نيكولسون وباتشينو ودي نيرو سرقوا الضوء من نجوم الأمس

وجوه السبعينات الرائعة (1)

 آل باتشينو (يسار) مع مارلون براندو في «العرّاب»
آل باتشينو (يسار) مع مارلون براندو في «العرّاب»
TT

نيكولسون وباتشينو ودي نيرو سرقوا الضوء من نجوم الأمس

 آل باتشينو (يسار) مع مارلون براندو في «العرّاب»
آل باتشينو (يسار) مع مارلون براندو في «العرّاب»

مع بدء عرض الفيلم الجديد للمخرج والممثل كلينت إيستوود، الذي تلا ظهور روبرت ردفورد في أول دور شرير له على الشاشة الكبيرة في فيلم «كابتن أميركا: جندي الشتاء» الذي يسبق، من ناحية أخرى، عرض فيلمين يشترك في تمثيلهما روبرت دي نيرو، يحق لنا التساؤل عمّن بقي نشطا من بين تلك النجوم التي انطلقت في الستينات ونمت عالميا في السبعينات. والسؤال سرعان ما يذهب بنا إلى دراسة الحالة الظرفية التي صنعت هؤلاء النجوم.. هل ما زالت متوفّرة؟ هل هي ذاتها الحالة التي تصنع نجوم اليوم؟ ومن من هؤلاء غاب بعد ذلك سريعا ومن منهم بقي حاضرا؟
هم عشرة رجال وأربع نساء بعثوا أوصال الحياة على الشاشة. إذا ما وافقنا على ما قاله المخرج الإيطالي الفذ فديريكو فيلليني من أن {السينما هي وجه أولا}، فإن وجوه هؤلاء بدت كما لو أنها كانت على موعد في ربوع الستينات وهي شكّلت الجيل اللاحق لعدد أكبر من الممثلين والممثلات الذين سطوا على المشهد السينمائي الكبير من الأربعينات والخمسينات. بعض هؤلاء، مثل جون واين وكيرك دوغلاس وتشارلز برونسون وأنطوني كوين وهنري فوندا وجانيت لي وفرانك سيناترا ونتالي وود وروبرت ميتشوم وسواهم، كان لا يزال حاضرا في العقدين الستيناتي والسبعيناتي، لكن الموقع الأول بات للجيل الذي ساد بفعل مخرجين جدد كان لا بد لهم من العمل أولا مع ممثلين غير معروفين هم من تسبب في دفعهم إلى الأمام وسريعا. هذا وحقيقة أن الجمهور المؤلف من نسبة عالية من الشباب دائما كان مستعدا لطي صفحة الماضي ووجوهه السينمائية في فترة «وودستوك» وحرب فيتنام وفضيحة ووترغيت والتوجه صوب جمهرة جديدة من الممثلين.

* المتمرّد الأول
الرجال العشرة هم وورن بيتي وجاك نيكولسون وكلينت إيستوود وسيدني بواتييه ودستين هوفمان ووودي ألن، وروبرت ردفورد وروبرت دي نيرو وآل باتشينو وجين هاكمان. والنسائية كانت جولي كريستي وفانيسا ردغراف وجين فوندا وميريل ستريب.
كل واحد من هؤلاء اعتمد على مخرج آمن به وبموهبته منذ البداية. بعضهم كان عليه أن يساند ذلك المخرج في الوقت الذي كان المخرج يسانده فيه. في هذا الإطار هناك جاك نيكولسون الذي تعود أيامه الأولى في التمثيل إلى سنة 1958 عندما بدأ بالظهور في أفلام من إخراج سينمائي جديد آنذاك أسمه روجر كورمان الذي ظهر كما لو أنه المستقبل الواعد للسينما المستقلة. إنتاجيا كان مستقلا بالفعل، لكن فحوى أفلامه ونوعياتها كان متوجّها إلى الجمهور ذاته الذي تتوجّه إليه هوليوود دائما. مع كورمان، قام نيكولسون بالظهور في بضعة أفلام أولها «الدكان الصغير للرعب} The Little Shop of Horrors سنة 1960 ومن بينها «الغراب} (1963) و«الرعب} الذي يحمل اسم كورمان مخرجا لكن من المعتقد بين المؤرخين أنه منح نيكولسون فرصة تمرين يديه على تحقيق الأفلام (1963) و«مذبحة يوم سانت فالنتاين» (1967).
في الوقت ذاته كان نيكولسون نشطا في العمل خارج نطاق كورمان. المخرج مونتي هلمان استعان به في عام 1966 في فيلم الوسترن «إطلاق نار} The Shooting الذي كان أحد اللقاءات الأولى بينه وبين الممثل الساعي مثله إلى النجاح (وحقق بعضه لاحقا) وورن أوتيس. كذلك كان من بين الأفلام التي عمد نيكولسون إلى إنتاجها.
هذا الفيلم كان دعوة لتثبيت قدمي نيكولسون كممثل بديل وليس فقط كجزء من منظومة الوجوه الجديدة. وهو لفت انتباه مخرج آخر تعامل مع مقتضيات العصر من الأفلام المختلفة عن السائد من حيث ميزانيّاتها وطروحاتها (وإن كانت بقيت تجارية الشأن) هو رتشارد رَش الذي وضع نيكولسون في بطولة فيلمين ملتحمين في تلك الفترة هما «ملائكة جحيم على الدراجات» (واحد من ظاهرة أفلام سعى لها أيضا توم لفلين المعروف بـ{بيلي جاك}) وPsych‪ ‬Out.
مثله كان الفيلم اللاحق «مثيرو التمرد» سنة 1970 الذي مرّ من دون أثر، لكن قبله مباشرة أنجز نيكولسون النقلة النوعية الأولى في حياته المهنية عندما لعب دور المحامي الذي يتخلى عن وعود الحياة والمهنة ليشارك بيتر فوندا ودنيس هوبر بطولة «إيزي رايدر} (1969). دنيس وبيتر كانا أيضا من النجوم الصغيرة المقبلة لكن الأول حمل أعباء اسم أبيه. كما الحال مع ابن روبرت ميتشوم وابن جون واين فإن ابن هنري فوندا لم يحمل {الكاريزما} التي لوالده، لكنه حقق نجاحا أفضل من كريستوفر ميتشوم وباتريك واين.
دنيس كان وجها محدود المساحة في السينما والتلفزيون في الخمسينات. حين جرى إطلاق «إيزي رايدر} فوجئ الثلاثة بنجاحه الكبير: فيلم صغير عن فلسفة ومفهوم الحرية والهيبيز ينجز العملة الصعبة ويجمع أتباعا. بالنسبة لنيكولسون كانت مهاراته الأدائية أفضل من تلك التي عند رفيقيه وهي ساعدته في البلورة سريعا لاعبا شخصية المتمرّد في «خمس قطع سهلة» Five Easy Pieces و«ملك حدائق مارڤن} The King of Marvin Gardens وكلاهما لبوب رافلسون (1971 و1972 على التوالي).
شخصية المتمرّد تابعته ردحا فظهر عليها في «التفصيلة الأخيرة} The Last Detail سنة 1973 عندما لعب شخصية جندي يخرج عن القوانين العسكرية في مهمّة إيصال مجنّد شاب محكوم عليه بالسجن وذلك تحت إدارة هال أشبي المتمكّنة. كذلك هو تحر {غير شكل} عن السائد في فيلم رومان بولانسكي «تشايناتاون} (1974) وشخصية المتمرد بلغت ذروتها في «واحد طار فوق عش المجانين» One Flew Over the Cuckoo‪›‬s Nest من إخراج متمرّد آخر آت من النظام الشرقي هو ميلوش فورمان.
جاك نيكولسون كان أحد النجوم الأكبر في السبعينات وحافظ على زخمه وحضوره في الثمانينات والتسعينات منتقلا من بطولة إلى أخرى من دون أن يهاب التجريب والبحث عن الجديد. وهو ثابر على إشعال وقود نجوميّته بأفلام مثل «وولف} (لمايك نيكولز الذي سبق وأن ظهر نيكولسون تحت إدارته من قبل 1994) و«العهد} (من إخراجه 2001) و«حول شميت» (لألكسندر باين 2002) وهو عاد إلى بوب رافلسون (أو عاد بوب رافلسون إليه، لا فرق) في فيلمين مهمّين هما «ساعي البريد يدق مرّتين دائما} (1981) و«دم وخمر» (1996). وكان سطا على كل أجواء باتمان عندما لعب دور الشرير جوكر في «باتمان} (1989). في الحقيقة قليلون ماهرون في سرقة المشاهد من سواهم كما فعل نيكولسون في هذا الفيلم كما في فيلمين لجانب ميريل ستريب هما «حرقة قلب} لمايك نيكولز (1986) «آيرونويد} لهكتور بابنكو (1987). وهو بالطبع خمر سينما الرعب الحديثة في «اللمعان» لستانلي كوبريك (1980) وأداؤه هناك أهم من أن يوصف بكلمات قليلة. إنه الممثل الوحيد الذي طغى عمله على عمل المخرج كوبريك. في عام 2006 وبعد أدوار مال فيها إلى الكوميديا، ظهر في فيلم لمارتن سكورسيزي لأول مرة وهو «المغادر» حيث بصم الدور بظهوره الطاغي. فيلمان كوميديان بعد ذلك هما «لائحة الدلو} (2007) و«كيف تعلم» (2010) وتوقف نيكولسون عن الظهور إلى اليوم.

* على جانبي القانون
في الفترة ذاتها التي ظهر فيها نيكولسون لأول مرّة على الشاشة، ظهر على نحو خجول ممثل جديد اسمه آل باتشينو لمخرج بدأ سينما وانتهى تلفزيون اسمه فرد كو. الفيلم بعنوان «أنا، نتالي} واسم باتشينو ورد في كعب أسماء الممثلين. كان لا يزال في التاسعة والعشرين من العمر وغادر صفوف دراسة الدراما حديثا. لكن المثير جدّا لاهتمام الدارس أن باتشينو في فيلمه الثاني مباشرة، وهو «الذعر في نيدل بارك» The Panic in Needle Park أصبح ممثلا رئيسا. الفيلم من إخراج جيري تشاتزبيرغ الذي عاد إلى باتشينو في عام 1973 ومنحه بطولة «الفزاعة» أمام الممثل جين هاكمن. بين الفيلمين انتقاه فرنسيس فورد كوبولا لدور أحد أولاد مارلون براندو في «العراب} (1972) على الرغم من معارضة شركة باراماونت التي أرادت لهذا الدور ممثل آخر أكثر شهرة. ليس فقط أن باتشينو اشتعل على الشاشة كفتيل برميل البارود، بل وجد نفسه، والسبعينات ما زالت في مطلعها، في الصف الأول بين الممثلين. سيدني لوميت التقط المناسبة ومنحه بطولة فيلمين هما «سربيكو} (1973) وبعد أن أنجز باتشينو الجزء الثاني من «العراب}، «بعد ظهر يوم لعين» (1975).
مثل نيكولسون عبّر باتشينو عن الرفض والتمرّد: هو متمرّد على وصايا عائلته المافياوية في «العراب} (بجزأيه) ولو لم يفعل لتمت إبادة تلك العائلة على أيدي أعدائها. المشهد الذي يجالس فيه باتشينو في «العراب} الأول الشخصين الضالعين بمحاولة قتل والده، آل لاتييري، وكان وجها شريرا دائما ظهر لاحقا في فيلم سام بكنباه «الهروب} The Getaway وسترلينغ هايدن، وهو من حقبة الأربعينات والمكارثية، مشحون بمفردات الشخصية التي يؤديها باتشينو كما بلغة الأعين التي يجيدها في معظم أفلامه.
وهو متمرّد على سلك البوليس الفاسد في «سربيكو} وعلى المجتمع في «بعد ظهر يوم لعين» ثم على القضاء في «..والعدالة للجميع} .. And Justice for All للمخرج نورمان جويسون (1975) وعلى المجتمع بأسره إنما من زاوية مختلفة في «ذو الوجه المشطوب} Scarface لبرايان دي بالما (1983)، المخرج الذي استعان به مجددا بعد عشر سنوات في «طريقة كاريلتو». ‬
خلال سنوات المهنة في الثمانينات تخلى عن صورة المتمرّد حيال أدوار عاطفية أو اجتماعية أخرى («فرانكي وجوني} و«عطر امرأة} و«بحر الحب») كما أخذ أداؤه بالتنوّع لناحية الانتقال على جانبي القانون: هو العدالة في «حرارة» (أول لقاء بينه وبين روبرت دي نيرو) و«سيتي هول} (منتصف التسعينات) والمجرم في «محامي الشيطان} (1997) و«أرق} (2002). لكنه أيضا في الكثير من الأفلام الركيكة في سنوات العقد الأول من القرن الحالي، كما حاله في «غيغلي» و«قتل مشروع} و«ابن لا أحد}. على ذلك، ومن حين لآخر هناك لمعة تعيدنا إلى مجده كما الحال في «ذ إنسايدر} و«تاجر البندقية».
لديه هذا العام ثلاثة أفلام متتابعة سنترك الحكم عليها لاحقا.

* ‬شوارع سكورسيزي‬
رفيق الدرب الذي نافسه على لقب أفضل ممثل أميركي كان روبرت دي نيرو. تشاهده الآن في أفلامه الأولى فلا ترى سوى إيحاء طفيف بأنه امتلك المقدرات الحقيقة للتحول إلى ممثل جيّد. بعد فيلمين غير محسوبين مطلقا («لقاء» و«ثلاث غرف في مانهاتن») بدأ بهما حياته على الشاشة سنة 1965 اكتشفه المخرج برايان دي بالما وقدّمه في «تحيات» (1968). آنذاك، برايان دي بالما بدوره كان مشروعا غير واعد. لكن دينيرو كان بحاجة إليه وإلى أي مخرج آخر يمنحه الفرصة. وهذه الحاجة تبلورت عن ثلاثة أفلام أخرى بينهما هما «حفلة العرس} و«هاي، موم} و«الأم الدموية} (ما بين 1969 و1970). لا بد أن هذه الأفلام، على فوضاها الإخراجية، لفتت الانتباه إلى دي نيرو الذي تعزز وضعه بين الأسماء في فيلم بوليسي كوميدي بعنوان «العصابة التي لا تجيد إطلاق النار} The Gang That Couldn›t Shoot Strait للتلفزيون الجيد جيمس غولدستون كما في فيلم درامي لمخرج عابر هو جون د. هانكوك عنوانه «أقرع الطبل ببطء}. ‬
المخرج مارتن سكورسيزي كان على المفترق المقبل في حياة دي نيرو. هذا المخرج كان أيضا سينمائيا طازجا عليه أن يثبت لهوليوود شأنه قبل أن يصبح أحد رجالاتها. الفيلم الأول الذي مثله دي نيرو لسكورسيزي كان «شوارع منحطّة» (1973) وهذا الفيلم تولى وضع دي نيرو على ناصية الطريق. تلاه فيلم «العرّاب 2} لكوبولا الذي حكى قصّتين متوازيتين: الأولى في الزمن الحاضر وقوامها استكمال آل باتشينو لحلقة كشف الذين خانوا العائلة وتصفيتهم والثانية تاريخ والده مارلون براندو من فراره وأمّه من صقلية إلى الوقت الذي حط فيه في نيويورك الخمسينات. هذا الدور لعبه روبرت دي نيرو. بطبيعة الحال، ليست هناك مشاهد على الإطلاق تجمع بين باتشينو ودي نيرو ولو أنهما اشتركا في صنع مجد هذا الجزء الثاني.‬



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)