بنغازي.. مدينة الثورة في مواجهة الإرهاب

المركز التجاري الأول في ليبيا ومقر الشركات النفطية الكبرى تعيش شللا شبه كامل

بنغازي.. مدينة الثورة في مواجهة الإرهاب
TT

بنغازي.. مدينة الثورة في مواجهة الإرهاب

بنغازي.. مدينة الثورة في مواجهة الإرهاب

«هذه ليست بنغازي التي نعرفها.. تحولت رغم أنفها إلى مدينة كبيرة للإرهاب.. لم نخرج من أجل هذا على نظام (العقيد الراحل معمر) القذافي، نحن موجودون هنا ونرى الطرفين ولا نرى أي حسم على المدى القريب لأي طرف». هكذا وصف فرج، أحد سكان تلك المدينة القابعة في شرق ليبيا، ما يحدث هناك، مفضلا عدم ذكر بقية اسمه خوفا على حياته.
الحديث هنا عن بنغازي، تلك المدينة الساحلية التي عصف بها القتال وأصيبت الحياة العامة فيها، وهي قاعدة لشركات نفطية، بجمود شبه كامل، منذ أعلن اللواء السابق بالجيش الليبي خليفة حفتر حربه على المتشددين الإسلاميين.
تعكس هذه المشاهد المتناقضة صورة حقيقية للواقع العسكري والأمني الذي تعيشه بنغازي، ثانية كبريات المدن الليبية ومهد الانتفاضة الشعبية التي دعمها حلف شمال الأطلنطي (الناتو) ضد نظام العقيد الراحل معمر القذافي عام 2011. وبعد مرور بضعة أسابيع على عملية «الكرامة» التي حظيت بزخم إعلامي وتأييد شعبي واسع النطاق خاصة في بنغازي، التي كانت مسرحا لعمليات قتل مستمرة استهدفت ضباط الجيش والشرطة والناشطين السياسيين والإعلاميين، فإن الاستراتيجية التي تتبعها قوات حفتر في قتال المتشددين، تبدو بطيئة نسبية مقارنة بتطلعات رجل الشارع العادي الذي يطمح إلى الخلاص من القبضة الحديدية التي يفرضها جيش مختلط من الإسلاميين المتطرفين على المدينة.

قال أحد الإعلاميين في المدينة لـ«الشرق الأوسط»: «حفتر يريد عزل المتطرفين بالضواحي، خاصة معقلهم الرئيس القوارشة. إنه يسعى للدخول من منطقة سيدي فرج - الهواري لعزل مجموعة («أنصار الشريعة») بمعقلهم الرئيس الذي يتمركزون فيها وبالتالي إبعادهم عن المدينة نفسها والتكفل والتعامل مع أي مجموعات أو خلايا أو جيوب داخل المدينة، خاصة حي الليثي، بمعاونة السكان». وأضاف: «ومن ثم حصار «أنصار الشريعة» بالقوارشة واستنزافهم وربما الضغط عليهم للخروج باتجاه منطقة المقزحة التي تعد منطقة مزارع وشبه جرداء».
ويتضح من خريطة عسكرية اطلعت عليها «الشرق الأوسط» إصرار حفتر على ضرب قصر ولي العهد ومعسكر «17 فبراير» في منطقة قاريونس، وكتيبة راف الله السحاتي حتى آخر منطقة الهواري وتحديدا الدوار الشهير بدوار مصنع الإسمنت للسيطرة على الطريق الحيوي «الهواري- سيدي فرج» الذي يصل لطريق المطار.
يعتقد كثيرون أن هدف حفتر هو عزل مناطق بنغازي المأهولة بالسكان والتي يتحصن فيها المتطرفون، خاصة تنظيم ««أنصار الشريعة»»، علما بأن لدى حفتر موالين وقوات بالمناطق القريبة من القوارشة من ضمنها المقزحة - سلوق وغيرها، التي تشكل بدورها طوقا آخر على القوارشة وصولا للرجمة المتمركز فيها حاليا.
ويبدو من الخريطة أيضا أن حفتر يريد إخراج كتيبة «17 فبراير» من قاريونس والسيطرة على مقر كتيبة «21 صاعقة» من قبل «أنصار الشريعة» للحصول على معسكر حصين وراء الخط وفي عمق بنغازي.
وشنت مقاتلات حفتر عدة هجمات صاروخية على مواقع لتمركز المتطرفين في المدينة في محاولة لإجبارهم على الخروج من مخابئهم القريبة من السكان.
وقال أحد السكان لـ«الشرق الأوسط»: «الآن صاروا خارج بنغازي مع حملة دعاية إعلامية للتأثير على الرأي العام ضدهم على نحو يجعلهم غير مرتاحين ببنغازي، وهذا حدث بالفعل.. هم الآن بكامل عدتهم وعتادهم موجودون في القوارشة، لقد وقعوا في الفخ».
لكن طيران حفتر يصر على قصف المعسكرات ولا يقصف القوارشة، بسبب عدة مخاوف لعل أبرزها أنه سيكون مضطرا للتدمير لكي يصل إلى مرحلة السيطرة كما قال مصدر عسكري لـ«الشرق الأوسط»، مضيفا: «سيواجه قوة كبيرة على الأرض لكي يسيطر. حفتر لن يستطيع السيطرة إلا إذا دخل عنوة للمدينة، وليس له إلا طريق واحد من جهة معسكر الصاعقة وسيواجه في طريقه الليثي، أما بقية المناطق فتتمركز فيها قوات متفرقة».
وتابع: «ببساطة يدمر لكي يسيطر، وأعتقد أنه لا يريد ذلك لأن البنغازية (سكان بنغازي) متقلبو المزاج. سيقاتلونه إن وقع ضحايا وسيخسر الدعم الشعبي والقبلي، وربما هناك اتفاق على ألا يضر المدينة». ومع لجوء حفتر إلى ماكينة الدعاية والحرب الإعلامية لتأجيج الرأي العام ضد خصومه، فإن لديه كما تقول مصادر في بنغازي عدة فرق تعمل داخل المدينة بشكل غير معلن على خطف وقتل كل من له علاقة بالميليشيات و«أنصار الشريعة». وقال ناشط إعلامي رفض تعريف هويته خشية تعرضه للانتقام: «أجل كثيرون اختفوا، وقتل ثلاثة حتى الآن محسوبون على (أنصار الشريعة). لاحظنا اختفاء كثيرين منذ بدء العمليات، خاصة صغار السن. البعض أطلق سراحه». وتابع: «المعلومات الواردة تقول إنهم يقادون إلى سجن قرنادة شرق بنغازي بالجبل الأخضر تحت سيطرة حفتر الذي سبق أن صرح في مؤتمره الأخير أنه سيستخدم أساليب خصومه للقضاء عليهم».
وأضاف: «بالتأكيد لديه قوة كبيرة، والإسلاميون أيضا قوة كبيرة لا يستهان بها، وبالتالي فإن أسلوب حرب العصابات والشوارع ليس في صالح قوات حفتر، لأن الإسلاميين خبراء فيها». وخلصت ناشطة إعلامية في بنغازي إلى القول: «حفتر يفتقد القدرة على حسم المعركة في بنغازي. الأمر صعب للغاية. الجماعات المتطرفة ما زالت داخل المدينة، وبصراحة هم الأقوى، ولا تنسى أن السلاح والمال عندهم».
وبينما تمضي الحياة في بنغازي التي تعيش نكهة الحرب منذ سقوط النظام السابق، فإن التساؤلات حول إمكانية انتقال عملية الكرامة إلى العاصمة الليبية طرابلس تبقى الأهم في ظل احتفاظ ميليشيات إسلامية بكل عتادها وأسلحتها في مواجهة جيش رسمي مفكك وضعيف البنيان.
ثمة صعوبات في أن تكون طرابلس الوجهة المقبلة لقوات حفتر، وكما قال صحافي ليبي في المدينة طلب عدم تعريفه، فإن ذلك يعود إلى عدة أسباب، أهمها تمركز الإرهابيين بين السكان، وضعف العتاد العسكري، فضلا عن الإمدادات التي تصل إلى «أنصار الشريعة» من مصراتة، مشيرا إلى أن تسليح حفتر أقل بكثير من تسليح «أنصار الشريعة». وهنا تروق لكثير من الليبيين فكرة المقارنة بين حفتر والرئيس المصري الجديد عبد الفتاح السيسي، حيث أضاف الصحافي: « لم ينجح السيسي دون دعم شعبي وإعلامي ونخبة تسانده،
وهذا غائب حتى الآن، لأنه ببساطة لا توجد في ليبيا نخبة.. عندنا نكبة، بتذكرة طائرة تشتري أتخن رأس نخبوي» لكن ثمة خلاف حول عملية «الكرامة» حتى داخل من يفترض به أن يؤيدها، لهذا فإن حفتر من وجهة نظر الصحافي نفسه «يسير على حقل ألغام، فما زال هناك خلاف داخل الجيش، وعلى سبيل المثال، فإن آمر قاعدة طبرق مثلا حتى الآن متردد في الانضمام إلى عملية (الكرامة)». وبالإضافة إلى ذلك، فإن قنوات فضائية محلية تتبنى الخط الليبرالي لا تدعم حفتر وإن كانت تدعم فكرة الحرب على الإرهاب.
وهو يعتقد أنه ليست لدى حفتر القدرة على نقل معركته لطرابلس التي تعد عمليا مقسومة إلى جزأين، الشرقية تحت سيطرة «القاعدة» بكل أسمائها، والقاعدة العسكرية تقع تحت قبضتهم وكذلك البحرية، أما الغربية فهي تحت سيطرة الزنتان بتحالفاتها المصلحية المؤقتة جدا وليسوا فريقا واحدا.. ولديهم مشكلات مع الأمازيغ في ظهرهم.. و«القاعدة» في بوسليم أمامهم.
استراتيجيا، قال محلل عسكري ليبي لـ«الشرق الأوسط»: «يدرك حفتر تماما أن الزمان لم يعد الزمان نفسه، وأن تغييرات كثيرة لحقت بقواعد واستراتيجيات العمل العسكري الذي ابتعد عنه لأكثر من 20 سنة كانت كفيلة بتحويل المؤسسة العسكرية الليبية التي كان هو أحد قياداتها يوما من الأيام إلى أنقاض مؤسسة ليختتم مشوار تهالكها بدخولها طرفا في الصراع المسلح الذي صاحب ثورة «17 فبراير» ضد نظام العقيد القذافي. وأضاف: «خرجت المؤسسة العسكرية أو ما تبقى منها من العقود الأربعة بوحدات عسكرية ذات طابع أمني أطلق عليها اسم (الكتائب الأمنية) حلت محل ما كان يفترض أن يكون ركن القوات البرية الذي يرى حفتر أنه الأجدر برئاسته، والأدهى من ذلك أن عددا كبيرا من قادة هذه الوحدات العسكرية جرى اختيارهم لأسباب تتعلق بالولاء الشخصي للعقيد القذافي».ولفت إلى ما جرى عقب ثورة «17 فبراير» وما وصفه بالسيلان الضخم للأسلحة والذخائر والدور الذي لعبته العلاقات الاجتماعية «القبلية» في تنظيم التشكيلات العسكرية والميليشيات وصراعات النفوذ والمصالح القبلية. وأضاف: «حفتر ينتمي إلى قبيلة الفرجان أكبر القبائل الليبية وأحد فروع قبيلة ترهونة، وخلال عقود كان أغلب المجندين في القوات المسلحة الليبية من أبناء هذه القبيلة، وعدد كبير من قيادات الجيش الليبي ينتمون إلى هذه القبيلة». صحيح أن حفتر محسوب على الشرق الليبي. إلا أن قبائل الشرق الليبي الأصيلة أو الأقدم عهدا كالعبيدات والعواقير والمغاربة والبراعصة والتي كانت تمتهن حرفتي الرعي والزراعة وتشتهر تسميتها بـ«البوادي»، ترى أن القبائل الوافدة من الغرب مثل ورفلة والفرجان ومصراتة قد أضرت إلى درجة ما بالمصالح الاقتصادية لهم خاصة مع اكتشاف البترول الذي كان أغلب إنتاجه من الشرق الليبي.
وهكذا، فالمشهد في ليبيا معقد إلى درجة كبيرة، فيوجد تنافس على المناصب العليا في قيادة الجيش الليبي يكاد يكون منحصرا في قبائل بعينها مثل العبيدات الذين ينحدر منهم اللواء الراحل عبد الفتاح يونس وعبد السلام جاد الله الصالحين وسليمان محمود، والفرجان الذين ينحدر منهم الجنرالات عمر الحريري وخليفة حفتر وهؤلاء هم أصحاب الرتب الأعلى في الجيش الليبي.
في المقابل، ينتشر الإسلاميون في أوساط بعينها خاصة في المحسوبين على مدينة مصراتة أو المنتمين لها، ولعل كون أغلب قيادات هذا التيار من هذه المدينة يدلل على ذلك بوضوح، وهو ما قد يكون مبررا بعد أكثر من 500 عملية استهدفت عناصر الجيش الليبي، لأن يسارع من تبقى من قيادات هذه المؤسسة إلى تبني عملية عسكرية مضادة قادها حفتر، إلا أن المعطيات على الأرض تفرض سيناريوهات مختلفة.
وعلى الرغم من أن أصابع الاتهام تشير في كل العمليات التي استهدفت أفراد المؤسسة العسكرية إلى التيار الإسلامي، فإن التصدي لهذا التيار يفرض المواجهة مع حاضنته الشعبية سواء في بنغازي أو في درنة، علما بأن معظم أفرادها من تركيبة قبلية واحدة.
ويقول الخبير العسكري: «هذا لا يعني أن كل القبيلة توافق ضمنا على ما يقوم به بعض من أبنائها أو المحسوبين عليها، لكن هذا واقع الحال، أضف إلى ذلك تمترس قيادات هذا التيار واحتفاظه بكميات هائلة من الأسلحة والذخائر». وتابع: «يدرك حفتر بحكم خبرته العسكرية أن العمل العسكري الذي يقوم به لن يكتب له النجاح ما لم يتمكن من استنزاف كل الذخائر الموجودة في يد تلك الجماعات، لهذا لجأ إلى الحل الأكثر تفوقا، وهو سلاح الطيران».
ومع محدودية عدد الطائرات ومحدودية ذخائرها، نظرا لأن سلاح الطيران كان من الأسلحة التي أهملت في زمن العقيد القذافي، سيكون العمل كما يرى الخبير نفسه محصورا في استهداف مخازن الذخيرة لهذه المجموعات، وهو العمل الذي يستوجب أن يتزامن مع عمل استخباراتي على الأرض لرصد أماكن هذه المخازن وجمع المعلومات ومن ثم القيام بالإغارة عليها.
وخلص إلى أن «هذا الأمر سيؤدي إلى إطالة أمد العمل العسكري، وبالتالي زيادة احتمالات انهيار العملية برمتها، لأن الانتقال إلى مرحلة الصدام على الأرض قد تستلزم زمنا طويلا، وفي الوقت نفسه سيتبعها اندلاع صدام مواز مع الحاضنة الشعبية لكلتا المجموعتين». لكن قد يكون أهم هدف تحقق لعملية «الكرامة» أنها أوقفت الاستهداف اليومي لأفراد الجيش الليبي وإن بشكل مؤقت، فطبقا لما أعلنه بيان رسمي للقيادة العامة لجيش حفتر، فقد تراجعت نسبة اﻻغتياﻻت في بنغازي بنسبة تتجاوز 89 في المائة بعد إعلان الحرب على الجماعات اﻻإرهابية.
وقال دبلوماسي عربي عاد لتوه من بنغازي ضمن بعثة بلاده التي أغلقت مقر قنصليتها في المدينة التي تكاد تخلو حاليا من البعثات الدبلوماسية الأجنبية، لـ«لشرق الأوسط»: «حفتر لوحده لن يقدر على الحسم إلا إذا تدخلت أطراف خارجية لمصلحته، يبدو أن الحسم في ليبيا سيظل بعيد المنال في الوقت القريب». يقول فرج الذي يعكس رأيه رجل الشارع العادي في نبرة تفاؤل: «بعض المحسوبين على التيار الإسلامي المتشدد يريدون تحويل بنغازي إلى مرتع أو مركز للإرهاب، أهل بنغازي طيبون ووسطيون، ولكنهم لن يرضوا أن تتحول مدينتهم إلى هذا أبدا».
وهو يستدل على صحة كلامه بوقوف سكان المدينة مع الجنرال حفتر في مظاهرات علنية وعلى مرأى ومسمع من «أنصار الشريعة» والكتائب، كما أن المدينة قدمت أكثر من مائة شهيد على أسوار تلك الكتائب عندما طالبتها بفك نفسها وتسليم سلاحها للجيش والشرطة، مضيفا بنيرة حاسمة: «بنغازي مدينة مناضلة، وسيأتي الوقت الذي تهدر فيه وتكتسحهم».
وقتل أكثر من 100 شخص في اشتباكات شبه يومية شاركت فيها أحيانا طائرات هليكوبتر وطائرات حربية ولحق خلالها ضرر بمناطق سكنية، فيما أغلقت الجامعات في الأغلب ولزم كثير من السكان منازلهم. وتهدد الفوضى ليبيا مع عجز الحكومة والبرلمان عن السيطرة على الميليشيات ورجال القبائل المسلحين والإسلاميين الذين ساعدوا في الإطاحة بالقذافي عام 2011 لكنهم يتحدون الآن سلطة الدولة.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.