الشعر في مداره الأبدي

الشعر  في مداره الأبدي
TT

الشعر في مداره الأبدي

الشعر  في مداره الأبدي

في حوار مع «سيدة الشعر البريطاني» كاثلين رين، التي رحلت عام 2003 عن 95 عاماً، سألتها السؤال الذي صار مملاً لكثرة ترديده بمناسبة وبلا مناسبة: هل نعيش زمن الرواية؟ هل لا يزال للشعر مكان ونحن في نهاية القرن العشرين؟ وكان اللقاء قد أجري عام 1999 في بيتها المتواضع، الذي ملأت أركانه كتب الشعر والفلسفة، وهما موضوعان لم تتوقف عن الحديث عنهما حتى وهي تعد القهوة، ابتداء من هوميروس وأفلاطون وأرسطو حتى دبليو. أتش. ييتس، الذي عاصرته في أيامه الأخيرة.
- تأمل في هذا المقطع لجلال الدين الرومي :
أنت لست قطرة في محيط
بل أنت المحيط كله في قطرة
والآن هل تتفق معي أن الروائي، الروائي الجيد، قد يحتاج إلى رواية كاملة ليوصل لنا هذه الفكرة؟ ألا نحتاج إلى صفحات طويلة جداً لشرح أبعادها، وفك مغاليقها؟ ثم استدركت بقولها: «لا، لا يمكن استخدام العقل هنا. إنه شيء ينتمي للروح، وهي الروح نفسها منذ طفولة البشرية حتى قرننا الحالي، وستبقى نفسها ما دامت البشرية باقية».
الشعر باق. كان هيغل مخطئاً في تنبؤاته بموت الشعر، كما هم مخطئون أولئك الذين يتحدثون الآن عن زمن الرواية. لا شيء يحل محل شيء، أو يعوض فناً آخر. إنه مجرد وهم جميل. الشعر هو الشعر، والرواية هي الرواية، كما الموسيقى هي الموسيقى، والصورة هي الصورة.
الروح تحتاج كي تتفتح تفتحاً كاملاً إلى كل الغذاء المعرفي. وهي لا تجد خلاصها بغير ذلك. المعرفة لا تكتمل بالشعر وحده، أو الرواية وحدها، أو الفلسفة وحدها. إنها كل ذلك، وإذا نقص بعد واحد، تبقى معرفة ناقصة. معرفة لا يعوّل عليها، بتعبير محي الدين بن عربي. والروح لا تكتمل من دون هذه المعرفة، سواء في عصر هوميروس، أو في القرن الواحد والعشرين، أو في القرون الآتية إلى ما لا نهاية.
قد يطغى هذا أو ذلك، في هذا الوقت أو ذاك، لكن لا شيء يتغير هناك في الجوهر... في أعماق الروح. ويمكن الحفر دائماً في هذه الأعماق لاستخراج الشعر. ومهمة الشعراء الحقيقيين، بل أنبل مهامهم، أن يجيدوا الحفر، ويرينوننا الجوهر الكامن فينا، الذي لا نعي حتى أنه موجود هناك، رغم أنه موجود دائماً حتى في أوج انحطاطنا، وانسحاقنا، وصغرنا حتى نتساوى والتراب الذي نسير عليه. إنه حتى يعرفنا على حقائق لا يمكن الكشف عنها إلا من خلاله. كيف؟ لا أحد يعرف، ولا يمكن تلمس ذلك لأنها تغور عميقاً في وجداننا، بل تشكلنا، ونصبح نحن هي، وهي نحن. حقائق تصوغ إنسانيتنا، ومعنى كوننا بشراً. هذه هي مهمة الشعر دائماً، وهي التي تبقيه حياً ما دمنا أحياء.



ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
TT

ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية

كشفت أعمال المسح المتواصلة في الإمارات العربية المتحدة عن مواقع أثرية موغلة في القدم، منها موقع تل أبرق التابع لإمارة أم القيوين. يحوي هذا التل حصناً يضمّ سلسلة مبانٍ ذات غرف متعددة الأحجام، يجاوره مدفن دائري جماعي كبير. وتُظهر الدراسات أن هذه المنشآت تعود إلى فترة تمتد من الألف الثالث إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وترتبط بمملكة عُرفت في تراث بلاد الرافدين باسم ماجان. خرجت من هذا التل مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية كبيرة في الأساليب، وضمَّت هذه المجموعة بضع قطع ذهبية، منها قطعة منمنمة على شكل كبش، وقطعة مشابهة على شكل وعلَين متجاورين.

يقع تل أبرق عند الخط الحدودي الفاصل بين إمارة أم القيوين وإمارة الشارقة، حيث يجاور الطريق الرئيسي المؤدي إلى إمارة رأس الخيمة. شرعت بعثة عراقية باستكشاف هذا الموقع في عام 1973، وبعد سنوات، عُهد إلى بعثة دنماركية تابعة لجامعة كوبنهاغن بإجراء أعمال المسح والتنقيب فيه، فأجرت تحت إدارة العالِم دانيال بوتس خمس حملات بين عامَي 1989 و1998. خرج تل أبرق من الظلمة إلى النور إثر هذه الحملات، وعمد فريق من الباحثين التابعين لكلية برين ماور الأميركية وجامعة توبنغن الألمانية على دراسة مكتشفاتها في 2007. تواصلت أعمال التنقيب في السنوات التالية، وأشرفت عليها بشكل خاص بعثة إيطالية تعمل في إمارة أم القيوين منذ مطلع 2019.

استعاد دانيال بوتس فصول استكشاف هذا الموقع في كتاب صدر عام 1999 تحت عنوان «ماجان القديمة... أسرار تل أبرق». زار الباحث تل أبرق للمرة الأولى في 1986، يوم كان يقود أعمال التنقيب في مواقع مجاورة، وزاره ثانية بعد عامين، بحثاً عن مؤشرات أثرية خاصة تتعلّق بالأبحاث التي كان يقودها، وكان يومها يعتقد أن تاريخ هذا التل يعود إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد، ثم عهد إلى العالِمة الدنماركية آن ماري مورتنسن بمشاركته في استكشاف هذا الموقع، وتبيّن له سريعاً أن الأواني التي كشفت عنها أعمال المسح الأولى تعود إلى القرون الثلاثة الأولى قبل الميلاد بشكل مؤكّد. إثر هذا الاكتشاف، تحوّل موقع تل أبرق إلى موقع رئيسي في خريطة المواقع الأثرية التي ظهرت تباعاً في الأراضي التابعة للإمارات العربية المتحدة، وتوّلت البعثة الدنماركية مهمة إجراء أعمال المسح المعمّق فيه خلال خمسة مواسم متتالية.

حمل عنوان كتاب دانيال بوتس اسم «ماجان القديمة»، وهو اسم تردّد في تراث بلاد الرافدين، ويمثّل جزءاً من شبه جزيرة عُمان كما تُجمع الدراسات المعاصرة. يذكر قصي منصور التركي هذا الاسم في كتابه «الصلات الحضارية بين العراق والخليج العربي»، ويقول في تعريفه به: «تعدّدت الإشارات النصية المسمارية عن المنطقة التي عُرفت باسم ماجان، وهي أرض لها ملكها وحاكمها الخاص، أي إنها تمثّل تنظيماً سياسياً، جعل ملوك أكد يتفاخرون بالانتصار عليها واحداً تلو الآخر». عُرف ملك ماجان بأقدم لقب عند السومريين وهو «إين» أي «السيد»، كما عُرف بلقب «لوجال»، ومعناه «الرجل العظيم». واشتهرت ماجان بالمعادن والأحجار، وشكّلت «مملكة ذات شأن كبير، لها ملكها واقتصادها القوي»، ودلَّت الأبحاث الحديثة على أن مستوطنات هذه المملكة، «بما فيها الإمارات العربية وشبه جزيرة عُمان الحالية، كانت لها قاعدة زراعية، ولكي تجري حماية استثماراتهم هذه شعر المستوطنون بضرورة بناء التحصينات الدفاعية الممكنة لقراهم، حيث احتوت كل قرية أو مدينة صغيرة على أبراج مرتفعة، بمنزلة حصن مغلق واسع، يتفاوت ارتفاعاً ومساحةً بين مدينة وأخرى». يُمثّل تل أبرق حصناً من هذه الحصون، ويُشابه في تكوينه قلعة نزوى في سلطنة عُمان، وموقع هيلي في إمارة أبو ظبي.

يتوقّف دانيال بوتس أمام اكتشافه قطعةً ذهبيةً منمنمةً على شكل كبش في مدفن تل أبرق، ويعبّر عن سعادته البالغة بهذا الاكتشاف الذي تلاه اكتشاف آخر هو كناية عن قطعة مشابهة تمثّل كما يبدو وعلَين متجاورين. وتحمل كلٌّ من هاتين القطعتين ثقباً يشير إلى أنها شُكّلت جزءاً من حليٍّ جنائزية. إلى جانب هاتين الحليتين الذهبيتين، تحضر حلقة على شكل خاتم، وقطعة على شكل ورقة نباتية مجرّدة، إضافةً إلى زر صغير، وتُكوّن هذه القطع معاً مجموعة ذهبية صغيرة تجذب ببيرقها كما بصناعتها المتقنة. يحضر الكبش في وضعية جانبية، ويتميّز بطابع تجسيمي دقيق، يتجلى في جانبيه. في المقابل، يحضر الوعلان متقابلين بشكل معاكس، أي الذيل في مواجهة الذيل، ويتميّزان كذلك بحذاقة في التنفيذ تظهر في صياغة أدّق تفاصيل ملامح كل منهما.

يذكر احد النقوش أن «لوجال ماجان»، أي عظيم ماجان، أرسل ذهباً إلى شولكي، ثاني ملوك سلالة أور الثالثة الذي حكم من 2049 إلى 2047 قبل الميلاد. ويربط دانيال بوتس بين قطع تل أبرق الذهبية وبين هذا الذهب، مستنداً إلى هذه الشهادة الأدبية، ويجعل من هذه القطع قطعاً ملكية ماجانية. في الخلاصة، يبرز كبش تل أبرق ووعلاه بأسلوبهما الفني الرفيع، ويشكّلان قطعتين لا نرى ما يماثلهما في ميراث مكتشفات تل أبرق الذي ضمّ مجموعة من البقايا الحيوانية، تُعد الأكبر في شبه الجزيرة العربية.

من هذا الموقع كذلك، عثرت البعثة الإيطالية في عام 2021 على مجموعة من اللقى، منها تمثال نحاسي صغير على شكل وعل، يبلغ طوله 8.4 سنتيمتر. يعود هذا التمثال إلى فترة زمنية مغايرة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث الميلادي، ويتميّز بطابعه الواقعي الذي يعكس أثراً هلنستياً واضحاً. يماثل هذا التمثال مجموعة كبيرة من القطع مصدرها جنوب الجزيرة العربية، كما يماثل قطعاً معدنية عُثر عليها في قرية الفاو، في الربع الخالي من المملكة السعودية.