رحيل «الفاجومي» الشاعر أحمد فؤاد نجم.. أيقونة الثورات المصرية

شاعر الغلابة وسفير الفقراء صاحب أغنية «مصر يامّه يا بهية»

الشاعر المصري الكبير أحمد فؤاد نجم في ذمة الله
الشاعر المصري الكبير أحمد فؤاد نجم في ذمة الله
TT

رحيل «الفاجومي» الشاعر أحمد فؤاد نجم.. أيقونة الثورات المصرية

الشاعر المصري الكبير أحمد فؤاد نجم في ذمة الله
الشاعر المصري الكبير أحمد فؤاد نجم في ذمة الله

غيب الموت أمس نجم في منزله البسيط، وطوى الشاعر الذي أطلق عليه المصريون لقب «الفاجومي» محبة لشعره اللاذع، صفحة ثرية ومشعة في الحياة الثقافية المصرية والعربية، وشيعته الأوساط الرسمية والثقافية والشعبية في جنازة مهيبة، من مسجد الحسين الشهير بالقاهرة، بعد صلاة الظهر، والصلاة على جثمانه.. تقدم الجنازة كوكبة من رموز الحياة السياسية والثقافية، وشباب الثورة، من بينهم حمدين صباحي، وخالد علي مرشحا الرئاسة السابقان ومحافظ القاهرة جلال مصطفى سعيد، والدكتور محمد أبو الغار رئيس حزب مصر الاجتماعي الديمقراطي، وعدد من الشعراء والكتاب والمثقفين.
حضرت أشعار نجم في مراسم الجنازة، ورافقته في لافتات حزينة حملها بعض المشيعين إلى مثواه الأخير حيث دفن بمقابر «الغفير» بالقاهرة.
ونعت الجامعة العربية الشاعر الراحل فقيد مصر والعالم العربي. وقال الدكتور نبيل العربي الأمين العام لجامعة الدول العربية في بيان رسمي: «إن الشاعر الكبير الراحل أحمد فؤاد نجم أثرى الحياة الثقافية المصرية بأشعاره العامية التي عبرت عن الروح المصرية الأصيلة ووقفت ضد الظلم والطغيان على مر العصور».
وأضاف العربي: «إن نجم سيظل علما من أعلام شعراء العامية المصرية، ورمزا للنضال والكفاح على مر الأجيال»، وقدم العربي خالص تعازيه لأسرة الفقيد ولمحبيه وللشعب المصري.
ونعى عدد كبير من الأحزاب المصرية الشاعر الراحل، في مقدمتهم حزب «المصريين الأحرار» الذي شارك نجم في تدشين حملته التأسيسية. وأكد الحزب، في بيان أصدره أمس، أن أحمد فؤاد نجم كان شاعرا كبيرا رافقت أشعاره الثورية كل انتفاضات وثورات الشعب المصري لأكثر من نصف قرن، وكان رمزا وطنيا ألهم ملايين الشباب في مصر والعالم العربي، الذين هتفوا بأشعاره في معارك التحرر الوطني وميادين الثورة.
وأوضح البيان أن نجم الذي كتب في انتفاضة طلاب السبعينات لـ«الورد اللي فتح في جناين مصر»، والذي أشعلت أشعاره حماس شباب «25 يناير» و«30 يونيو» سوف يبقى دائما رمزا عظيما وملهما لنضال الشعب المصري ضد قوى الظلم والظلام والإرهاب، وسوف يبقى اسمه مع رفيق نضاله الشيخ إمام عيسى محفورا في أعظم صفحات تاريخنا الوطني.
كما نعى التيار الشعبي المصري، رحيل نجم واعتبره «خسارة كبيرة للأمة العربية»، لكن عزاءه في رحيله هو ما تركه من رصيد وافر من الأعمال الإبداعية والمواقف النضالية التي يزخر بها تاريخه، كونه أحد أبرز المشاركين والداعين لثورة «25 يناير» وموجاتها المتعاقبة حتى «30 يونيو»، ونضاله في مواجهة نظامي مبارك والسادات، واعتزازه بالتجربة الناصرية التي عبر عن خلافه مع نظامها السياسي بكل جرأة ووطنية».
وقال حمدين صباحي زعيم التيار الشعبي: «إن عزاءنا الوحيد في رحيل (نجم) أن أعماله ستبقى حاضرة في كل موقف وعلى مر التاريخ».
عاش نجم حياة خصبة تقلب فيها ما بين كل فنون الرفض والتمرد على الفساد وقوى الظلم والطغيان، وبموهبة فذة نابعة من تراث العامية المصري الأصيل، وروافده الشعبية الكامنة في الوجدان العام، استطاع أن يجعل الشعر يمشي بين الناس، ويرتفع فوق أكتاف الثوار وفي أفواه المتظاهرين ضد الأنظمة السياسية المستبدة للمطالبة بالعدل والحرية والكرامة. وظل نجم حتى آخر رمق في حياته قادرا على الدهشة وإثارة الجدل والأسئلة المشاكسة، على الأصعدة السياسية والثقافية والاجتماعية كافة.
عرف نجم شظف العيش والفقر والحرمان في مطالع صباه، فبعد سنوات من مولده في 22 مايو (أيار) في عام 1929، في قرية كفر أبو نجم بمدينة أبو حماد بمحافظة الشرقية لأم فلاحة أمية من الشرقية، وأب كان يعمل ضابطا بالشرطة، وبعد وفاته تدهورت ظروف الأسرة الكبيرة الباهظة المصاريف والتي كانت تضم 17 من الأبناء، فقضى نحو تسع سنوات في ملجأ للأيتام في مدينة الزقازيق. وفي الملجأ نفسه التقى العندليب الأسمر نجم الغناء الراحل عبد الحليم حافظ، ابن محافظة الشرقية، لكنهما لم يتوافقا لاختلاف ميولهما، وقد خرج نجم من هذا الملجأ وهو في السابعة عشرة من عمره.
وعقب خروجه من الملجأ في عام 1945 عمل نجم في معسكرات الجيش الإنجليزي، وتنقل بين مهن كثيرة: كواء، لاعب كرة، بائع متجول، عامل بناء، ترزي. وفي مدينة فايد التقى عمال المطابع الشيوعيين، وكان في ذلك الحين قد علم نفسه القراءة والكتابة، وبدأت معاناته الطويلة تكتسب معنى، واشترك مع الآلاف في المظاهرات التي اجتاحت مصر سنة 1946 وتشكلت أثناءها اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال.
يقول نجم عن تلك الفترة: «كانت أهم قراءاتي في ذلك التاريخ هي رواية (الأم) لمكسيم جوركي، وهي مرتبطة في ذهني ببداية وعيي الحقيقي والعلمي بحقائق هذا العالم، والأسباب الموضوعية لقسوته ومرارته، ولم أكن قد كتبت شعرا حقيقيا حتى ذلك الحين، وإنما كانت أغاني عاطفية تدور في إطار الهجر والبعد ومشكلات الحب الإذاعية التي لم تنته حتى الآن. وكنت في ذلك الحين أحب ابنة عمتي وأتمناها، لكن الوضع الطبقي حال دون إتمام الزواج لأنهم أغنياء».
ارتبط نجم، لسنوات طويلة بشخصية تشبهه إلى حد كبير في التعبير الحاد عن مواقفها وهي شخصية المغني الراحل الشيخ إمام عيسى، حتى أنهما كونا معا ثنائيا يندر تكراره في مجال الهجاء السياسي والاجتماعي عبر الشعر والتلحين والغناء.
كما ارتبط نجم بالكاتبة الصحفية صافيناز كاظم التي تزوجها من 1972 إلى 1976 قبل أن تتحول من اليسار الذي ظل هو وفيا له حتى النهاية، إلى تيار الإسلام السياسي، وأنجب منها ابنته «نوارة» نجم التي تفوقت عليه في «الثورية» وخالفته علنا في بعض قناعاته وخصوصا فيما يتعلق بثورة (30 يونيو) وخريطة الطريق التي تمهد لما بعد إزاحة حكم الإخوان المسلمين».
ولحق «الفاجومي» بالسينما أخيرا في فيلم حمل الاسم نفسه.. فيلم جسد أشواطا من قصة حياة نجم وارتباطه بالشيخ إمام عيسى، وهو مأخوذ عن مذكرات نجم نفسه، وقام ببطولته خالد الصاوي في دور نجم وصلاح عبد الله في دور الشيخ إمام.
والطريف أن نجم نفسه، الذي أصبح في السنوات الأخيرة من عمره من نجوم الفضائيات وبرامج الـ«توك شو»، وظهر ممثلا في فيلم «شباب ع الهوا» من بطولة أحمد الفيشاوي وحنان ترك.
واتسعت أرصفه نجم وسطوحه لكثير من النساء، ولعبت المرأة دورا مهما في حياته وفي شعره، وكثيرا ما كانت تتوحد برمزه ومعشوقته الأسمى «مصر» على حد قوله، فتزوج كثيرا، وكانت زوجته الأولى تدعى فاطمة منصور وأنجب منها بنتا تدعى عفاف، وتزوج أيضا الفنانة عزة بلبع وقبلها الكاتبة صافيناز كاظم وممثلة المسرح الجزائرية الأولى صونيا ميكيو، وآخر زوجاته هي السيدة أميمة عبد الوهاب التي أنجب منها ابنته زينب، ولديه ثلاثة أحفاد من ابنته عفاف هم مصطفى وصفاء وأمنية.
ويتوقف نقاد كثيرون حول قصائد نجم التي كتبها عن «جيفارا» رمز الثورة في القرن العشرين، وقد حصل بها على المركز الأول في استفتاء وكالة أنباء الشعر العربي.
وقال عنه الشاعر الفرنسي لويس أراغون: «إن فيه قوة تسقط الأسوار» بينما أسماه الدكتور علي الراعي «الشاعر البندقية» في حين سماه الرئيس المصري أنور السادات «الشاعر البذيء»، بسبب هجاء نجم اللاذع له في كثير من قصائده.
تمتع نجم بطابع يساري، يتسم بالحيوية والانفتاح على الآخر، وقد انعكس هذا في انضمامه إلى حزب «الوفد» في منتصف يونيو (حزيران) عام 2010، لكنه سرعان ما قدم استقالته في منتصف أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه، احتجاجا على الدور الذي لعبه رئيس الحزب الدكتور السيد البدوي في إقالة إبراهيم عيسى من رئاسة تحرير جريدة «الدستور» بعد بيعها.. وبعد ثورة 25 يناير شارك نجم في تأسيس حزب المصريين الأحرار.
ورأى كثيرون أن انضمام نجم للوفد يعبر عن هوى قديم لديه، مشيرين إلى أنه ارتبط في شبابه بحزب الوفد القديم، خصوصا بعد أن عمل بأحد المعسكرات الإنجليزية في منطقة القناة وساعد الفدائيين في عملياتهم، وعقب إلغاء المعاهدة المصرية الإنجليزية دعت الحركة الوطنية العاملين بالمعسكرات الإنجليزية إلى تركها فاستجاب نجم للدعوة وعينته حكومة الوفد عاملا بورش النقل الميكانيكي.
وفي تلك الفترة قام بعض المسؤولين بسرقة المعدات من الورشة وعندما اعترضهم اتهموه بجريمة تزوير استمارات شراء، مما أدى إلى الحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات، والطريف أن نجم أقر بعدها بسنوات طويلة وفي أحد برامج الـ«توك شو» أنه كان مذنبا في تلك الواقعة، وليس بريئا كما ادعى في حينها.
وبعد خروجه من السجن عين أحمد فؤاد نجم موظفا بمنظمة تضامن الشعوب الآسيوية الأفريقية التي كان يرأسها الكاتب الراحل يوسف السباعي، وأصبح أحد شعراء الإذاعة المصرية وأقام في غرفة على سطح أحد البيوت في حي بولاق الدكرور، وبعد ذلك تعرف على الشيخ إمام في حارة خوش قدم (معناها بالتركية قدم الخير) أو حوش آدم بالعامية ليقرر أن يسكن معه ويرتبط به حتى أصبحا ثنائيا معروفا وأصبحت الحارة ملتقى المثقفين.
دخل «الفاجومى» السجن سبع مرات بسبب مواقفه السياسية، في عهد الرئيسين عبد الناصر والسادات، ورافقه أحيانا بالسجن صديق عمره الملحن والمغني الثوري الشيخ إمام. وعين نجم سفيرا للفقراء عام 2007 من جانب المجموعة العربية في صندوق مكافحة الفقر التابع للأم المتحدة.
ونجح الثنائي نجم وإمام في إثارة الشعب وحفز هممه أولا ضد الاستعمار ثم ضد الديكتاتورية الحاكمة ثم ضد غيبة الوعي الشعبي، ويقول نجم عن رفيق حياته إنه «أول موسيقي تم حبسه في المعتقلات من أجل موسيقاه وإذا كان الشعر يمكن فهم معناه فهل اكتشف هؤلاء أن موسيقى إمام تسبهم وتفضحهم»؟.
ويرى أحمد فؤاد نجم أن العامية أهم شعر عند المصريين، لأنهم «شعب متكلم فصيح وأن العامية المصرية أكبر من أن تكون لهجة وأكبر من أن تكون لغة، فهي روح وهي من وجهة نظري أهم إنجاز حضاري للشعب المصري».
ويؤكد الشاعر المصري زين العابدين فؤاد، أحد المقربين من نجم أن نقطة التحول المهمة في حياة «نجم» كانت عندما تعرف على الشيخ إمام، والذي رآه لأول مرة في حياته في بيت الشاعر عبد الرحمن الأبنودي في منطقة بولاق الدكرور عام 1964.
وذكر زين العابدين قائلا: «لقد قدمت (نجم) و(إمام) لأول مرة أمام جمهور كبير في كلية الآداب بجامعة القاهرة سنة 1968 وسألني وقتها الشيخ إمام عن عدد الحاضرين في المدرج فقلت: له نحو 50 كي لا يفزع من العدد الكبير الحاضر ولما غنى أشعار نجم وبدأ التصفيق وشعر بصوته العالي قال: لا يقلون عن خمسة آلاف وبالفعل كانوا كذالك».
وتابع زين العابدين في تصريحات صحافية: إن «الثنائي (إمام ونجم) خرجا من السجن بعد وفاة عبد الناصر في 1971 وأعيد القبض عليهما بعد مظاهرات الطلبة في 1972 وفى السجن كتب نجم (أنا رحت القلعة وشفت شبابها الزين). وفى 1973 اعتقلنا معا مرة أخرى عندما شاركنا في مظاهرات عمال حلوان للحديد والصلب واتهمنا بتهمة التحريض وأعيد القبض علينا مرة أخرى في 1977 بتهمة التحريض أيضا وكان نص قرار الاتهام: دأب على كتابة القصائد المناهضة لنظام الحكم. وسجنا 18 شهرا ولما خرجنا ذهب نجم إلى جامعة عين شمس وألقى قصيدته الشهيرة «بيان هام» فتم القبض عليه مرة أخرى ووضع في زنزانة (9) الشهيرة بسجن أبو زعبل وبقيت أنا وآخرين في السجن ووقتها قلت لـ(نجم): كان عندي مشكلة في المياه في بيتي بالهرم واتحلت هنا في السجن فرد: (أنت هتفضل في السجن لغاية ما مصر تدار بالطاقة الذرية)».
ورغم أن أحمد فؤاد نجم سجن في عهد عبد الناصر، إلا أنه ظل من أشد المعزين له، والمشيدين بوطنيته. وقد كتب فيه قصيدة شهيرة يقول فيها:
«على الضريح السكة مفروشة تيجان الفل والنرجس
والقبة صهوة فرس عليها الخضر بيبرجس
والمشربية عرايس بتبكي والبكا مشروع
من دا اللي نايم وساكت والسكات مسموع»
تمتع «الفاجومي» بخفة ظل، وروح مصرية محبة للمزاح والسخرية، لم تغب عنه حتى في آخر تغريد له عبر حسابه على «تويتر» كتب ساخرا من جماعة الإخوان المسلمين قائلا: «ابقوا قولوا للإخوان تصوت ع الدستور بنعم عشان يدخلوا الجنة».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».