في نيجيريا... صوت من الماضي وعين على المستقبل

محمد سنوسي الثاني أمير «كانو» حكم أجداده واحدة من أعظم إمبراطوريات أفريقيا

مجموعة من حرس أمير كانو
مجموعة من حرس أمير كانو
TT

في نيجيريا... صوت من الماضي وعين على المستقبل

مجموعة من حرس أمير كانو
مجموعة من حرس أمير كانو

يتجول الرجل الأقوى في شوارع هذه المدينة العتيقة داخل سيارة «رولز رويس». ويحمل أحد الخدم دوماً مظلة فوق رأسه، بغض النظر عن طبيعة الطقس، بينما يتولى آخر تحريك الهواء باتجاهه باستخدام مروحة مصنوعة من ريش طيور غير مألوفة. وبمجرد أن يظهر في الأفق، تطلق مجموعة من الرجال الذين يرتدون زياً موحداً طلقات مدافع في الهواء.
يعد محمد سنوسي الثاني، أمير كانو. وعلى مدار أكثر عن 1000 عام حكم أجداده واحدة من أعظم إمبراطوريات أفريقيا. اليوم، ورث سنوسي قصر عائلته ونفوذها وحنينها إلى نيجيريا لم يعد لها وجود. ويرى بعض التقديرات أنه يمثل الزعيم التقليدي الأهم في غرب أفريقيا. إلا أنه داخل دولة تعجّ بنجوم الغناء على موسيقى البوب وحيتان رجال الأعمال المعنيين بصناعة النفط والسياسيين ذوي النفوذ القوي، أصبح حكم محمد سنوسي بمثابة اختبار لمدى أهمية الزعامات القبلية والدينية داخل نيجيريا بوجهها الحديث.
ويبدو هذا الوضع قائماً بصور متنوعة عبر أرجاء أفريقيا، مع تنافس عُمد ومسؤولين تنفيذيين على النفوذ في مواجهة زعامات قبلية وإقليمية، في وقت يتفاعل الشباب فيه مع مجتمعاتهم المحلية من خلال «فيسبوك»، وتجتذب المدن الكبرى الآخذة في التنامي أسراً بأكملها بعيداً عن مواطن أسلافها.
من جانبه، عمد سنوسي، 56 عاماً، إلى تناول مسألة مدى أهميته ونفوذه بجدية واضحة، وحاول إظهار السبل التي يمكن لما هو تقليدي وما هو معاصر التعايش بها معاً داخل نيجيريا. ويبدو سنوسي الرجل المناسب للمهمة بالنظر إلى كونه رئيساً سابقاً لأحد البنوك وأحد المعارضين بقوة لزواج الأطفال، ورجلاً تنقسم أرفف مكتبته بين كتب في الشريعة الإسلامية وأخرى حول السياسات النقدية، بينما يضيء جهاز «آي فون» الذي يحمله بيده باستمرار.
وقال سنوسي: «ثمة فكرة سائدة في أوساط الناس عن الصورة التي ينبغي أن يكون عليها الأمير؛ شخص متقدم في العمر وهادئ ومنفصل عما حوله، لكنني أنتمي إلى جيل مختلف».
تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أنه عام 2014، حاولت «بوكو حرام» -التي ربما تشكّل الجماعة الإسلامية المتطرفة الأكثر عداءً للحداثة على مستوى العالم- قتل سنوسي في هجوم على مسجد مركزي في منطقة كانو، إلا أنه تصادف سفره في ذلك اليوم. وأسفر الهجوم عن مقتل ما يزيد على 100 آخرين. وسلطت محاولة الاغتيال تلك الضوء على أهمية سنوسي والمخاطر التي يواجهها باعتباره شخصاً إصلاحياً. إلا أن هذه المحاولة لم تثنِِ سنوسي عن المضيّ قدماً في نهجه الإصلاحي.
جدير بالذكر أنه خلال بضع مرات أسبوعياً يعقد سنوسي محكمة بجوار قصره ويفصل في منازعات بين سكان المنطقة. وفي تعليقه على ذلك، قال إبراهيم مختار، النائب العام لكانو: «من الواضح أن الكثيرين يثقون به أكثر عن ثقتهم بالمنظومة القضائية الرسمية. علينا الإقرار بذلك».
المعروف أن هذه الازدواجية قائمة عبر الكثير من أرجاء أفريقيا. داخل المناطق الريفية في مالاوي، يتولى زعيم القرية إنزال العقاب عن جريمة السرقة، وليس النظام القضائي. وخلال تفشي وباء «إيبولا» في سيراليون، كان الزعماء المحليون، وليس ممثلو الحكومة الرسمية، هم من نجحوا في أغلب الحالات في إقناع الناس بتغيير أنماط سلوكهم وقضوا على الوباء.
ومع هذا، فإن ساحة سنوسي أكبر كثيراً من معظم الزعامات التقليدية الأخرى داخل أفريقيا، ذلك أن عدد سكان ولاية كانو يبلغ نحو 10 ملايين نسمة. كما أن أفعال وأقوال الأمير وجدت أصداءً لها عبر الكثير من أرجاء غرب أفريقيا.
* خدمة {واشنطن بوست}



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)