مربعان أمنيان للنظام السوري في الحسكة والقامشلي... بإدارة كردية

ترصد العلاقة بين دمشق وشرق البلاد ومعاناة المواطنين على نقاط التفتيش

شارع فلسطين في سوق الحسكة
شارع فلسطين في سوق الحسكة
TT

مربعان أمنيان للنظام السوري في الحسكة والقامشلي... بإدارة كردية

شارع فلسطين في سوق الحسكة
شارع فلسطين في سوق الحسكة

يسكن الصيدلي عبد الحكيم رمضان (52 سنة)، مع أسرته في محافظة الحسكة شمال سوريا، في مدينة منقسمة السيطرة. يقع منزله مقابل دائرة التجنيد وسط المربع الأمني الخاضع للنظام الحاكم، فيما تقع صيدليته في شارع فلسطين عند آخر نقطة تماس تفصل بين مناطق النظام ومناطق الإدارة الذاتية الكردية المعلنة بداية عام 2014 من حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وأحزاب وجهات عربية ومسيحية.

يعمل عبد الحكيم صيدلاني منذ عام 1992، وهو عضو في مجلس السلم الأهلي بمدينة الحسكة ممثلاً عن المجلس الوطني الكردي المعارض. ينتقل يومياً من مكان سكنه إلى عمله وسط إجراءات أمنية مشددة من الطرفين، كما يشكو من انتشار الحواجز العسكرية ونقاط التفتيش من الجانبين.
يروي عبد الحكيم انه قبل فترة وقعت اشتباكات عسكرية بين عناصر النظام وقوات الأسايش الكردية، امتدت إلى الشارع الذي تقع فيه صيدليته. يقول: «حوصرنا هنا لساعات لم نتمكن من الخروج أو الحركة لشدة الاشتباكات وكان الرصاص مثل زخ المطر»، فالمنطقة التي تقع فيها الصيدلة يتنافس النظام والإدارة لضمها إلى مناطق سيطرتها، باعتبارها المركز التجاري الرئيسي لمدينة الحسكة، مما يعوق عمله الإنساني في تقديم الأدوية والمساعدات الطبية للمواطنين، ويتابع: «بقينا عدة أيام حتى هدئت تلك الأحداث، بعدها وعندما فتحت الصيدلية تفاجئا بأنها سرقت ونهب معظم ما كان فيها، وتعرضت الواجهة الزجاجية للكسر»، وطالت الحالة غالبية المحال التجارية والعيادات الطبية المجاورة وقد تعرضت للحرق والنهب، وأضاف: «الأمر المؤسف أنه لا النظام ولا الإدارة عوضتنا بالخسائر المادية، هذه المواقف تتكرر باستمرار، فالأوضاع هنا متقلبة ومعرضة للتصعيد في أية لحظة».



ومنح انسحاب قوات النظام السوري من مناطق كثيرة من البلاد بداية 2013، الأكراد فرصة لتشكيل إدارات محلية في ثلاث مناطق يشكلون فيها غالبية سكانية، والجزيرة تضم مدينتي الحسكة والقامشلي إحدى التجمعات الكردية، إضافة إلى عين العرب (كوباني) بريف حلب الشرقي، ومدينة عفرين بريف حلب الشمالي، وهي منطقة حدودية محاذية لولاية هاتاي التركية، ومنذ 20 يناير (كانون الثاني) الماضي تتعرض لهجوم غير مسبوق من الجيش التركي وفصائل سورية معارضة موالية لها، بهدف انتزاعها من الوحدات الكردية التي تسيطر عليها منذ أواخر 2012.
ويحتفظ النظام السوري بمربعين أمنيين في مدينتي الحسكة والقامشلي. ففي الحسكة يبدأ المربع من شارع القامشلي غرباً ويشمل ساحة الرئيس والأبنية الحكومية والقصر العدلي وسرايا المحافظة وقسماً من السوق المركزية، لتنتهي عند الحارة العسكرية شرقاً، إضافة إلى سيطرتها على فوج جبل كوكب الواقع على بعد 15 كيلومتر شمال شرقي الحسكة، ويعد أكبر قطعة عسكرية خاضعة لسيطرة النظام إلى جانب فوج 137 في مدينة القامشلي.
ويفصل شارع فلسطين وسط الحسكة مناطق التماس الفاصلة بين سيطرة عناصر النظام و«أسايش» وهي شرطة محلية تتبع الإدارة الذاتية الكردية، وتنتشر حواجز كل قوة على جانبي السوق، ونصبت «أسايش» نقاط تفتيش مقابل كل حاجز عسكري يتبع النظام، ويصف الصيدلاني عبد الحكيم المشهد في مدينته بـ«المعسكر المغلق» ويقول: «حواجز الطرفين متداخلة ومنتشرة بكثرة، يجب إخراجها من المدينة».
وباتت الإدارة الذاتية المرجعية التي تتولى تسيير شؤون الناس وإدارة المؤسسات والخدمات، واتخذت سلسلة إجراءات أبرزها إدخال اللغة الكردية إلى المناهج الدراسية، وتشكيل مؤسسات خدمية موازية للدوائر الحكومية، تعمل على جباية الضرائب وإصدار الأوراق الرسمية الصادرة عنها، وكشف عبد الحكيم أنه يدفع الضرائب للنظام وللإدارة في الوقت نفسه، لأن صيدليته تقع بين قطاعي الطرفان، ويقول: «النظام يشدد عندما نسافر عبر المطار أو مراجعة أي دائرة حكومية، ويطلب براءة ذمة بدفع الفواتير والضرائب المالية، الأمر ينطبق كذلك عند الإدارة، فعند مراجعة أي مؤسسة أو طلب المحروقات أو أجرة الغاز، يتأكدون من دفع الضرائب المالية المترتبة علينا لصالحهم».
أما سعاد وهي سيدة في بداية عقدها الخامس، تسكن بالقرب من سرايا المحافظة وسط مدينة الحسكة، شبهت الحياة في مدينتها بـ«دولة ضمن دولة»، لانتشار مؤسسات الإدارة الذاتية ضمن قطاع المربع الأمني التابع للنظام، وتقول: «يوجد (مجلس كومين) في شارعنا وفي بداية فصل الشتاء زارتني رئيسة المجلس، وقالت لي إنهم سيوزعون المازوت وجرة الغاز، لم أصدق ما سمعت لأن منزلي يقع وسط ما يسمى المربع الأمني بالحسكة»، وبالفعل بعد عدة أيام قام المجلس بتوزيع المازوت على سعاد وسكان الحي، كما تحصل على أجرة الغاز، و(الكومين) أو مجلس الحي يعتبر أصغر وحدة إدارة من بين مؤسسات الإدارة الذاتية.
وتروي سعاد حادثة جرت قبل ثلاثة أشهر، إذ إن حراس وعناصر الأمن التابعين لسرايا المحافظة حصلوا على مازوت التدفئة من نفس المكان، وتابعت حديثها: «نحن نعيش في دولة ضمن دولة، شكلياً المربع الأمني يتبع قوات النظام، لكن فعلياً الإدارة الذاتية تدير كل شيء، حقيقةً لا أعرف من يحكمنا، ومعظم سكان الحسكة لا أحد يعلم من هي الجهة المسيطرة».

مدينة منقسمة
لا يختلف المشهد في القامشلي الواقعة أقصى شمال شرقي سوريا، كثيراً عن محافظة الحسكة؛ إذ إن النظام لا يزال يحتفظ بمربع أمني يصفه سكان المدينة بـ«المستطيل»، يضم مقرات الأجهزة الأمنية شمالاً، وقسماً من سوق المدينة يصل إلى شارع الوحدة شرقاً، ومطار القامشلي الواقع جنوباً وهو الوحيد في المحافظة ويعد المنفذ الواصل بينها وبين باقي المدن مع الداخل السوري.
في الطريق إلى السوق المركزي وعند الوصول إلى دوار مدينة الشباب يستوقفك حاجز «أسايش»، وتتوزع مؤسسات ومقرات الإدارة الذاتية في الجهة اليمنية ويسمى بـ«المربع الأمني للإدارة»، وعند إكمال الطريق نحو سوق المدينة، يستوقفك شرطي مرور يقف قبل مؤسسة البريد لا يفصله سوى عدة أمتار عن حاجز (الأسايش)، ثم تأتي ساحة دوار السبع بحرات يتوسطها تمثال الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، وتقع شمالها مقرات الأجهزة الأمنية التابعة للنظام، كما تنتشر على جانبيه عناصر المخابرات ورجال الأمن والشرطة.
واعتبر أسعد أبو روند صاحب حلويات الموعد المعروفة لدى سكان القامشلي، أن وجود مؤسسات الدولة ومقرات النظام تخدم مصلحة مواطني المنطقة، حيث يقع محله مقابل تمثال الأسد، ويقول: «يقع دكاني منتصف المربع الأمني، على بعد أمتار غرباً يقف عناصر النظام وشرطة المرور، أما شرقاً وعلى بعد أمتار أيضاً يقف عناصر الأسايش يتبعون الإدارة، والطرفان متفقان ولا يتدخلان بشؤون المدنيين، ويتردد إلينا زبائننا ويشترون أطيب الحلويات دون مضايقات».
وأعلن حزب الاتحاد الديمقراطي وأحزاب الإدارة الذاتية في مارس (آذار) 2016، النظام الفيدرالي في مناطق سيطرتهم شمال شرقي البلاد، وسميت بـ«فيدرالية شمال سوريا» وقسمت إدارياً إلى ثلاثة أقاليم، الجزيرة (شمال شرق) وتضم مدينتي الحسكة والقامشلي، وإقليم الفرات (شمال وسط) ويضم محافظة الرقة ومدينتي تل أبيض والطبقة، فيما تشمل إقليم عفرين (شمال غرب) إلى جانب مدينة عفرين مدن وبلدات منطقة الشهباء بريف حلب الشرقي.
واعتبرت فوزة يوسف، الرئيسة المشتركة للهيئة التنفيذية لـ«فيدرالية شمال سوريا»، أن وجود النظام في المربعات الأمنية في كل من القامشلي والحسكة محدود، وقالت: «لا يمتلكون صلاحية التدخل بشؤون المواطنين لأن الإدارة تقوم فعلياً بإدارة المنطقة بشكل عام»، وأكدت عدم وجود أية علاقة عضوية بين مؤسسات الإدارة ودوائر النظام، منوهة: «في الحالات الطارئة وفي حال ظهور قضايا ومشكلات تمس المواطنين وحياتهم بشكل مباشر؛ يتم التباحث معهم من أجل حلها»، وأشارت إلى أن العلاقة بين الطرفين ندية: «تقوم على التوازن في القوى، ولا يوجد أي غموض أو التباس فيها»، بحسب فوزة يوسف.
ومدينة القامشلي منقسمة السيطرة بين ثلاث جهات عسكرية: قوات الوحدات و«أسايش» وتسيطر على معظم المدينة واتخذت من الدوائر والمؤسسات الحكومية مقرات لها، أما القوات النظامية وميليشيا الدفاع الوطني يسيطرون على المربع الأمني ومطار القامشلي والفوج 137، في وقت تسيطر «قوات السوتورو» على الأحياء المسيحية الواقعة وسط القامشلي وهي ميليشيا متحالفة مع النظام.
وأكد المعارض الكردي سراج كلش (52 سنة)، الذي يعيش بالقامشلي، أنّ عمل أجهزة المخابرات والأمن شبه معطل، وقال: «التعبير الأصح أنها في سبات كامل؛ لا اعتقالات تذكر ولا مداهمات ولا دوريات»، فيما لا تزال دوائر القضاء والأحوال المدنية (النفوس) التابعة للنظام على رأس عملها بالقامشلي، وعن عمل هذه المؤسسات علق سراج: «عملها محصور في خدمة وتسيير معاملات المواطنين كتثبيت حالات الزواج وتسجيل الولادات والعقارات وإصدار الهويات الشخصية ودفاتر العائلة».
ورسمت كل جهة عسكرية حدود سيطرتها بسواتر ترابية ونقاط تفتيش، ولا تدخل عناصر «أسايش» المنطقة الخاضعة لقوات «سوتورو» تجنباً لأي مواجهات بين الطرفان، حيث حاولت الأسايش بداية عام 2016 السيطرة على الحي المسيحي، مما نتجت عنه اشتباكات عنيفة، بالمقابل يتمكن المدنيون من التنقل بسهولة من حي إلى آخر دون تفتيش أو تدقيق في الأوراق الثبوتية، وحتى السيارات الخاصة التي تحمل لوحات الإدارة الذاتية؛ تدخل مناطق النظام والسوتورو دون مضايقات تذكر، بالمقابل يتجول عناصر النظام وآلياته بحرية في باقي المدينة.
وشدد كلش أن العلاقة بين حزب الاتحاد الديمقراطي والنظام السوري لا يشوبها الغموض والريبة، مشيراً: «الحزب يسيطر على جميع المؤسسات ويتحكم بموارد المنطقة، الاقتصادية منها والسياسية والاجتماعية والمدنية والأمنية، دون اعتراض يذكر من شركائها في الإدارة من الجهات السياسية والمكونات المجتمعية كالعرب والآشوريين وممثلي المكونات الأخرى».

انتقادات
قبل اندلاع الانتفاضة المناهضة لنظام الحكم في سوريا ربيع 2011، عانى الأكراد الذين يشكلون نحو 15 في المائة من تعداد السكان البالغ عددهم 23 مليون نسمة قبل الحرب، من التهميش والحرمان على مدى عقود من حكم حزب البعث منذ سبعينات القرن الماضي، وبعد انسحاب القوات النظامية تدريجياً من مناطقهم بدأوا بتعزيز موقعهم، وبرزوا في وقت لاحق كقوة منضبطة الأكثر فعالية في قتال تنظيم «داعش» المتشدد.
وذكرت هيفا العربو الرئيسية المشتركة لإقليم الجزيرة، أنّ عموم الشعب السوري عانى من الظلم والاضطهاد تحت ظل نظام استبدادي تمثل بحزب البعث الذي أنكر وجود وهوية شعوب ومكونات المجتمع، وقالت: «كذلك نحن الكرد عانينا الأمرين من إنكار هويتنا وإرادتنا تحت حكم مركزي تسلطي»، وأكدت هيفا العربو أن الإدارة الكردية غير معنية بمن يحكم سوريا مستقبلاً، وتضيف: «بقدر ما يهمنا كيفية بناء نظام سياسي للحكم قائم على الفيدرالية والتشاركية واللا مركزية السياسية»، ولفتت: «نحن جزء من سوريا ولا نسعى إلى الانفصال، ولا نسعى للسيطرة على الحكم والتفرد بالسلطة، لأن الإدارة تشاركية بين جميع مكونات وطيف المجتمع السوري، لكن الأهم هو قيام ثورة حقيقية لإظهار حقيقة وإرادة الشعوب وبناء مجتمع ديمقراطي».
وفي صيف عام 2017، أقر حزب الاتحاد الديمقراطي وحلفاؤه في الإدارة الذاتية، قانوناً انتخابياً ودستوراً للنظام الفيدرالي في مناطق سيطرتهم أطلقوا عليه اسم (العقد الاجتماعي) لتنظيم شؤون المنطقة. وبدأت في سبتمبر (أيلول) 2017 انتخابات غير مسبوقة، اختارت في مرحلتها الأولى الرئاسات المشتركة للجان المحلية للأحياء أو ما تسمى بـ«الكومين»، ثم اختارت في المرحلة الثانية وجرت بداية ديسمبر (كانون الأول) العام الماضي، المجالس المحلية للنواحي والمقاطعات التي يتألف منها كل إقليم. وتهدف المرحلة الأخيرة، التي تم تأجيلها بسبب معركة عفرين بريف حلب الشمالي، إلى انتخاب مجلس لكل من الأقاليم الثلاثة التي ستتمتع بصلاحيات تشريعية محلية، ثم انتخاب مجلس مشترك يكون بمثابة برلمان محلي يسن القوانين والتشريعات ويصادق على الحكومات المحلية.
وينتقد «المجلس الوطني الكردي» المعارض وينضوي ضمن الائتلاف الوطني المعارض لقوى الثورة والمعارضة السورية، علاقة حزب الاتحاد الديمقراطي بالنظام السوري. ويقول بشار أمين مدير المكتب الإعلامي للمجلس الوطني الكردي المعارض: «هذه الإدارة لا تتمتع بالحرية الكاملة في اتخاذ قراراتها، لأنها لا تزال على علاقة مع النظام وتتحرك بالتنسيق والتعاون معه ولا سيما في القضايا الأساسية»، ونقل أن النظام لم ينسحب بشكل نهائي وكامل من مناطق الإدارة، مضيفاً: «هذه كانت إحدى الأسباب الرئيسية في عدم قدرة هذا الطرف على قبول الشراكة الحقيقية مع مجلسنا الكردي».
واتهم أمين حزب الاتحاد بالتفرد بالسلطة والحياة السياسية وفرض أجنداته، وتابع حديثه ليقول: «اعتقالاته مستمرة بحق قيادات وكوادر المجلس الكردي وأحزابه، وعمد إلى إغلاق مقراته ومكاتبه، ويلاحق الشباب بعدما فرض التجنيد الإجباري، والإتاوات والضرائب الباهظة على أبناء المنطقة»، وعلق قائلاً على انعدام العلاقة بين المجلس الكردي وحزب الاتحاد بالقول: «المرحلة تقتضي توفير مناخات الحوار والتفاهم بين أبناء المجتمع الواحد عن طريق وحدة الصف والموقف السياسي ولو في حده الأدنى».
وبحسب المحلل والكاتب الصحافي آلان حسن، فإن العلاقة الضبابيّة وغير الواضحة بين حزب الاتحاد والنظام في الإعلام فقط، ويرتبط الطرفان بمصالح مشتركة في وجود الحكومة السورية بمدينتي القامشلي والحسكة، وقال: «خروج محافظة الحسكة كاملة عن سيطرة الحكومة يقطع أي تواصل بينها وبين الإدارة، فلا الأخيرة تريد الانفصال عن سوريا، وهي التي تنادي بدولة اتحاديّة، ولا الحكومة مستعدة للتنازل عن جزء من أراضيها، خصوصاً أنّ المنطقة غنيّة بالنفط والغاز، وكذلك بالموارد الزراعيّة، كما تُعتبر خزاناً مائياً مهماً لكلّ سوريا».
وعن التنسيق الأمني والعسكري بين الطرفين، يضيف حسن: «نعم التنسيق يتمّ بالدرجة الأولى بين الأجهزة العسكريّة والأمنيّة، كَون الطرفين يحاربان معاً في جبهات عدة ضد التنظيمات المتطرفة، ويتشاركان بالعداء ضد تركيا، لكن الخلاف السياسي زاد بعض الشيء في ظلّ تحالف قوات سوريا الديمقراطيّة مع الولايات المتحدة، وكذلك إعلان الفيدراليّة في مناطق شمال سوريا».
وتشكل وحدات حماية الشعب الكردية، العمود الفقري لقوات سوريا الديمقراطية التي تتلقى منذ سنوات دعماً من الولايات المتحدة الأميركية ودول التحالف الدولي في حربها ضد تنظيم داعش.

على الحواجز!
ينقل أهالي مدينتي الحسكة والقامشلي، أنه وبعد سيطرة تنظيم داعش على محافظتي دير الزور والرقة في يناير عام 2014، وطرده لاحقاً على أيدي «قوات سوريا الديمقراطية» بدعم وإسناد جوي من التحالف الدولي، عزلت محافظة الحسكة بالكامل عن محيطها السوري، وبقي مطار القامشلي المنفذ الوحيد للسفر ونقل المواد الطبية والأغذية، وللسفر إلى باقي مدن الداخل. ويقول محمد أبو شيرين الرجل الستيني الذي يسكن بمدينة القامشلي، ويتذكر تلك الأيام بالقول: «بقي المطار شريان الحياة لكل سكان المنطقة، والمعبر الوحيد مع باقي مناطق سوريا».
أما عباس أبو محمد (52 سنة) ويعمل سائق تاكسي منذ ثلاثين سنة، ويترأس خط مدينة القامشلي، لم يخفِ أن كل شيء قد تغير، وقال: «الوقود ليس كما كان، وقيمة الليرة متدنية جداً، وإذا قمنا بعملية حسابية الأجرة لم تتغير، فالزبون قبل الأزمة كان يدفع 50 ليرة أجرة توصيلة، أما اليوم يدفع 500 ليرة».
وعن تداخل حواجز النظام والإدارة، أكد أن السيارات العمومية لا تعترضها أي جهة، ويقول: «هناك تعليمات من الإدارة ومرور الحكومة بالإبقاء على عملنا لخدمة الناس، وأنا أدفع الضرائب المالية لدائرة المرور التابع للنظام لأن لوحة سيارتي حكومية»، في حين أكد أن السائق والراكب يقضيان معظم وقتهما على الحواجز ونقاط التفتيش لكثرة انتشارها.
فيما أكد المحلل آلان حسن أنّ المشهد في المنطقة سيبقى ضبابيا، ومستقبله يرتبط بمدى التوافق الأميركي - الروسي على مستقبل سوريا ككلّ، وقال: «الدول العظمى تتخلى عادةً عن بعض أوراقها في التفاهمات الكبرى، وسيبقى مصير المنطقة مرهوناً بهذه التفاهمات الدولية، في ظل عدم وجود محاولات من أي طرف لاستدارة ما، تقلب المعادلة الصفريّة القائمة».



معارك الظل في سوريا... محاربة «داعش» وإعادة بناء الدولة

سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)
سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)
TT

معارك الظل في سوريا... محاربة «داعش» وإعادة بناء الدولة

سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)
سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)

عند مداخل دمشق المتفرعة من جهة أوتوستراد المزة، وقبيل الوصول إلى ساحة الأمويين يتوزع شبان بمظهر شبه عسكري على جانبي الطريق يبيعون أعلاماً ورايات احتفال بـ«يوم التحرير»، يقابلهم في الشوارع الأضيق والنواصي المؤدية إلى أحشاء المدينة نساء بأثواب طويلة وحجاب يغطي نصف الوجه أحياناً، يجرجرن طفلاً او اثنين، ويحملن أرغفة خبز للبيع. تكدس النسوة الأرغفة فوق بعضها بعضاً وتدفع بها إلى المارة ونوافذ السيارات بلا غطاء أو كيس يحميها من الأدخنة العابقة برائحة المازوت والأتربة المتطايرة من أحزمة البؤس والدمار المطبقة على العاصمة.

منذ بعض الوقت تحول بيع الخبز بهذه الطريقة «مهنة»، نسائية إلى حد بعيد، انتعشت أكثر مع ازدياد الفقر والعوز؛ فتذهب النساء للانتظار في طوابير الأفران لشراء حصة من الخبز يعدن لبيعها مقابل مبلغ إضافي صغير، ويعاودن الاصطفاف في الطوابير، وهكذا دواليك حتى ساعات متقدمة من الليل. المشهد لا يقتصر على دمشق ومحيطها، بل يتكرر على امتداد المدن والمناطق السورية التي زرتها من حمص وإدلب وحلب، وكأن المشهد النسائي هذا أصبح جزءاً من نسيج الأزمة المستمر وأحد مقومات الصمود اليومي للسوريين.

مشهد لمدينة دمشق (الشرق الأوسط)

دمار مديد

ولئن كانت النساء بوجوههن المنهكة وأيديهن المخشوشنة خير شاهد على نكبة عصفت بالبلاد لنحو 15 عاماً، فإن الدمار المديد الذي لا يحدّه نظر، يشهد هو الآخر على هول ما كان. أحياء وضواحٍ كاملة سويت بالأرض تطوّق دمشق وتكاد تخنقها بأتربتها وبقايا الردم فيها، كما وتسود الحواضر الكبرى وأريافها، حيث الركام واللون الرمادي الأغبر يمتد على مساحات شاسعة من البلاد. فأن تقود سيارتك لأكثر من 350 كلم عبر الأراضي السورية ولا ترى شجرة أو حيّاً أو بيتاً ناجياً، يعني أنك تعاين عملياً ما خلفته لأكثر من عقد من الزمن، آلة قتل وتدمير وانتقام أقرب ما يكون إلى الثأر الشخصي. فحجم الخراب وشكله لا يعكسان مجرد معارك بين أطراف متنازعة وتفوق عسكري لجهة على أخرى، وإنما يكشف عن نية واضحة بتصفية الناس وأرزاقهم، ودفن أي حلم أو بصيص أمل لديهم بالعودة إلى الديار. فما لم يقضِ عليه القصف بشكل مباشر، حُرق ونُهب وتصحّر عن عمد. لكن العودة تتم وإن ببطء شديد ودفع ذاتي.

وحدها فقاعات قليلة نجت في دمشق وأسواقها، أو خارجها من المناطق والمدن، وازدهر بعضها، لحسابات طائفية أو مصالح سياسية أو تجارية تتعلق بشكل أساسي بتصنيع الكبتاغون وترويجه.

دمار من جرَّاء المعارك بين قوات الأسد وفصائل المعارضة السابقة في مخيم اليرموك بضواحي دمشق (إ.ب.أ)

دمشق... الواجهة البراقة

كانت المدينة على موعد مع احتفالات استثنائية بالذكرى السنوية الأولى لهروب بشار الأسد، والاستعدادات تسير على قدم وساق. منصات ومكبرات للصوت وتنظيم للسير ولافتات تشدد على الوحدة الوطنية «شعب واحد... وطن واحد» وأن «الحقبة السوداء انتهت». برنامج الحفل يصل إلى الهواتف النقالة عبر رسائل قصيرة تشجع على المشاركة وحضور الفعاليات «للاحتفال بالحرية والأمل... وإكمال الحكاية». لكن أي حكاية؟ سؤال يتردّد في الشوارع ذاتها التي تُباع فيها الأرغفة على الأسفلت وتشهد احتفالات النصر.

فهنا، تكثر الحكايات وتتشعب حتى تكاد تتناقض كمثل فقاعات الأمكنة التي تتجاور ولا تلتقي. ثمة انقسام عمودي حاد في وجهات النظر وتراشق يشبه إلى حد بعيد مرحلة 2011 حين انقسم السوريون إلى حد القطيعة بين مؤيد ومعارض، مقابل إصرار رسمي واضح على تصدير صورة مصقولة عن المرحلة.

بهو فندق على الطراز الدمشقي القديم في منطقة باب توما (الشرق الأوسط)

معركة الأمن الصامتة

خلف الواجهة الاحتفالية، تُدار معركة أخرى أقل صخباً وأكثر تعقيداً. «يشكل (داعش) والمهاجرون (المقاتلون الأجانب) تحديداً التحدي الأبرز بالنسبة لنا» يقول مصدر أمني سوري رفيع مفضلاً عدم الكشف عن اسمه، لافتاً إلى أن الاعتقال و«التحييد» يتمّان بشكل دوري. أما كيف يتم ذلك (وهو مصطلح شائع في تركيا يستخدم ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني)، فتتقاطع المعلومات مع مصدر آخر يفيد بأن «العمل الأمني يجري بدقة وحرفية وإن لوائح المنتمين إلى تنظيمات متطرفة تحت مظلة عريضة هي (داعش)، موجودة لدى الأجهزة الأمنية وهي تقوم بتعقبها». وأضاف: «نعرفهم واحداً واحداً ونقوم برصدهم ووضعهم تحت المراقبة. كما أن النظام السابق ترك آلية عمل وتعقب دقيقة جداً نعتمد عليها حتى الآن إلى درجة كبيرة».

رجال أمن سوريون في ساحة سعد الله الجابري في حلب ليلة الاحتفال بسقوط نظام الأسد في 7 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)

التقيت المصدرين قبل أيام قليلة على حادثة تدمر الأخيرة، لكنها حين وقعت، لم تبدُ خارج السياق العام للقاءات وما كشفت عنه المعلومات المتقاطعة. ذاك أن المسؤولين والأشخاص في مواقع أمنية دقيقة بدوا مدركين مسبقاً لهذا الاحتمال بصفته واحداً من المخاطر الأمنية المتعددة، لا سيما بعد انضمام سوريا رسمياً إلى تحالف «محاربة الإرهاب».

ولخّص مصدر هذه المخاطر بثلاثة أنواع من المواجهات «أولاً المواجهة مع (داعش) ومتفرعاته، وهي تجري بحذر شديد؛ لأنها تهدد الرئيس أحمد الشرع بشكل شخصي، وثانياً المواجهة مع (قسد) وهي تهدد الدولة الناشئة وهويتها على المدى البعيد، وثالثاً مواجهة باردة وأقل حدة مع إسرائيل بسبب أحداث السويداء».

وفي رواية شبه رسمية، لم يستبعد المصدر الأمني أن يشكل المفرج عنهم من مخيم الهول «قنابل موقوتة» يتم استغلالها لزعزعة الأمن داخلياً وتلبية رغبات المتطرفين الرافضين التحول الحاصل في شكل السلطة من جهة، ولإطلاق رسالة للخارج مفادها أن سحب ملف «محاربة الإرهاب» من يد «قسد» لن يجدي؛ إذ يمكن أن «يفتح الباب أمام قطعان من الذئاب المنفردة» من جهة ثانية.

هل تكفي المقاربة الأمنية؟

تحدي الدولة ليس أمنياً فقط، وهذه المقاربة الصرفة لا تحظى بإجماع داخل دوائر السلطة نفسها. فبعكس من يرى في «داعش» والتطرف «عقدة تقنية» يمكن حلها بمقاربة أحادية، يرى مسؤول مقرب من «الهيئة السياسية» أن «المشكلة الفعلية تكمن في استيعاب تلك الكتلة البشرية الهائلة التي نشأت خارج أي سياق اجتماعي طبيعي لسنوات عدّة، خارج منظومة التعليم أو الأسرة أو أي شكل ناظم للحياة».

طلاب يحضرون الفصول الدراسية داخل مدرسة معر شمارين الابتدائية وتبدو جدرانها مليئة بثقوب الرصاص من القتال بين القوات الموالية للرئيس السابق بشار الأسد والمعارضة بقرية معر شمارين في ريف إدلب بسوريا 19 أكتوبر 2025 (أ.ب)

وأضاف: «التحدي الكبير هو في استيعاب هؤلاء ودمجهم ضمن مفهوم الدولة وإعادة تأهيلهم لهذا الغرض». وقال: «كما تم استقطاب هؤلاء المراهقين إلى طيف معيّن من التشدد، يجب اليوم العمل على نقلهم إلى مكان وسطي. فإذا كان الرئيس نفسه يقول إننا اليوم نغادر الحالة الفصائلية وننتقل إلى مفهوم الدولة، فكيف يكون هذا الانتقال على مستوى القاعدة؟ هل بشكل فردي وأمني فحسب أم مجتمعي أيضاً؟».

وفي السياق، ذهب أحدهم لتفسير عبارة «أطيعوني ما أطعت الله بكم» التي أطلقها الشرع من الجامع الأموي ليلة الاحتفال الكبير, وأثارت غضب الشرائح المدنية والعلمانية المعارضة، إنها رسالة لشريحة أخرى هي التي تضعها الدولة اليوم نصب أعينها وتسعى لاحتواء غضبها عبر دعوة «دينية» صريحة لـ«إطاعة الحاكم وعدم الخروج عنه».

صورة نشرتها وزارة الداخلية السورية لجانب من عملية ضد «داعش» في ريف إدلب الاثنين 1 ديسمبر 2025 (الداخلية السورية)

ولئن يبدو الكلام أسهل من الفعل، إلا أن الواقع المعاش أصعب بأشواط.

فإذا كان الأمن مضبوطاً إلى حد بعيد في المدن الرئيسية كدمشق وحلب عبر الانتشار الأمني الكثيف وبـ«استخدام تقنيات حديثة منها المسيَّرات»، وذلك في فترة حساسة شهدت تجمعات هائلة تزامناً مع الاحتفالات بالذكرى السنوية الأولى لسقوط النظام السابق، فإن المساحات الشاسعة في الأرياف، حيث الدمار الهائل والفقر المدقع والبطالة المستشرية، متروكة لحالها إلى حد بعيد. وبينما تتوزع حواجز الأمن العام على الطرقات الرئيسية بين المحافظات، فإن الحواضر الجانبية وأزقة البلدات متروكة لحالها. ولعل الاستثناء الذي تمتعت به «إدلب» المدينة لفترة من الزمن، وكثر الحديث عنه من خدمات ورعاية وإدارة، لم يسحب منها فقط بعد التحرير وإنما جاء هذا الانفتاح على بقية المناطق السورية ليضعها أمام استحقاقات الحياة الفعلية، لتدرك المدينة وريفها المهمل والمدمّر أن الوضع كان أقرب إلى «إدارة أزمة»، لا يزال إرثها حاضراً حتى في اللغة اليومية، كأن يتخاطب العسكريون فيما بينهم ومع المدنيين العابرين على الحواجز بتسمية «شيخ» و«استعن بالله» للقول امض في سبيلك.

ملصق لدائرة الهجرة والجوازات السورية عند المعبر الحدودي مع لبنان في جديدة يابوس (الشرق الأوسط)

وهناك بين ريفي إدلب وحلب على سبيل المثال قرى ومدن صغيرة معروفة بتوجه الأهالي فيها وانتمائهم، وليست كلها على ذاك الاعتدال وتلك الوسطية التي تعتلي منصات دمشق. توجهات تجعل السائقين يسلكون طرقاً أطول لقطع المسافات، لكن «أقل خطورة» بظنهم.

وفي ذلك الشريط يشكل الشبان، لا سيما الأصغر سناً، وقود الفصائل المسلحة التي لم يبق منها في الميدان في السنوات الأخيرة إلا «هيئة تحرير الشام» بشكل أساسي، وانضم الآلاف منهم بعد سقوط النظام السابق إلى الأمن العام أو الجيش وليس لهم اليوم مورد رزق آخر. فحتى منازل أهلهم المدمرة أو أرزاقهم المنهوبة لا يملكون ثمن ترميمها، ويجد كثيرون منهم في المنامة والمأكل في الثكنات العسكرية عوضاً عن سوء حالهم خارجها.

نسيج هويات مقاتلة

والحال، إن تلك هويات تبلورت في سنوات التسلح، وتحديداً ما بعد 2013، ولكن جذورها الاجتماعية تعود إلى ما قبل ذلك بزمن. فإذا كان اليوم يطلق على كل من هو مرتبط بالسلطة الجديدة وصف «إدلبي» نسبة إلى إدلب معقل حكم «هيئة تحرير الشام» خلال الأعوام التسعة الأخيرة، وهو وصف يحمل تعالياً في دمشق وحلب، فإن فهم التباينات الاجتماعية والاقتصادية بين بلدات تلك الأرياف نفسها يعين على فهم الخيارات السياسية والعسكرية اللاحقة لأبنائها. فالبلدات المعروفة تقليدياً برابطة العائلة كوحدة اجتماعية متعاضدة، وامتلاك أراضٍ زراعية ثم الاعتماد على الهجرة في منتصف الثمانينات، آثرت تعليم الأبناء والبنات وتوجيههم نحو المهن الحرة والوظيفة مع الحفاظ على سلوك ديني اجتماعي تقليدي يوصف بـ«التدين الفطري»، وهم ممن اختبروا التيارات القومية والعروبية قبيل صعود «البعث» بقبضته الأسدية.

صورة ملتقطة يوم 28 نوفمبر 2024 في إدلب تظهِر مقاتلين من الفصائل السورية المسلحة خلال المعركة (د.ب.أ)

يقابل هذا النموذج بلدات صغيرة تقوم على العائلات الفرعية التي اعتمدت على العمل الزراعي الموسمي وسلك الشرطة والأمن في النظام السابق، وفرحت لانضمام أبنائها إلى «جبهة النصرة» حين بدأت بالاستقطاب؛ لما شكّله ذلك من انتظام في مسلك عسكري معارض لنظام الأسد، ولكنه أيضاً ذو بعد ديني واضح كان ممنوعاً اعتناقه. وإلى هذا، تأتي مناطق شاسعة لجهة البادية تحكمها القبيلة والعشيرة ونظام «الفزعة» الذي يعلو ويخبو حسب الظروف والمصلحة.

وهؤلاء كلهم، وإن تشاركوا في كونهم من العرب السنة، تباينوا في سلوكياتهم وانحيازاتهم واصطفافاتهم؛ ما انعكس لاحقاً في قدرة الفصائل المتشددة والأكثر تشدداً على اختراقهم وتجنيدهم مقابل من بقي عصياً عليها، فعملت على تسليط الطرف على المتن.

إدلب ومفاتيح دمشق

وإذ يقول الأمنيون اليوم إنهم يعرفون المتشددين «واحداً واحداً»، فلأنهم يعتمدون أيضاً على معرفة الجهاز الأمني في «الهيئة» بالفصائل المتشددة والمنتسبين إليها في تلك البلدات ممن حاربتهم خلال السنوات الأخيرة كـ«جند الأقصى» و«حراس الدين» الموالي لـ«القاعدة»، كما ويعتمدون كثيراً على المخبرين. ولا تزال إدلب إلى حد بعيد أشبه بـ«المعقل الآمن» الذي يملك مفاتيح دمشق ومفاصلها ولا يزال يعمل بوتيرته السابقة. يكفي مثلاً أن المحاكم والسجلات الإدارية والمدنية لا تزال تخضع لـ«المحاكم الشرعية» التي حكمتها منذ منتصف 2013، بعكس بقية المناطق السورية ولا سيما العاصمة، حيث تصب المعاملات كافة.

عملية أمنية في مدينة تدمر عقب الهجوم الإرهابي على وفد سوري - أميركي مشترك (الداخلية السورية)

ويميّز محدثي بين أنواع من التجنيد قد تعتمدها «داعش» أو المجموعات المتفرعة منها لضرب الأمن بالاعتماد على تلك البنى الاجتماعية المختلفة؛ التجنيد الآيديولوجي، وهو الأسرع والأكثر فاعلية، خصوصاً بين الأصغر سناً الذين قطعوا شوطاً بتبني الأفكار المتطرفة ولم يستوعبوا بعد التحولات الجذرية التي شهدتها سوريا في عام واحد. والتجنيد بالمال وعنصر «الانتقام» بالاعتماد على حالة الفقر المستشرية بين من فقدوا مصدر دخلهم وسلطاتهم المعنوية، ومن ثم التجنيد ضمن بيئة «المهاجرين» أو المقاتلين الأجانب الغاضبين على ما حل بهم من تخلٍ ولم يعد لديهم عملياً ما يخسرونه.

الدولة الناشئة ونموذج «الصحوات»

حين عاد الرئيس السوري أحمد الشرع من زيارته الأخيرة إلى واشنطن كان محملاً بمهمة عسيرة؛ «مواجهة وتفكيك الشبكات الإرهابية» من بقايا تنظيم «داعش» و«الحرس الثوري» الإيراني و«حزب الله» و«حماس»، حسب ما قال حرفياً المبعوث الأميركي إلى سوريا توم براك. وفي حين تولت إسرائيل ضرب «حزب الله» في لبنان و«حماس» في غزة، بقي على سوريا مواجهة ذيولهما لديها بينما الأصعب يبقى مقارعة «داعش» ومتفرعاته ممن كانوا حتى أمس قريب «رفاق سلاح» لـ«هيئة تحرير الشام». وفي حين يترقب كثيرون شكل هذه المواجهة وسبل ذلك التفكيك على الساحة السورية، سيما في غياب جيش متماسك ذي عقيدة قتالية واضحة، فإن واشنطن من جهتها سبق واختبرت صيغة مشابهة من المواجهة السنية - السنية في عراق ما بعد صدّام، تحت مسمّى «الصحوات».

الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير الدفاع مرهف أبو قصرة يلوّحان للسوريين خلال عرض عسكري في دمشق (وزارة الدفاع السورية)

وقام نموذج الصحوات بشكل أساسي على من وصفهم مصدر عراقي مطلع بـ«تحالف المتضررين» من تنظيم «القاعدة» وبالاعتماد على حيّز جغرافي محدد هو محافظة الأنبار، ذات الانتماء العربي السني والتدين الاجتماعي - التقليدي. وعليه، فإن نموذجاً مشابهاً قد يقوم اليوم في سوريا على تحالف متضررين من «داعش» في الشمال والشمال الشرقي وبقيادة رسمية هي الدولة الناشئة المطلوب منها محاربة التطرف.

وأوضح المصدر العراقي الذي واكب من كثب مرحلة تأسيس الصحوات واندثارها لاحقاً مع حكومة نوري المالكي، إن العشائر في منطقة الرمادي (تحديداً البوريشة والبوعلوان والبوفهد، وبدرجة أقل الدليم) كانت عماد تلك الحرب؛ لما ألحقته «القاعدة» من ضرر بتجارتهم ومصالحهم ونسيجهم الاجتماعي.

وإذ كان بعضهم أُرغم على المبايعة في مرحلة ما، فإن التصادم لم يتوقف يوماً، ومثال عليه مقتلة قبيلة البونمر التي أعدم التنظيم منها نحو ألفي رجل. يقابل ذلك المثال في الحالة السورية قبيلة الشعيطات التي وقفت في وجه «داعش» ورفضت مبايعته؛ فارتكب فيها إحدى أكبر المجازر وقتل نحو 1800 من شبانها دفعة واحدة.

وفي تقاطع آخر يشبه تحديات المرحلة الدقيقة التي تمر بها سوريا، حيث التوازن الهش بين تحديات الأمن وبناء الدولة المرجوة، كان يطلب من كل من يريد الانضواء تحت لواء الصحوات «إعلان البراءة من (القاعدة) والانخراط في قوات الأمن ضمن الصحوات». وتم ذلك بتنسيق مع القوات الأميركية على أمل «تحويل تلك الكتلة السكانية (سنية عشائرية) رافعةً سياسية من ضمن مجموعة روافع سياسية أخرى».

شعارات في دمشق مع اقتراب ذكرى سقوط الأسد (د.ب.أ)

من السلاح إلى السياسة

ويلفت المصدر العراقي إلى نقطة أساسية في تحول مسار الصحوات من دورها الأمني إلى السياسي، فيقول: «على الرغم من القيمة الأمنية الكبيرة لتلك الصحوات في مرحلة ما، وما أنجزته على الأرض، فإنها لم تنجح في الانتقال من الدور الأمني/ العسكري إلى العمل السياسي. فعندما انخرط قادتهم في السياسة والانتخابات لم يحققوا تمثيلاً فعلياً ولم يخترقوا القواعد الشعبية».

وذلك تحديداً هو بيت القصيد في الحالة السورية، أي «التحول الجمعي من الحالة العسكرية الفصائلية في حيز جغرافي محدد، إلى حالة الدولة بمفهومها السياسي والإداري الأوسع والأشمل، والعسكري لجهة (احتكار العنف) ضمن مؤسسة جيش وطني واحد».

وبين امرأة تبيع الخبز على ناصية شارع، وشاب يتراقص في الساحات، وأجهزة تعمل على تثبيت الأمن وشكل الدولة، تبدو سوريا اليوم كبلد بفقاعات كثيرة. واجهة براقة تُعدّ للاحتفال كبطاقة بريد منمقة، وعمق اجتماعي وأمني هشّ لم تُحسم معاركه بعد.


«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

TT

«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)
صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)

يطلب مسؤول أمني رفيع في الحكومة العراقية من سائق السيارة أن يسرع قليلاً. عليه اللحاق بطائرة تعيده من دمشق إلى بغداد. واحدة من الرسائل تتدفق إلى هاتفه تقول: «الفصائل السورية في طريقها إلى العاصمة». في مساء يوم السبت السابع من ديسمبر (كانون الأول) 2024 كان المسؤول قد أنهى مهمة روتينية شمال شرقي سوريا، لتنسيق أمن الحدود، لكن البلاد الآن على وشك أن تكون بيد نظام جديد، يشع من أنقاض.

على أسوار دمشق، كانت سيارة المسؤول العراقي تنتظر «ترتيبات استثنائية» مع السلطات الجديدة في سوريا. ونشأت بين الجانبين «اتصالات من عدم».

يقول مسؤول سوري سابق في «إدارة العمليات العسكرية» إنها «المرة الأولى التي تواصلت فيها (هيئة تحرير الشام) مع مسؤول في الحكومة العراقية». ويقول عنصر أمن عراقي كان حاضراً في الترتيبات إن «الأمر تم بسلاسة غير متوقعة حينها، ودخلنا دمشق» رفقة عناصر من «الهيئة» صباح الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024. ثم وصلت رسالة مثل الصاعقة: «هرب (بشار) الأسد».

مطار دمشق بعد سقوط نظام الأسد (أرشيفية-أ.ف.ب)

كان مطار العاصمة السورية مسرح أشباح. حتى ضباط «لواء النقل الجوي» الذين يعرفهم المسؤول العراقي اختفوا. لا أحد يسأل عن تذكرة أو جواز سفر. الممر الخاص بالدبلوماسيين مشرع للرياح. غادر الرجل على متن رحلة استثنائية إلى بغداد.

خلال النهار، تحلق الطائرة وعلى متنها المسؤول الأمني مع حقيبة أسئلة عن سوريا الجديدة. في مسار الرحلة ذاتها، لكن على الأرض، تغادر ميليشيات عراقية كانت تتمركز في سوريا منذ عام 2011. العجلات التي تحركت من ريف دمشق نحو بلدة البوكمال، قرب الحدود العراقية، قطعت رحلة أخيرة باتجاه واحد لمئات المسلحين، تاركين خلفهم خمسة عشر عاماً من «محور المقاومة» ينهار الآن مثل جبل من رمال.

تكشف شهادات خاصة جمعتها «الشرق الأوسط» من شخصيات عراقية ضالعة في الملف السوري قبل هروب الأسد كيف انسحبت ميليشيات من سوريا دون تنسيق، أو ترتيبات مسبقة، وما دار في الكواليس حول رؤيتها لما حدث، وأظهرت لاحقاً أن طهران وموسكو والأسد كانوا قد اتخذوا قرارات عدم القتال في سوريا في أوقات متباعدة، ولم يشاركوا المعلومات المطلوبة مع حلفاء عراقيين إلا في وقت متأخر.

كما تسلط الشهادات الضوء على ردود فعل مجموعات شيعية في أعقاب انهيار نظام الأسد، وصلت إلى المطالبة بتقوية نفوذ الفصائل المسلحة في العملية السياسية العراقية، وتعزيز ما بات يعرف بـ«الحاكمية الشيعية» في بغداد، حتى «تستوعب صدمة أولئك الذين تركوا سوريا».

الرئيس السوري بشار الأسد يصافح رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في دمشق (أرشيفية)

«ليست مناورة... تم خداعنا»

في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، بعد ثلاثة أيام من بدء «ردع العدوان»، أجرى رئيس الحكومة العراقية محمد السوداني مكالمة مع بشار الأسد. يومها كانت فصائل المعارضة السورية قد سيطرت على ريف حلب. وقال السوداني للأسد إن «أمن سوريا يرتبط بالأمن القومي للعراق». في اليوم التالي حاصرت المعارضة حماة. ولم يتصل السوداني بالأسد مرة أخرى.

في نينوى، المحافظة الشمالية القريبة من الحدود مع سوريا كان قادة فصائل شيعية يحاولون إرسال الدعم إلى سوريا، لأنه «مع تحرك الفصائل السورية كان عدد المسلحين الموالين لإيران أقل بكثير عما كانوا قبل سنوات». يقول مسؤول فصائلي في نينوى أيضاً إنهم «أخبروا المقاتلين أن عليكم حماية الشيعة والمراقد في سوريا، وكثيرون تحمسوا».

ويقول كاظم الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء» التي انخرطت في الميدان السوري منذ عام 2013، إن فصيله انسحب من هناك أواخر 2023. ويضيف: «كانت مهمتنا قد انتهت».

أرشيفية لعناصر حركة «النجباء» التي كانت تنشط في شرق سوريا خلال عرض عسكري في بغداد

حتى عام 2018، ازدحمت سوريا بأكثر من 150 ألف مقاتل من «الحرس الثوري» الإيراني، وعناصر «حزب الله» اللبناني، وميليشيات عراقية، وفق تقديرات أمنية عراقية وسورية. بدا أن الجيش التابع للنظام السوري السابق أقل حجماً من كل الحشود الأجنبية. وبحلول ديسمبر 2023 حدث شيء ما، وسمح «الحرس الثوري» الإيراني بمغادرة مجموعات شيعية بعد مشاورات مع الأسد. قيل على نطاق واسع إن «صفقة إقليمية قادت إلى هذا التحول الميداني».

مع انسحاب جزء من الميليشيات الإيرانية وحلفائها من سوريا عام 2023، كان نظام بشار الأسد يحاول استعادة مقعده في الجامعة العربية. وتطلب ذلك منه الكثير من الوقت حتى يمهد لاندماج شبه مستحيل مع العالم العربي، لم ينجح في النهاية.

ومع بدء عمليات «ردع العدوان» في نوفمبر 2024، تقلص عدد الجماعات الإيرانية في سوريا إلى بضعة آلاف، لكن عودة الأسد لم تكتمل.

مع تحرك فصائل المعارضة نحو دمشق، كان الشعور السائد بأن الجماعات الشيعية تتحرك لسد نقص لم تنتبه إليه. في الثاني من ديسمبر 2024، تسلل العشرات من المسلحين ليلاً عبر طريق عسكري غير رسمي إلى الأراضي السورية، وأوقف طيران أميركي طريقهم بقصف أرتال قرب البوكمال. بعد ذلك، كان واضحاً أن الذين تحمسوا لدخول سوريا تراجعوا عن الفكرة.

في صباح اليوم التالي سيطرت قوات المعارضة السورية على 14 بلدة في حماة، وباتت تتفرغ لمعركة حمص. يومها أعلنت كتائب «حزب الله» العراقية أن «الوقت مبكر لاتخاذ قرار إرسال الدعم العسكري إلى سوريا».

ويقول مسؤول في فصيل شيعي مسلح إنه سأل مرؤوسيه في بغداد عن «عمليات ردع العدوان» في أيامها الأولى. قالوا له: «اطمئن... قد تسقط سوريا (بيد المعارضة)، لكن دمشق باقية (يقصد بيد الأسد)». ويضيف: «بعد أسبوع، لم نستوعب ما حدث».

قبل وصول المعارضة السورية إلى حمص، كانت المجموعات الشيعية ترجح أن الأمر سيتوقف هناك. يقول قيادي في فصيل شيعي إن «تقارير استخبارية اطلع عليها مسؤولون في جهاز الأمن الوطني العراقي، وقيادة الحشد الشعبي، وقادة فصائل، أفادت بأن الروس والإيرانيين سيوقفون زحف المعارضة، وأن مدينة حمص ستكون النقطة الفاصلة».

لم يستخدم الروس تفوقهم الجوي إلا بشكل محدود. ومع تحرك فصائل المعارضة من حماة باتجاه حمص في 6 ديسمبر 2024، كانت طائرات يُعتقد أنها روسية ضربت جسر «الرستن» الرابط بين المدينتين بقوة تدميرية لا تمنع عبور الأرتال.

لاحقاً، أظهرت لقطات مصورة من الجو أن الروس احتفظوا بطائرات سوخوي المزودة بالصواريخ في قاعدة حميميم دون استخدامها، وعبرت فصائل المعارضة الجسر إلى حمص التي أضحت محررة بالكامل بحلول فجر 7 ديسمبر 2024.

لقطة من فيديو لقناة «سوريا» تظهر طائرات حربية روسية رابضة في قاعدة حميميم باللاذقية خلال عمليات «ردع العدوان«

الآن، بات كثيرون من «محور المقاومة» أكثر قناعة بأن الزحف السريع للفصائل ليس مجرد مناورة. يقول القيادي الشيعي إنهم في تلك اللحظة فهموا أن «الإيرانيين شاركوا معنا مواقف متضاربة (...) ربما تم خداعهم».

لقد بقي السؤال عن أدوار طهران وموسكو غامضاً. لم تمتلك فصائل شيعية أجوبة حاسمة في الأشهر القليلة التي تلت هروب الأسد. اليوم، يعتقد الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء»، أن «الموقف الروسي والإيراني لم يتغير إلا بعد أن تراجع نظام الأسد، وانهارت القوى الماسكة للأرض، وتحولت المعركة إلى مواجهة مع شعب»، وفق تعبيره.

لكن مصادر من فصائل كانت نشطة في سوريا منذ عام 2013 تحدّثت عن «قرار اتخذته إيران مبكراً بعدم خوض معركة في سوريا بسبب حسابات إقليمية أشد تعقيداً». تقول المصادر إن «إيران لم تكن متأكدة من نتائج لصالحها في حال واجهت زحف المعارضة، لأنها اكتشفت متأخرة أن موسكو باتت تتصرف لوحدها في سوريا».

في النهاية، بدا أن أقطاب التحالف بين موسكو وطهران والأسد ينفصلون عن بعضهم، ويتخذون قرارات ميدانية متباعدة، سمحت بتقدم سريع للمعارضة، وهروب أسرع للأسد. لكن الأكيد من وجهة نظر القيادي الشيعي أن «الجماعات العراقية لم تكن في صلب نقاشات أفضت إلى ما حدث في النهاية».

في تلك اللحظة، كان أكثر من عشرة فصائل عراقية قد أمضت أكثر من عشر سنوات في الجبهة السورية، تورط خلالها آلاف المسلحين في بحر من الدماء.

و«تدور الدوائر»

في السادسة فجراً، يوم 8 ديسمبر 2024، كتب رئيس الوزراء العراقي الأسبق عادل عبد المهدي رسالة عبر «إكس» قال فيها: على الباغي تدور الدوائر. ثم طغت أجواء الصدمة على القوى السياسية الشيعية في بغداد.

يومان بعد التحرير، تكون جميع الفصائل قد غادرت الأراضي السورية، والأسد في موسكو. في 12 ديسمبر 2024، ظهر نوري المالكي وهو زعيم «ائتلاف دولة القانون» وكان حليفاً قوياً للأسد لسنوات، ليصرح بأن «الهدف مما حدث في دمشق هو تحريك الشارع في بغداد». وانفجر الرأي العام بالأسئلة عما حدث.

حاول المجتمع السياسي الشيعي في بغداد استيعاب الصدمة، ونشطت في الكواليس نقاشات عن «مستقبل الشيعة في العراق»، طغى عليها ارتباك شديد، وفق شهادات أشخاص شاركوا في اجتماعات خاصة عقدت في الأسابيع التي تلت هروب الأسد.

وتحدث هؤلاء أن صناع قرار شيعة لم يجدوا أجوبة عما حدث في سوريا، ودور إيران فيه، وواجه كثيرون صعوبات في الإجابة عن سؤال كيف سيتغير العراق والمنطقة بعد الأسد؟.

يقول أحد المشاركين في جلسة خاصة عقدت في يناير (كانون الثاني) 2025 إن الأزمة في سوريا لا تتعلق بهروب الأسد، وانكسار «محور المقاومة»، بل إنها بالنسبة لـ«العراقيين الشيعة تتعلق بإعادة تعريف دورهم بعد سقوط تحالفات وتوازنات قديمة».

جانب من أحد اجتماعات قوى «الإطار التنسيقي» (وكالة الأنباء العراقية)

وظهرت أعراض جانبية لهذه النقاشات الصعبة على الجماعات الشيعية. وروّج كثيرون من بيئة «المقاومة» لمشروع «الفيدرالية الشيعية» التي تمتد من سامراء إلى البصرة، على بحر من نفط. سرعان ما اضمحلت الفكرة مثل رماد بارد.

وتصاعد حديث جاد عن «الحاكمية الشيعية». يقول قيادي في فصيل مسلح إن «القوى الشيعية كانت تركز خلال الأشهر الماضية على تقوية الوضع الداخلي، وتعزيز حضورها في الحياة السياسية، وهذا ما يفسر المشاركة الفاعلة في الانتخابات التي أجريت في 11 نوفمبر 2025، وفوز فصائل مسلحة بمقاعد في مجلس النواب الجديد».

يبدو أن جميع الذين قاتلوا في سوريا فازوا بمقاعد في البرلمان الجديد. لقد حصلت حركة «عصائب أهل الحق» بزعامة قيس الخزعلي على 28 مقعداً داخل البرلمان، وفازت منظمة «بدر» بزعامة هادي العامري بـ18 مقعداً، وحصلت كتلة «حقوق»، التابعة لـ«كتائب حزب الله»، على ستة مقاعد، بينما حصلت قائمة تابعة لـ«كتائب الإمام علي» على ثلاثة مقاعد، وحصل تحالف «خدمات» بزعامة شبل الزيدي على تسعة مقاعد.

ويطرح هؤلاء اليوم مشروعاً انتقالياً يقوم على أدوار شيعية جديدة، يتقدمه طموح متنامٍ لدى قادة مثل قيس الخزعلي لصياغة مظلة تحمي الجماعات الشيعية من التفكك عبر حضورٍ أثقل في مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية معاً.

وفي مارس (آذار) 2025، سئل الخزعلي عن سوريا الجديدة. وقال إن «الدولة العراقية من واجباتها ومن مصلحتها أن تتعامل معها ما دامت تلك الدول والحكومات تمثل دولها».

ويقول قيادي شيعي إن لحظة هروب بشار الأسد لم تكن حدثاً في سوريا بقدر ما كانت زلزالاً في الوعي الشيعي داخل العراق؛ إذ دفعت الجميع إلى إعادة التفكير في شكل التحالفات التي حكمت الإقليم لأعوام طويلة. لكن خلف هذا التحول تبرز أسئلة معلّقة، وشكوك حول «مستقبل النظرية الإيرانية ذاتها» بعدما بدأت تتعرّض لاختلال كبير بعد أربعة عقود من النفوذ المتواصل في المنطقة. يقول القيادي إن «الجواب لم ينضج بعد».


سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
TT

سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)

مع مرور عام على إطاحة نظام بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024، تتابع أوساط سياسية وبحثية أميركية تطورات السلطة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع. ويشير هؤلاء إلى مساعي دمشق لتوطيد العلاقات بالمجتمع الدولي، في وقت تواجه فيه تحديات داخلية تشمل الاستقرار السياسي، وإعادة بناء الاقتصاد، فضلاً عن تحديات خارجية تتعلق برفع العقوبات ومكافحة الإرهاب.

وثمة إجماع بين أوساط أميركية معنية بالملف السوري على أن سقوط الأسد فتح نافذة تاريخية لإعادة بناء البلاد، لكن النجاح يعتمد على ترسيخ نموذج مستقر.

ويرى الخبراء أن الشرع «حقق تقدماً مذهلاً في عام واحد؛ من إنهاء الحرب، إلى الانخراط الدولي، لكنه يحتاج إلى مزيد من الإصلاحات لتجنب احتمالات الفوضى».

ويقول ستيفن كوك، الزميل الأول في «مركز دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا» بـ«مجلس العلاقات الخارجية»، إن «لقاء الشرع مع الرئيس (الأميركي) دونالد ترمب في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 يمكن أن يكون منطلقاً لبدء عمل جاد وواعد في سوريا»، مشيراً إلى أن «رفع واشنطن العقوبات يتزامن مع إظهار دمشق مساعيَ جادة للقيام بإصلاحات سياسية؛ أهمها في (التعامل مع الأقليات ومكافحة التطرف)»، لكنه يحذر بأن «الحكم في بلد مفلس وممزق سياسياً يظل سؤالاً مفتوحاً».

ويشير كوك، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن الانتخابات البرلمانية المحدودة التي جرت في 5 أكتوبر (تشرين الأول) 2025 (التي غطت 119 مقعداً من 210)، كانت «خطوة رمزية مهمة»، لكنها لم تشمل مناطق الدروز والكرد؛ مما قد يعكس «هشاشة الانتقال»، داعياً إلى توسيع الممارسة لتجفيف منابع الانقسام.

الرئيس السوري أحمد الشرع يحضر بدمشق حفل توقيع مذكرة تفاهم للاستثمار في سوريا يوم 6 أغسطس 2025 (رويترز)

تغيير الشرق الأوسط

يشيد آرون زيلين، الخبير في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، بجهود الشرع في مكافحة «داعش»، ويقول إن لديه فرصة لإحداث تأثير إيجابي في منطقة الشرق الأوسط، لكنه نصح الحكومة السورية الجديدة بالتركيز على تفكيك فصائل مسلحة في البلاد.

وعدّ زيلين تصريحات الشرع الإصلاحية بشأن بناء مؤسسات الدولة علامة إيجابية على توجهات حكومته، رغم قلقه من أن الاقتصاد المدمَّر يهدد الاستقرار في سوريا، لا سيما مع التقديرات التي تفيد بأن تكلفة إعادة إعمار البلاد قد تصل إلى 216 مليار دولار.

بدوره، يقول إدوارد جيريجان، مدير «مركز بلفير للعلوم والشؤون الدولية» بجامعة هارفارد، إن الشرع يواجه «اختباراً لإعادة التوحيد» في بلاد متعددة الطوائف والإثنيات، ويوصي بـ«تعزيز الثقة الداخلية» عبر إصلاحات أمنية موحدة.

ويبدي المحلل الأميركي سيث فرانتزمان تفاؤلاً كبيراً بمستقبل سوريا، عادّاً الشرع «رجلاً مثيراً للإعجاب ومغيراً للعبة»، ويصف التحول في سوريا في أقل من عام بـ«الجنون المطلق»؛ بالتحول من دولة منبوذة إلى دولة بفرص واعدة ومدعومة من الغرب ولاعبين وازنين في الخليج العربي والمنطقة.

ورأى الشرع، في تصريح أمام «منتدى الدوحة» يوم 6 ديسمبر 2025، أن سوريا تسير في الاتجاه الصحيح، بعدما تحولت من منطقة مصدرة للأزمات إلى نموذج للاستقرار، مشيراً إلى أن البلاد «تحتاج الآن إلى بناء مؤسسات مستقرة؛ وهو ما يضمن استمرارية عادلة لبناء الدولة».

الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي خلال توقيع اتفاق دمج «قسد» في الجيش السوري بدمشق يوم 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

صراعات داخلية

ويقول فرانتزمان إن زيارة الشرع التاريخية إلى البيت الأبيض في نوفمبر 2025 تعدّ «محوراً مهماً لإعادة بناء سوريا المحطمة»، بالتزامن مع رفع الشرع من قائمة العقوبات الأميركية، وتجديد تعليق «قانون قيصر».

ويشيد معظم التحليلات بالشرع لتحقيقه تقدماً ملموساً في الاستقرار الداخلي، لكن التحذيرات تتعلق بالصراعات الداخلية التي قد تذكي أعمال عنف أو فوضى. أما خارجياً؛ فتشيد تقارير أميركية بحرص الشرع على توجيه بلاده نحو الغرب، وانضمامها إلى «التحالف الدولي ضد (داعش)»، حيث يشيد مركز «بروكينغز» بعلاقات الرئيس السوري بتركيا والولايات المتحدة، بوصفها مفتاحاً للاستقرار، محذراً من السماح بعودة نفوذ روسيا وإيران.

وكان الشرع قد أقر، خلال حضوره مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار»، بالرياض، في 29 أكتوبر 2025، بأن هناك مخاطر استراتيجية ارتبطت بالفترة السابقة تسببت في خلق حالة من الاضطراب والقلق لبعض دول العالم.