مذكرات يانيس فاروفاكيس عن ستة أشهر أعادت اليونان إلى طوق الطاعة

وزير للمالية في «بطن الحوت الأوروبي»

يانيس فاروفاكيس
يانيس فاروفاكيس
TT

مذكرات يانيس فاروفاكيس عن ستة أشهر أعادت اليونان إلى طوق الطاعة

يانيس فاروفاكيس
يانيس فاروفاكيس

في الحادي عشر من يونيو (حزيران) 2011 اقتحم 5 آلاف رجل أمن مدججين بالسلاح ميدان سينتاغما - قلب العاصمة اليونانية - لينهوا بالقوة اعتصاماً عاماً استمر عدة أشهر تحت شعار (احتلوا أثينا) شارك فيه 35 في المائة من المواطنين فعليّاً بالنزول إلى الشوارع والميادين العامة منادين بـ(ثورة) على النظام الفاسد من النخب التي حكمت اليونان خلال عقود ماضية عبر تحالف ممنهج بين مافيات التهريب والأوليغارشية التي استنزفت موارد الدولة والمجتمع - فأثرت، وأفقرت بذات الوقت البلاد والعباد.
«روح (سينتاغما) تلك» يقول يانيس فاروفاكيس، وزير مالية اليونان السابق في مذكراته (عقلاء في الغرفة) التي نشرها حديثاً: «تحولت إلى حراك سياسي أصبح لا يمكن إيقافه». وبالفعل فإن تلك الأشهر القليلة أعادت تشكيل توجهات اليونانيين السياسيّة على نحو جذري رفع نسبة الناخبين الذين صوتوا لصالح حزب سيريزا اليساري إلى أغلبيّة 36 في المائة في انتخابات 2015 العامة مقارنة بأقل من 5 في المائة في الانتخابات السابقة. كان الحزب قد طرح برنامجاً طموحاً لإعادة تنظيم اقتصاديات البلاد في وقت كانت الميزانيّة العامة تتدحرج إلى هوة الإفلاس نتيجة لتوقف اليونانيين عن دفع الضرائب وامتناع البنك المركزي الأوروبي والشركاء الأوروبيين الكبار - على رأسهم ألمانيا – عن إقراض اليونان.
فاروفاكيس – الذي كان والده يونانياً مصريّاً عاد ليدرس في جامعة أثينا – وجد نفسه بعد تلك الانتخابات داخل قلب الحوت الأوروبي وزيراً للماليّة مقابل فريق من دهاقنة البنوك الأوروبيين «الذّين لم يكونوا يريدون تحصيل ديونهم بقدر ما أرادوا تلقين اليونانيين درسَا في عدم الخروج عن طوق الطاعة ليصير عبرة للشعوب الأوروبيّة الأخرى». كانت مهمة فاروفاكيس بالفعل أشبه بمهمة استشهاديّة لا طائل من ورائها.
لم يتفاءل الأوروبيّون بتولي فاروفاكيس ذلك المنصب الحساس. هم كانوا يريدون وجهاً من البيروقراطيين التقليديين أقل راديكالية، كي يوافق على إملاءاتهم دون كبير عناء، فانتهوا إلى أكاديمي يساري معروف بتمرده واستقلاليته يذهب إلى مقر عمله بجاكيت جلدي على دراجة ناريّة. لكن ذلك الأكاديمي فاجأ الجميع بقدرته المذهلة على فهم الأبعاد المعقدة للمسائل الماليّة والاقتصاديّة، وبراغماتيته في التفاوض، وقدرته على استجلاب دعم مجموعة من عتاولة اليمين الغربي والمؤسسات الماليّة الدوليّة لدعم موقف اليونان. لم تكن لدى فاروفاكيس أي أوهام بشأن إمكانيّة قيام ديكتاتوريّة العمال والفلاحين في بلاده وقتها لأن تلك مواجهة ستكون حتماً عبثيّة بين سمكة صغيرة بمواجهة حوت غاضب، ولهذا فإن خطته التفاوضيّة تركزت حول استخدام أوراق القوة القليلة التي لديه - والمتمثلة أساساً بالتفويض الشعبي الواضح والتهديد بالخروج من فضاء العملة الأوروبيّة الموحدة (اليورو) - لتحسين شروط الاستسلام من خلال إعادة هيكلة للديون ومحاولة تخفيف وطأة سياسات التقشف على المواطن اليوناني الفقير. كان وزير ماليّة آتياً من جذور ماركسيّة، لكنّه يحاول وبجد التفاوض لأجل منهج رأسمالي معتدل كينزي النزعة في إدارة الأزمة «يمكن أن ينقذ الرأسماليّة من نفسها».
(عقلاء في الغرفة) يقّدم رواية فاروفاكيس عن تفاصيل تلك الفترة العصيبة من تاريخ اليونان الحديث، والتي استمرت لستة أشهر تقريباً، وانتهت بعدما ترك منصبه بناء على طلب ألكسيس تسيبراس رئيس الوزراء اليوناني عن «سيريزا» الذي خضع لضغوط الأوروبيين. وهو استعار العبارة من تأنيب كريستن لاغارد، رئيسة البنك الدولي للمفاوضين مع اليونان عندما فارت المشاعر بأحد الاجتماعات قائلة إنها تحتاج إلى عقلاء ناضجين في تلك الغرفة.
لم يكن فاروفاكيس عضواً في سيريزا، لكنه ترشح على لائحة الحزب بالانتخابات العامة عام 2015 فحصل على أعلى عدد من أصوات الناخبين اليونانيين بين كافة المرشحين. لكن تفويض الرجل لإدارة الصراع مع الشركاء الأوروبيين الكبار لم يأت بسبب شعبيته الجارفة فحسب، فهو بالفعل من أهم العقول الاقتصاديّة الأوروبيّة، وقد تفرّد قبل كل الآخرين بالتحذير علناً في 2006 من خطورة انكشاف البنوك الأوروبيّة المتزايد أمام المشتقات الماليّة الأميركيّة وديون العقارات المتضخمة على الجانب الآخر من الأطلسي، وكتب قبل تفجر الأزمة الماليّة العالميّة عام 2008: «السؤال الآن ليس إذا كانت الأزمة ستقع أم لا، بقدر ما هو متى ستقع»، كاشفاً أن «البنوك الأوروبيّة في فرنسا وألمانيا وبريطانيا وهولندا تستثمر أكثر من 30 تريليون دولار في تلك الأدوات الماليّة الأميركيّة الغامضة، وهو مبلغ يعادل ضعفي الناتج القومي للدّول الأربع مجتمعة». كان فاروفاكيس يعلم تماماً أن هذي الثقة الشعبيّة العالية حمْلٌ ثقيل، وهو لذلك احتفظ طوال فترة توليه المنصب العام باستقالة مكتوبة داخل جيبه ليلقي بها في وجه العالم لحظة تطلب الأمر.
عند فاروفاكيس ليست أزمة اليونان - رغم إقراره بالفساد المستشري وسوء الإدارة المزمن في بلاده - سوى مجرّد عرض جانبي لأزمة البنوك الأوروبيّة الكبرى التي أرادت أن يتحمل دافع الضرائب الأوروبي المسكين ما خسرته خلال مغامرتها (الأميركيّة) الطائشة.
يكتب فاروفاكيس بنفس روائي متمكن حتى لتنسى أنّه أكاديمي في العلوم الماليّة. ويوميات مواجهته تلك تبدو كمغامرات دونكيشوت نبيل معاصر لم يجد حتى مساعده بانشو ليقف معه في مواجهاته العبثيّة الكبرى. فهو رغم براغماتيته المشهودة، فقد أغضب الأوروبيين عليه بوضعه خطة بديلة حال فشل المفاوضات تقوم على توقف اليونان عن الدفع والخروج من (اليورو) لمصلحة استعادة الدراخما. هو بحسه التقني العالي كان يدرك صعوبة تنفيذ تلك الخطة، لكنه كأي مفاوض لمّاح، سعى لتحسين موضعه على ميزان القوى المائل وبشدة لمصلحة اللاعبين الأوروبيين الكبار. رئيس الوزراء اليساري تسيبراس الذي وعده إثر تشكيل الحكومة بالاستقالة والعودة للتظاهر في الشارع من جديد إن حاول الأوروبيون فرض قراراتهم المجحفة على اليونان بدا مرعوباً من انقلاب عسكري يعيد البلاد لقبضة اليمين المتطرف إن استمرت تلك المواجهة. وهو فيما يبدو استجلب فكرة إجراء الاستفتاء الشهير لمعرفة مدى دعم الشعب لموقف فاروفاكيس التفاوضي الذي لم يسانده أحد من الوزراء، آملاً ألا يوافق الشعب على المضي في خيار المواجهة أو أقله الخروج بنتيجة ملتبسة تسمح لسيريزا بقبول الاستسلام والاحتفاظ بالسلطة في ذات الوقت، بينما فاروفاكيس تعهد علناً بالاستقالة حال لم تحظ استراتيجيته على تأييد شعبي حاسم.
يروي فاروفاكيس أحداث ليلة الاستفتاء المثيرة التي أبقت الفريق الوزاري اليوناني برمته داخل مقر الرئاسة مترقباً النتيجة لحظة بلحظة. لقد صوّت اليونانيون بأغلبيّة الثلثين الحاسمة لمواجهة متصلبّة ترفض إملاءات الترويكا الأوروبيّة المفاوضة. وبينما كان يقفز فرحاً، لاحظ تجهم جميع الوجوه من حوله. لا أحد كان يريد المواجهة. ليلتها كان لقاؤه مع تسيبراس صادماً، إذ عبر له عن خشيته من تكرار حادثة (غاودي) عندما أعدم ستة من القادة اليونانيين بعد انقلاب عسكري في الثلاثينيات، ولذا فإنه لن يخضع للإرادة الشعبيّة بل سيقبل بشروط الأوروبيين، وطلب إليه الاستقالة من منصبه لأنه أصبح كما عقبة لقبولهم بأي تسوية مع اليونان. لقد كان ذلك الموقف غاية الجبن من الزعيم اليساري، لكنه كان أيضاً لحظة كشفت عن معدن فاروفاكيس الصلب. لقد اعتبر موقف حكومة تسيبراس «انقلاباً من الحكومة على الشعب»، فأخرج خطاب استقالته من جيبه وسلمه إياه معتبراً «إن هذه الاستقالة رداء شرف سيرتديه على كتفيه طوال عمره».
نص (عقلاء في الغرفة) ليس مفصليّاً فحسب لتدوين تلك المرحلة من التاريخ اليوناني على يد أحد أهم صانعي أحداثها - التي جرى أعقدها وراء الكواليس -، بل هو يكتسب قيمة عالميّة لكل راغب في فهم جذور أزمات الرأسماليّة المتكررّة، وطبيعة النادي النخبوي المعولم القابض على مقدرات العالم متجاوزاً كل سيادة محليّة أو تفويضات شعبية. وقد وصفته صحيفة التلغراف البريطانية اليمينيّة بأنه كتاب «يتسبب بالدهشة وقراءة لازمة لكل حكومات أوروبا». لقد فشل هذا اليوناني المتمرد في مهمته «لإنقاذ الرأسماليّة من نفسها»، ليعود هو على دراجته إلى منصبه الجامعي، بينما سجلت الرأسماليّة نصراً آخر على شعب فقير.


مقالات ذات صلة

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.