بنغازي.. مدينة الثورة في مواجهة الإرهاب

المركز التجاري الأول في ليبيا ومقر الشركات النفطية الكبرى تعيش شللا شبه كامل

بنغازي.. مدينة الثورة في مواجهة الإرهاب
TT

بنغازي.. مدينة الثورة في مواجهة الإرهاب

بنغازي.. مدينة الثورة في مواجهة الإرهاب

«هذه ليست بنغازي التي نعرفها.. تحولت رغم أنفها إلى مدينة كبيرة للإرهاب.. لم نخرج من أجل هذا على نظام (العقيد الراحل معمر) القذافي، نحن موجودون هنا ونرى الطرفين ولا نرى أي حسم على المدى القريب لأي طرف». هكذا وصف فرج، أحد سكان تلك المدينة القابعة في شرق ليبيا، ما يحدث هناك، مفضلا عدم ذكر بقية اسمه خوفا على حياته.
الحديث هنا عن بنغازي، تلك المدينة الساحلية التي عصف بها القتال وأصيبت الحياة العامة فيها، وهي قاعدة لشركات نفطية، بجمود شبه كامل، منذ أعلن اللواء السابق بالجيش الليبي خليفة حفتر حربه على المتشددين الإسلاميين.
تعكس هذه المشاهد المتناقضة صورة حقيقية للواقع العسكري والأمني الذي تعيشه بنغازي، ثانية كبريات المدن الليبية ومهد الانتفاضة الشعبية التي دعمها حلف شمال الأطلنطي (الناتو) ضد نظام العقيد الراحل معمر القذافي عام 2011. وبعد مرور بضعة أسابيع على عملية «الكرامة» التي حظيت بزخم إعلامي وتأييد شعبي واسع النطاق خاصة في بنغازي، التي كانت مسرحا لعمليات قتل مستمرة استهدفت ضباط الجيش والشرطة والناشطين السياسيين والإعلاميين، فإن الاستراتيجية التي تتبعها قوات حفتر في قتال المتشددين، تبدو بطيئة نسبية مقارنة بتطلعات رجل الشارع العادي الذي يطمح إلى الخلاص من القبضة الحديدية التي يفرضها جيش مختلط من الإسلاميين المتطرفين على المدينة.

قال أحد الإعلاميين في المدينة لـ«الشرق الأوسط»: «حفتر يريد عزل المتطرفين بالضواحي، خاصة معقلهم الرئيس القوارشة. إنه يسعى للدخول من منطقة سيدي فرج - الهواري لعزل مجموعة («أنصار الشريعة») بمعقلهم الرئيس الذي يتمركزون فيها وبالتالي إبعادهم عن المدينة نفسها والتكفل والتعامل مع أي مجموعات أو خلايا أو جيوب داخل المدينة، خاصة حي الليثي، بمعاونة السكان». وأضاف: «ومن ثم حصار «أنصار الشريعة» بالقوارشة واستنزافهم وربما الضغط عليهم للخروج باتجاه منطقة المقزحة التي تعد منطقة مزارع وشبه جرداء».
ويتضح من خريطة عسكرية اطلعت عليها «الشرق الأوسط» إصرار حفتر على ضرب قصر ولي العهد ومعسكر «17 فبراير» في منطقة قاريونس، وكتيبة راف الله السحاتي حتى آخر منطقة الهواري وتحديدا الدوار الشهير بدوار مصنع الإسمنت للسيطرة على الطريق الحيوي «الهواري- سيدي فرج» الذي يصل لطريق المطار.
يعتقد كثيرون أن هدف حفتر هو عزل مناطق بنغازي المأهولة بالسكان والتي يتحصن فيها المتطرفون، خاصة تنظيم ««أنصار الشريعة»»، علما بأن لدى حفتر موالين وقوات بالمناطق القريبة من القوارشة من ضمنها المقزحة - سلوق وغيرها، التي تشكل بدورها طوقا آخر على القوارشة وصولا للرجمة المتمركز فيها حاليا.
ويبدو من الخريطة أيضا أن حفتر يريد إخراج كتيبة «17 فبراير» من قاريونس والسيطرة على مقر كتيبة «21 صاعقة» من قبل «أنصار الشريعة» للحصول على معسكر حصين وراء الخط وفي عمق بنغازي.
وشنت مقاتلات حفتر عدة هجمات صاروخية على مواقع لتمركز المتطرفين في المدينة في محاولة لإجبارهم على الخروج من مخابئهم القريبة من السكان.
وقال أحد السكان لـ«الشرق الأوسط»: «الآن صاروا خارج بنغازي مع حملة دعاية إعلامية للتأثير على الرأي العام ضدهم على نحو يجعلهم غير مرتاحين ببنغازي، وهذا حدث بالفعل.. هم الآن بكامل عدتهم وعتادهم موجودون في القوارشة، لقد وقعوا في الفخ».
لكن طيران حفتر يصر على قصف المعسكرات ولا يقصف القوارشة، بسبب عدة مخاوف لعل أبرزها أنه سيكون مضطرا للتدمير لكي يصل إلى مرحلة السيطرة كما قال مصدر عسكري لـ«الشرق الأوسط»، مضيفا: «سيواجه قوة كبيرة على الأرض لكي يسيطر. حفتر لن يستطيع السيطرة إلا إذا دخل عنوة للمدينة، وليس له إلا طريق واحد من جهة معسكر الصاعقة وسيواجه في طريقه الليثي، أما بقية المناطق فتتمركز فيها قوات متفرقة».
وتابع: «ببساطة يدمر لكي يسيطر، وأعتقد أنه لا يريد ذلك لأن البنغازية (سكان بنغازي) متقلبو المزاج. سيقاتلونه إن وقع ضحايا وسيخسر الدعم الشعبي والقبلي، وربما هناك اتفاق على ألا يضر المدينة». ومع لجوء حفتر إلى ماكينة الدعاية والحرب الإعلامية لتأجيج الرأي العام ضد خصومه، فإن لديه كما تقول مصادر في بنغازي عدة فرق تعمل داخل المدينة بشكل غير معلن على خطف وقتل كل من له علاقة بالميليشيات و«أنصار الشريعة». وقال ناشط إعلامي رفض تعريف هويته خشية تعرضه للانتقام: «أجل كثيرون اختفوا، وقتل ثلاثة حتى الآن محسوبون على (أنصار الشريعة). لاحظنا اختفاء كثيرين منذ بدء العمليات، خاصة صغار السن. البعض أطلق سراحه». وتابع: «المعلومات الواردة تقول إنهم يقادون إلى سجن قرنادة شرق بنغازي بالجبل الأخضر تحت سيطرة حفتر الذي سبق أن صرح في مؤتمره الأخير أنه سيستخدم أساليب خصومه للقضاء عليهم».
وأضاف: «بالتأكيد لديه قوة كبيرة، والإسلاميون أيضا قوة كبيرة لا يستهان بها، وبالتالي فإن أسلوب حرب العصابات والشوارع ليس في صالح قوات حفتر، لأن الإسلاميين خبراء فيها». وخلصت ناشطة إعلامية في بنغازي إلى القول: «حفتر يفتقد القدرة على حسم المعركة في بنغازي. الأمر صعب للغاية. الجماعات المتطرفة ما زالت داخل المدينة، وبصراحة هم الأقوى، ولا تنسى أن السلاح والمال عندهم».
وبينما تمضي الحياة في بنغازي التي تعيش نكهة الحرب منذ سقوط النظام السابق، فإن التساؤلات حول إمكانية انتقال عملية الكرامة إلى العاصمة الليبية طرابلس تبقى الأهم في ظل احتفاظ ميليشيات إسلامية بكل عتادها وأسلحتها في مواجهة جيش رسمي مفكك وضعيف البنيان.
ثمة صعوبات في أن تكون طرابلس الوجهة المقبلة لقوات حفتر، وكما قال صحافي ليبي في المدينة طلب عدم تعريفه، فإن ذلك يعود إلى عدة أسباب، أهمها تمركز الإرهابيين بين السكان، وضعف العتاد العسكري، فضلا عن الإمدادات التي تصل إلى «أنصار الشريعة» من مصراتة، مشيرا إلى أن تسليح حفتر أقل بكثير من تسليح «أنصار الشريعة». وهنا تروق لكثير من الليبيين فكرة المقارنة بين حفتر والرئيس المصري الجديد عبد الفتاح السيسي، حيث أضاف الصحافي: « لم ينجح السيسي دون دعم شعبي وإعلامي ونخبة تسانده،
وهذا غائب حتى الآن، لأنه ببساطة لا توجد في ليبيا نخبة.. عندنا نكبة، بتذكرة طائرة تشتري أتخن رأس نخبوي» لكن ثمة خلاف حول عملية «الكرامة» حتى داخل من يفترض به أن يؤيدها، لهذا فإن حفتر من وجهة نظر الصحافي نفسه «يسير على حقل ألغام، فما زال هناك خلاف داخل الجيش، وعلى سبيل المثال، فإن آمر قاعدة طبرق مثلا حتى الآن متردد في الانضمام إلى عملية (الكرامة)». وبالإضافة إلى ذلك، فإن قنوات فضائية محلية تتبنى الخط الليبرالي لا تدعم حفتر وإن كانت تدعم فكرة الحرب على الإرهاب.
وهو يعتقد أنه ليست لدى حفتر القدرة على نقل معركته لطرابلس التي تعد عمليا مقسومة إلى جزأين، الشرقية تحت سيطرة «القاعدة» بكل أسمائها، والقاعدة العسكرية تقع تحت قبضتهم وكذلك البحرية، أما الغربية فهي تحت سيطرة الزنتان بتحالفاتها المصلحية المؤقتة جدا وليسوا فريقا واحدا.. ولديهم مشكلات مع الأمازيغ في ظهرهم.. و«القاعدة» في بوسليم أمامهم.
استراتيجيا، قال محلل عسكري ليبي لـ«الشرق الأوسط»: «يدرك حفتر تماما أن الزمان لم يعد الزمان نفسه، وأن تغييرات كثيرة لحقت بقواعد واستراتيجيات العمل العسكري الذي ابتعد عنه لأكثر من 20 سنة كانت كفيلة بتحويل المؤسسة العسكرية الليبية التي كان هو أحد قياداتها يوما من الأيام إلى أنقاض مؤسسة ليختتم مشوار تهالكها بدخولها طرفا في الصراع المسلح الذي صاحب ثورة «17 فبراير» ضد نظام العقيد القذافي. وأضاف: «خرجت المؤسسة العسكرية أو ما تبقى منها من العقود الأربعة بوحدات عسكرية ذات طابع أمني أطلق عليها اسم (الكتائب الأمنية) حلت محل ما كان يفترض أن يكون ركن القوات البرية الذي يرى حفتر أنه الأجدر برئاسته، والأدهى من ذلك أن عددا كبيرا من قادة هذه الوحدات العسكرية جرى اختيارهم لأسباب تتعلق بالولاء الشخصي للعقيد القذافي».ولفت إلى ما جرى عقب ثورة «17 فبراير» وما وصفه بالسيلان الضخم للأسلحة والذخائر والدور الذي لعبته العلاقات الاجتماعية «القبلية» في تنظيم التشكيلات العسكرية والميليشيات وصراعات النفوذ والمصالح القبلية. وأضاف: «حفتر ينتمي إلى قبيلة الفرجان أكبر القبائل الليبية وأحد فروع قبيلة ترهونة، وخلال عقود كان أغلب المجندين في القوات المسلحة الليبية من أبناء هذه القبيلة، وعدد كبير من قيادات الجيش الليبي ينتمون إلى هذه القبيلة». صحيح أن حفتر محسوب على الشرق الليبي. إلا أن قبائل الشرق الليبي الأصيلة أو الأقدم عهدا كالعبيدات والعواقير والمغاربة والبراعصة والتي كانت تمتهن حرفتي الرعي والزراعة وتشتهر تسميتها بـ«البوادي»، ترى أن القبائل الوافدة من الغرب مثل ورفلة والفرجان ومصراتة قد أضرت إلى درجة ما بالمصالح الاقتصادية لهم خاصة مع اكتشاف البترول الذي كان أغلب إنتاجه من الشرق الليبي.
وهكذا، فالمشهد في ليبيا معقد إلى درجة كبيرة، فيوجد تنافس على المناصب العليا في قيادة الجيش الليبي يكاد يكون منحصرا في قبائل بعينها مثل العبيدات الذين ينحدر منهم اللواء الراحل عبد الفتاح يونس وعبد السلام جاد الله الصالحين وسليمان محمود، والفرجان الذين ينحدر منهم الجنرالات عمر الحريري وخليفة حفتر وهؤلاء هم أصحاب الرتب الأعلى في الجيش الليبي.
في المقابل، ينتشر الإسلاميون في أوساط بعينها خاصة في المحسوبين على مدينة مصراتة أو المنتمين لها، ولعل كون أغلب قيادات هذا التيار من هذه المدينة يدلل على ذلك بوضوح، وهو ما قد يكون مبررا بعد أكثر من 500 عملية استهدفت عناصر الجيش الليبي، لأن يسارع من تبقى من قيادات هذه المؤسسة إلى تبني عملية عسكرية مضادة قادها حفتر، إلا أن المعطيات على الأرض تفرض سيناريوهات مختلفة.
وعلى الرغم من أن أصابع الاتهام تشير في كل العمليات التي استهدفت أفراد المؤسسة العسكرية إلى التيار الإسلامي، فإن التصدي لهذا التيار يفرض المواجهة مع حاضنته الشعبية سواء في بنغازي أو في درنة، علما بأن معظم أفرادها من تركيبة قبلية واحدة.
ويقول الخبير العسكري: «هذا لا يعني أن كل القبيلة توافق ضمنا على ما يقوم به بعض من أبنائها أو المحسوبين عليها، لكن هذا واقع الحال، أضف إلى ذلك تمترس قيادات هذا التيار واحتفاظه بكميات هائلة من الأسلحة والذخائر». وتابع: «يدرك حفتر بحكم خبرته العسكرية أن العمل العسكري الذي يقوم به لن يكتب له النجاح ما لم يتمكن من استنزاف كل الذخائر الموجودة في يد تلك الجماعات، لهذا لجأ إلى الحل الأكثر تفوقا، وهو سلاح الطيران».
ومع محدودية عدد الطائرات ومحدودية ذخائرها، نظرا لأن سلاح الطيران كان من الأسلحة التي أهملت في زمن العقيد القذافي، سيكون العمل كما يرى الخبير نفسه محصورا في استهداف مخازن الذخيرة لهذه المجموعات، وهو العمل الذي يستوجب أن يتزامن مع عمل استخباراتي على الأرض لرصد أماكن هذه المخازن وجمع المعلومات ومن ثم القيام بالإغارة عليها.
وخلص إلى أن «هذا الأمر سيؤدي إلى إطالة أمد العمل العسكري، وبالتالي زيادة احتمالات انهيار العملية برمتها، لأن الانتقال إلى مرحلة الصدام على الأرض قد تستلزم زمنا طويلا، وفي الوقت نفسه سيتبعها اندلاع صدام مواز مع الحاضنة الشعبية لكلتا المجموعتين». لكن قد يكون أهم هدف تحقق لعملية «الكرامة» أنها أوقفت الاستهداف اليومي لأفراد الجيش الليبي وإن بشكل مؤقت، فطبقا لما أعلنه بيان رسمي للقيادة العامة لجيش حفتر، فقد تراجعت نسبة اﻻغتياﻻت في بنغازي بنسبة تتجاوز 89 في المائة بعد إعلان الحرب على الجماعات اﻻإرهابية.
وقال دبلوماسي عربي عاد لتوه من بنغازي ضمن بعثة بلاده التي أغلقت مقر قنصليتها في المدينة التي تكاد تخلو حاليا من البعثات الدبلوماسية الأجنبية، لـ«لشرق الأوسط»: «حفتر لوحده لن يقدر على الحسم إلا إذا تدخلت أطراف خارجية لمصلحته، يبدو أن الحسم في ليبيا سيظل بعيد المنال في الوقت القريب». يقول فرج الذي يعكس رأيه رجل الشارع العادي في نبرة تفاؤل: «بعض المحسوبين على التيار الإسلامي المتشدد يريدون تحويل بنغازي إلى مرتع أو مركز للإرهاب، أهل بنغازي طيبون ووسطيون، ولكنهم لن يرضوا أن تتحول مدينتهم إلى هذا أبدا».
وهو يستدل على صحة كلامه بوقوف سكان المدينة مع الجنرال حفتر في مظاهرات علنية وعلى مرأى ومسمع من «أنصار الشريعة» والكتائب، كما أن المدينة قدمت أكثر من مائة شهيد على أسوار تلك الكتائب عندما طالبتها بفك نفسها وتسليم سلاحها للجيش والشرطة، مضيفا بنيرة حاسمة: «بنغازي مدينة مناضلة، وسيأتي الوقت الذي تهدر فيه وتكتسحهم».
وقتل أكثر من 100 شخص في اشتباكات شبه يومية شاركت فيها أحيانا طائرات هليكوبتر وطائرات حربية ولحق خلالها ضرر بمناطق سكنية، فيما أغلقت الجامعات في الأغلب ولزم كثير من السكان منازلهم. وتهدد الفوضى ليبيا مع عجز الحكومة والبرلمان عن السيطرة على الميليشيات ورجال القبائل المسلحين والإسلاميين الذين ساعدوا في الإطاحة بالقذافي عام 2011 لكنهم يتحدون الآن سلطة الدولة.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».