في ظهيرة يوم الأربعاء 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 2005 كنت في طريقي إلى منزلها بحي المهندسين وسط القاهرة الكبرى.. قالت لي هاتفياً: «سأرسل لك شهادتي مكتوبة، والقرار الأخير لك».. رددت عليها: «دعيني أتسلّمها بنفسي.. الشهادة خطيرة والأمر جَلَل»... فقالت: «أنا في انتظارك»..!
لم يدُر بخَلَدي شيء وأنا في طريقي للمستشارة نهى الزيني، نائب رئيس النيابة الإدارية، سوى عبارة واحدة قالها لي الكاتب الصحافي الكبير أحمد بهاء الدين، حين كنت طالباً في قسم الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة.. ذهبت إليه لإجراء حديث صحافي كمتدرب.. في نهاية الحديث سألته: أي نصيحة تقدمها لصحافي شاب يبدأ خطواته الأولى في بلاط صاحبة الجلالة.. خلع نظارته السميكة، وقال: «لا شيء أعظم وأغلى في الصحافة من الانتماء للقارئ... كن مع قارئك يرفعك إلى السماء»..!
رسَمَت لي كلمات أحمد بهاء الدين طريقاً لم أخطئه في مسيرتي الصحافية والإعلامية... وأيضاً كانت مسوّغاً كافياً لاتخاذ قرار فردي كرئيس تحرير صحيفة «المصري اليوم» - أول صحيفة يومية مستقلة في مصر بعد عقود طويلة من تأميم الصحافة - بنشر شهادة القاضية «نهى الزيني» حول تزوير الانتخابات البرلمانية المقامة - آنذاك - بعنوان «تزوير الانتخابات تحت إشراف القضاء»...!
قررت الانتماء للحقيقة والقارئ.. وساعتها قامت الدنيا ولم تقعد... وصادرت السلطات نسخ الجريدة ليلة صدورها... وتلقيت مكالمة هاتفية من الدكتور زكريا عزمي، رئيس ديوان رئيس الجمهورية، لم يقل فيها سوى عبارة واحدة: «يا أستاذ مجدي مصر فيها 80 مليون مواطن... المواطن الوحيد اللي نام الليلة دي حزين وغضبان منك هو حسني مبارك.. أنت أفسدت انتخابات البرلمان اللي احنا عايزينها تطلع أمام العالم نزيهة»...!
كان المواطن والرئيس حسني مبارك في كفة، والمواطن القارئ في كفة أخرى... مثلما كانت عبارة أحمد بهاء الدين فارقة في أعماقي... وعبارة زكريا عزمي مرعبة في وقْعها على قلبي... لا تصدق أن الصحافي لا يخاف... غير أن «قاعدة» أحمد بهاء الدين حسمت المعركة بداخلي... فاتخذت قرار إعادة نشر الشهادة في اليوم التالي حتى يتسنى للقارئ - الذي صادرت السلطات نسخته - قراءتها...!
إنها الحقيقة التي دفع مئات الصحافيين حياتهم ثمناً لها... فكيف لي أن أسهم في وأدها؟
صدقت رؤية الراحل «بهاء الدين».. وحلّقت «المصري اليوم» في سماء الصحافة... وطوال 8 سنوات قضيتها في هذه التجربة الرائدة... حاولت مع زملاء أكفاء ترسيخ انتمائنا للقارئ كل صباح... ومن رحم العقيدة ذاتها خرجت ورقة صغيرة في مساء يوم 25 يناير (كانون الثاني) 2011 من مكتبي بالقرب من ميدان التحرير، إذ شاهدت حشوداً استثنائية تزحف صوب الميدان... فكتبت مانشيتاً من كلمة واحدة «إنذار»... ومثلما حلّقت شهادة «نهى الزيني» بالصحيفة في السماء... رفع المتظاهرون الصفحة الأولى بـ«إنذار» في كل الميادين.
تعددت تجاربي في الإعلام بعد تأسيس «المصري اليوم» متحصّناً بقارئ ومُشاهد ومُستمع لا يخون... وكانت تجربة تأسيس صحيفة «الوطن» اليومية المستقلة ترسيخاً لنفس المنهج وذات العقيدة... ثم المشاركة في تأسيس شبكة قنوات «سي بي سي» وبرنامجي الفضائي «لازم نفهم» الأكثر اقتراباً وغوصَاً في مشكلات وقضايا المواطن العادي.
واليوم... وأنا أخوض تجربة جديدة في مؤسسة «أونا نيوز» للصحافة الإلكترونية، التي تضم بوابات «مصراوي - أونا - ياللا كورة – الكونسُلتو»... أحاول أن أتسق مع عقيدة إعلامية صنعت نجاحي واسمي هي «الانتماء للمتلقي» بمهنية وموضوعية بقدر استطاعة البشر.
لذا.. أقولها لكل من يبدأ خطواته الأولى في الإعلام: «كن أنت... ولا تكن كما تريدك السلطة... كُن مع قارئك يكُن - دائماً - معك... وفي ظهرك أيضاً».
- صحافي ومذيع مصري
رئيس تحرير وكالة «أونا» للصحافة والإعلام