحكومة المحلية التي ما زالت إلى اليوم تعرف باسم الجنراليتات.
عام 1939 ألغى الجنرال فرانشيسكو فرنكو المنتصر في الحرب الأهلية الإسبانية مؤسسات الحكم الذاتي الكتالوني، وباشر نظامه حملة قمع قاسية حظّرت على الكتالونيين استخدام الرايات المحلية وسماع الأناشيد الوطنية، بل حتى التكلم باللغة الكتالونية.
ثم في العام 1940 ألقت قوات «الغستابو» (الشرطة السرية) النازية القبض على رئيس «الجنراليتات» (مجلس القيادة) الكتالوني، الذي كان فاراً إلى فرنسا، وسلمّته إلى نظام فرنكو، الذي حاكمه بسرعة وأعدمه في برشلونة.



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.