في منطقة الغورية والنحاسين والجمالية والموسكي، ينتشر عدد كبير من الحمّالين، يتحركون بين شوارعها، وأزقتها الضيقة بعربات حديدية، ينقلون بها البضائع إلى حيث يرغب أصحابها، ويتخذون من مقاه صغيرة هناك، مقرات دائمة لهم، يجلسون عليها في انتظار أوامر يتلقونها من شيوخهم المعروفين لدى التجار، ومن بين هؤلاء عطية رجل أشيب، نحيل، يجلس بوجه ضامر على طاولة خشبية خارج المقهى، يحمل جوالاً صغيراً، يتلقى عليه استدعاءات الزبائن. قال وهو يدخن نرجيلته: «أعمل في هذه المهنة منذ أكثر من 40 سنة، عندما جئت من بلدتي في صعيد مصر، كنت شاباً صغيراً، عرفني الناس، وتزوجت، وأنجبت، لكنّني لم أفكر يوما في أن يرث أحد أبنائي هذه المهنة».
كان يجلس بجانبه عدد من الرجال، يشاركونه شرب الشاي والتدخين، دعا أحدهم للتوجه إلى مكان محدد لنقل بعض البضائع، سحب الرجل الذي يعمل معه نفساً عميقاً من نرجيلته، فيما كانت ترتسم على شفتيه ابتسامة رضا وسكينة، وسحب عربته، وشرع منطلقاً بها إلى المكان المطلوب. لحظتها، أشار له عطية، أن يأخذ حذره، لأنّ الشحنة التي سينقلها عبارة عن مجموعة من الأجهزة المنزلية، ويجب أن تصل لأصحابها سليمة. ثم عاد ليوجه كلامه لي: «مهنتنا هذه تحتاج إلى الثقة والحرص على أموال الناس، وأنا أختار هؤلاء الرجال الذين يعملون معي، بدقة كبيرة، وأول صفة أتحقق من توافرها فيهم، أن يكونوا أمناء على بضائع التجار».
وكان الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، قد أعلن أنّ قيمة الإنتاج المحلي المصري من الأجهزة المنزلية، بلغت ثلاثة مليارات ونصف المليار في الربع الثالث من عام 2016 بزيادة مقدارها 20.6 في المائة، عن الربع الثاني من العام نفسه، وكان الإنتاج مليارين ونصف مليار جنيه.
وذكر الريس عطية، أنّ لديه ما يزيد على 10 حمالين، معظمهم من الشباب، جاء بعضهم من الوجه البحري، لكنّ معظمهم من جنوب مصر، هم ذخيرته التي يستعين بها في عمليات نقل كل أنواع البضائع، يتقاسم معهم لقمة العيش.
لفت ربيع الذي كان عائداً للتو من مهمة كلّفه بها الريس عطية، إلى أنّه جاء القاهرة العامرة، منذ أكثر من 18 عاماً قادما من إحدى قرى الصعيد. لم يتلق تعليماً يؤهله لمهنة أخرى. التحق بزملاء له وأقارب، وسار هذا حاله من يومها حتى الآن. كان العرق يتصبب من جبينه، فمسحه بذيل جلبابه، وشرب كوباً من الماء كان أمامه، ودلف إلى داخل المقهى، وعاد حاملاً نرجيلة، راح يجهزها للتدخين، وبعد أن اطمأن إلى أنّها على ما يرام، جلس في مكانه قائلاً: «لا نريد شيئا من أحد، فقط المعاملة الطيبة، نحن آدميون من لحم ودم، ولسنا حيوانات، بلا مشاعر أو أحاسيس».
في هذه اللحظة تدخل الريس عطية مبتسماً: «الناس مختلفون في طباعهم، والتجار لا يهمّهم من أنت، هم فقط يرغبون بنقل أمتعتهم إلى المكان الذي يريدونه، آمنة وسليمة، وإلاّ سأتحمل أنا قيمة الخسائر التي لحقت بهم. وفي مهنتنا هذه يجب أن نحرص على المعاملة الطيبة مع كل زبائننا، كي لا يتعاملوا مع حمّالين غيرنا، هم بدورهم يردون لنا المعاملة بالمثل».
ونفى الريس عطية وجود نقابة للحمالين توفر لهم معاشاً مناسباً، حال تقاعدهم، وتحمي مصالحهم. لكنّ الثابت أنّ ثورة يوليو (تموز) أعطت لحمالي السكك الحديدية في القاهرة والجيزة، حق تكوين رابطة، سُجّلت في وزارة الشؤون الاجتماعية، تحت رقم 259. كان عدد أعضائها 250 حمالاً، يدفع كل واحد منهم قرشاً في الشهر لصندوق الزمالة، وقد وصلت حالياً إلى 3 جنيهات، وتناقص عدد أعضائها إلى 140 فرداً.
انتهى الريس عطية من التدخين، ونهض من مكانه للاطمئنان على إنجاز عمل أحد رجاله بأمان، وكان شاباً صغيراً، لم يتجاوز الثلاثين من العمر، قال إن اسمه بدوي، وقد انتهي منذ 6 سنوات من أداء الخدمة العسكرية، بعد أن تلقى تعليما متوسطاً، حينها لم يجد ما يقوم به، إلا الالتحاق ببعض أقربائه، وهنا بدأ العمل في نقل البضائع: «أتعامل مع الجميع بحرص، والناس ليسوا سواء، منهم من يقدم الكلمة الطيبة على العمل، ومنهم من لا يهمه إلّا بضاعته، ونحن لا نفرق بين هذا وذاك، جميعهم زبائننا، نوصل البضائع إلى شركات الشحن، أو نأخذها من المخازن إلى محلاتهم، ونعود بعد أن يطمئنوا على سلامتها، لا نأخذ مليما من أحد، لأنّهم طبقا لتقاليد العمل هنا، يحاسبون الريس عطية، ونحن في نهاية اليوم، نأخذ حقوقنا حسب عدد النقلات التي قمنا بها».
سألت الريس عطية عن تقديره لعدد الحمالين الموجودين في المنطقة، قال إنه ليس لديه إحصاء بعددهم بشكل دقيق، لكنّهم كثيرون، وينتشرون في كل مكان، لأنّ طبيعة الشوارع الضيقة والزحام لا تسمح بدخول السيارات، لذا لا مفرّ من نقلها بعربات الجر التي نستعملها.
أمّا عن المقابل المادي الذي يتلقاه نظير عمل رجاله، فقال: «هذه الأيام ليست كأيام زمان، عندما جئت إلى هنا في السبعينات كنت أتقاضى قروشا قليلة عن كل عملية أقوم بها، لكن اليوم، لم يعد للقرش قيمة، والأجور هنا تكون حسب (النقلة) والمسافة التي يجب أن تصل إليها، لكنّنا على أي حال نعيش مستورين، راضين بما قسم الله لنا».
الحمَّالون في منطقة الأزهر... الأمانة والقوة والسرعة أهم مؤهلاتهم
«الشرق الأوسط» استمعت إلى طبيعة عملهم وأحلامهم
الحمَّالون في منطقة الأزهر... الأمانة والقوة والسرعة أهم مؤهلاتهم
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة