«أفران البطاطا»... مصانع الدفء تدخل «خريف العمر»

الأسطى علي الزيني داخل ورشته في وسط القاهرة
الأسطى علي الزيني داخل ورشته في وسط القاهرة
TT

«أفران البطاطا»... مصانع الدفء تدخل «خريف العمر»

الأسطى علي الزيني داخل ورشته في وسط القاهرة
الأسطى علي الزيني داخل ورشته في وسط القاهرة

في زاوية متسعة من أحد شوارع القاهرة، كان يقف رجل ثلاثيني يرتدي جلبابا فضفاضا، ويمسك بقطع صغيرة من الخشب، ليضعها داخل فرن صغير يعلو عربة يجرها صاحبها أينما حل أو راح، ويقبل عليه الأطفال والرجال والشباب والسيدات في جو تغمره البهجة والفرحة، بعدما انتشرت رائحة البطاطا الشهية في الأجواء، وفيما يتلقّى صاحب عربة البطاطا الإشادات بمذاق بضاعته الحلوة واللذيذة، فإنّ الجندي المجهول وراء هذا الطعم هو صانع أفران البطاطا، وهذه مهنة قديمة جداً، يحاول الأسطى علي الزيني والذين معه التشبث بفنونها، والحفاظ عليها من الاندثار.
زارت «الشرق الأوسط» الورشة القديمة والتقت أحد أقدم صانعي أفران البطاطا للتعرف على أصول هذه الحرفة العتيقة وأحوالها ومستقبلها.
«من دوننا لا يستطيع بائع البطاطا العمل»، كانت هذه أولى كلمات الزيني الذي قال لـ«الشرق الأوسط»: «تعلمت صناعة أفران البطاطا في ورشة والدي في أواخر سبعينات القرن الماضي، وكانت الورشة آنذاك في منزل الأسرة بوكالة علي الزيني في شارع المعز، حيث كنت أساعد والدي وأتعلم منه فنون ومهارة صناعة أفران ومداخن البطاطا، فقد كان رائدا لتلك الصناعة على مدار 60 سنة، منذ منتصف العشرينات وحتى وفاته عام 1984. ولذلك سُمّيت الحارة الضيقة التي كانت ممتلئة بالبيوت الصغيرة خلال تلك الفترة باسمه (وكالة علي الزيني)». ثمّ أوضح: «كان الوالد أقدم سكان الحارة وأشهرهم، ولكنّها تحولت الآن إلى مخازن، وكان من أشهر مساعديه عم فتحي أنجه، في منطقة الحسينية في باب الشعرية وقد توفي هو الآخر وورث عنه ابنه محمود المهنة مثلما ورثتها أنا من والدي؛ ولكنّ محمود توقف عن صناعة أفران ومداخن البطاطا، بسبب حادث تعرض له في شهر رمضان الماضي».
وتعد صناعة أفران ومداخن البطاطا من أقدم الصناعات في مصر، ويرجع تاريخها إلى زمن الدولة الفاطمية، وهي في نفس الفترة التي ظهرت فيها صناعة فانوس رمضان، حيث كان يطهو طباخو الأمراء البطاطا في أفران أشبه بالفرن الحالي، ولكن من دون المدخنة التي تشبه جرار القطار البخاري، فقد كانت مدخنة فرن البطاطا قديما عبارة عن فتحة علوية ذات قطر صغير أعلى الفرن.
ويضيف الزيني قائلا: «أحجام أفران البطاطا ثابتة، وكذلك وزنها حيث يبلغ 25 كيلوغراما، وعمق الفرن من الداخل 60 سم، وعرضه 45 سم، وارتفاعه 50 سم، و45 سم ارتفاع المدخنة وبالتالي يصبح ارتفاع فرن البطاطا كاملا 95 سم وهو ارتفاع ثابت لا يتغير إلّا حسب طلب صاحب عربة البطاطا».
عمر فرن البطاطا لا يزيد على عام، حسب الزيني، بسبب درجة الحرارة المرتفعة التي يتعرض لها بشكل دائم، مما يتسبب في تآكل جسم الفرن المصنع من الحديد الصاج في شكل أسطواني حتى تدور درجة الحرارة في أرجاء الفرن مما يتسبب في طهي البطاطا جيدا، مشيراً إلى أنّ الحديد الصاج هو الأفضل لصناعة أفران البطاطا لتحمّله درجات الحرارة العالية بعكس الألومنيوم، ونادراً ما يجري تصنيع الفرن من النحاس لأنّه عالي التكلفة ومطلوب في الفنادق فقط.
ومثلما يتذكر الأسطى علي الزيني الذي يبلغ من العمر 54 سنة، سعر آخر فرن للبطاطا من صنع والده بـ«170 قرشا»، فقد تذكر أيضا أول فرن من صنع يديه هو وكان بـ«240 قرشا»، في حين أن أسعار أفران البطاطا اليوم تتراوح بين (350 - 700) جنيه (الدولار الأميركي يعادل 17.6 جنيه مصري)، حسب جودة ونوعية الصاج المستخدم.
الأسطى علي الزيني أبدى تخوفه من اندثار المهنة، وأشار إلى أنّه كانت توجد في الماضي عشرات الورش لتصنيع أفران البطاطا، أمّا اليوم، فلم يعد هناك سوى ثلاثة أفراد حريصين على تصنيعها من منطلق الوفاء للمهنة وللآباء.
في السياق نفسه، فإن موسم صناعة أفران البطاطا كما يقول الأسطى علي الزيني، يبدأ في شهر يوليو (تموز)، وينتهي في شهر فبراير (شباط).
وفقا لصاحب الورشة فإنّ زبائنه يقصدونه من محافظات مصرية مختلفة مثل القليوبية والجيزة وبورسعيد والأقصر والشرقية والدقهلية. وأوضح أنّه كان لديه بعض الزبائن في السعودية ولبنان وكان يصدر لهم سنويا أكثر من 20 فرنا قبل عام 2011 حيث كانوا يستخدمونها في طهي الطعام بالجبال وليس في شواء البطاطا.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».