فيلمان لبناني وأميركي يختتمان مهرجاني لوس أنجليس ونيويورك

الاختلاف شاسع بين فعاليات أميركا السينمائي

لقطة من الفيلم اللبناني «مفكرة شهرزاد» و من «ثاقب الثلج» لبونغ جون هو
لقطة من الفيلم اللبناني «مفكرة شهرزاد» و من «ثاقب الثلج» لبونغ جون هو
TT

فيلمان لبناني وأميركي يختتمان مهرجاني لوس أنجليس ونيويورك

لقطة من الفيلم اللبناني «مفكرة شهرزاد» و من «ثاقب الثلج» لبونغ جون هو
لقطة من الفيلم اللبناني «مفكرة شهرزاد» و من «ثاقب الثلج» لبونغ جون هو

مهرجانان سينمائيان مختلفان انطلقا في منتصف الأسبوع الماضي؛ واحد في نيويورك، والآخر في لوس أنجليس. الأول هو مهرجان «هيومان رايتس ووتش» في نسخته الـ25 الذي بدأ يوم الخميس الـ12 من الشهر، ويستمر إلى الـ22 منه، ليعرض 22 فيلما (بمعدل فيلم كل يوم) تبحث في أحوال عالم يحتاج البشر فيه إلى رعاية إنسانية ورصد لأحوال الظروف والبيئات التي يعيشون فيها سياسيا وأمنيا واجتماعيا.
الثاني، بدأ قبله بيوم واحد في نسخته الـ20، وهو مهرجان «لوس أنجليس السينمائي الذي يستمر حتى الـ19 من هذا الشهر، ويعرض نحو 200 فيلم من 40 دولة. من هذه الأفلام 23 برميير دوليا (أي أفلام لم يسبق عرضها عالميا).
فيلما الافتتاح والاختتام هما بدوريهما سبـاقان لم يشهدا عرضا من قبل في أي مكان. الافتتاح هو لفيلم خيالي علمي أخرجه الكوري بونغ جون - هو «الأول له بالإنجليزية» ويحمل عنوانا مركبا هو «Snowpiercer» أو «ثاقب الثلج». أما الختام فهو كناية عن الفيلم الجديد المنتظر للممثل والمخرج كلينت إيستوود، وعنوانه «فتيان جيرسي» (Jersey Boys).
لوس أنجليس مدينة متناقضة لصناعة سينمائية شائكة، لم تشهد المحاولات المتكاثرة لإحياء مهرجان كبير فيها نجاحا من قبل. في السبعينات والثمانينات عندما انطلقت المحاولات الأولى (عبر مؤسسة «أميركان فيلم إنستيتيوت» المركزية) اعترضت الجهود حقيقة أن قاطني هذه المدينة (التي تتألف بدورها من مدن ارتبطت عبر الزمن من بينها هوليوود) لا يكترثون كثيرا للمهرجانات السينمائية، كونهم يعيشون مهرجانا دائما طوال 365 يوما من أيام كل سنة.
فالمدينة تحتوي على مئات الشاشات المنتشرة في كل حي، وثلث هذه الشاشات تقريبا تعرض أفلاما متخصصة (أوروبية أو أميركية) في حين تعرض الصالات الباقية الأفلام الأميركية التي توفـرها هوليوود، مما يعني أن المهرجان القائم فيها سيضطر للاستعارة من الموزعين أفلاما يعرضها وهي مبرمجة أصلا للعروض التجارية، الأمر الذي قلـما تحمست له شركات التوزيع الصغيرة والكبيرة.
إلى ذلك، كان أحد العوائق التي منعت لوس أنجليس من أن يكون لها مهرجان بموازاة «صندانس» في ولاية يوتا أو تورونتو في كندا القريبة أو مثل سان فرانسيسكو في المدينة الأقرب، أن الحضور المطلوب لنجوم السينما، من ممثلين ومخرجين، لم يشهد تجاوبا فالمدينة تعيش حفلات من هذا النوع معظم أشهر السنة، مما يجعل الاحتفال الإضافي مجرد احتمال أكثر منه واقعا.

* ظرف جيـد وآخر...

* عندما انطلق مهرجان «لوس أنجليس السينمائي» قبل 20 سنة واجه سريعا هذه التركيبة الصعبة. لكن المثابرة أم المعجزات، وبعد مخاض الأعوام الخمسة الأولى من العقد الأول رسـخ قدميه، وإثر الأعوام الخمسة الثانية من العقد الأول صار عادة من الصعب الإقلاع عنها. من عام 2004 وإلى اليوم هو في نجاح مطرد بعدما أصبح الملجأ الفعلي لكل باحث عن فيلم جديد أو مختلف.
تحت رئاسة ستيفاني أيلين طوال هذه الفترة، نجح المهرجان في تجاوز المصاعب المذكورة، وتحول إلى فاعل ثقافي في مدينة ليست مشهورة كثيرا في هذا الجانب من الحياة. على عكس نيويورك أو سان فرانسيسكو، جسدت لوس أنجليس روح العمل الترفيهي لهوليوود أكثر مما جسدت للمختلف والمستقل أو غير السائد من الأفلام.
لكن الظروف تغيـرت، بعضها للأفضل، وبعضها للأسوأ. في مقابلة جمعتني قبل عامين برئيسة المهرجان (القادمة من مطابخ الاستوديوهات الكبيرة سابقا) ذكرت أن المشكلة الأكبر هي تلك التي تشترك فيها المهرجانات جميعا: «كيف أجمع كل الأفلام التي سيقوم المهرجان بعرضها؟ هل سأنجح في الحصول عليها من مخرجيها ومنتجيها أم أنني سأجد نفسي قبل شهر من موعد بدء المهرجان وأنا وفريقي ما زلنا نركض في كل اتجاه لتأمين البرامج. هذه مشكلة كل المهرجانات بلا استثناء، لكنها تختلف بالحجم من مهرجان لآخر أحيانا».
الظرف الجيـد المواتي اليوم لمهرجان لوس أنجليس يتبلور من حقيقة أن إقبال النظـارة على الصالات التي تعرض الأفلام الصغيرة وغير الأميركية، حافظ حتى الآن على تراجعه عما كان الوضع عليه قبل خمس سنوات، مما يمنح المهرجان فرصة تعويض ذلك وفي إطار أكثر شمولا ورحابة. الظرف الأقل جودة هو أن انحسار الإقبال على الأفلام غير الأميركية يثقل من عبء محاولة تغيير هذا الوضع، إذا ما أصبح سائدا. عاملان متناقضان يبدو، بالنظر إلى برامج هذه الدورة والدورات القريبة الماضية، أن المهرجان تجاوز مرحلة الخطر، ومن المحتمل جدا أن يتجاوز مرحلة الحرج أيضا هذا العام.

* بداية ونهاية

* المخرج جون هو - بونغ (أو بونغ جون - هو إذا كنت تفضل اتباع التقليد الصيني والكوري والياباني بتقديم اسم العائلة على اسم الفرد) الذي شهد فيلمه «سنو بيرسر» افتتاح الدورة الجديدة هو ذاته مخرج «أم» (2009) امتدت عروضه من كوريا الجنوبية إلى الغرب والشرق الأوروبيين، ومن البرازيل إلى كندا والولايات المتحدة، وكان ضيف مهرجان «كان» (عرضه العالمي الأول في ذلك العام) وكارلوفي فاري وتورونتو وشيكاغو ونيويورك ولندن وصولا إلى هلسنكي سنة 2010.
ذاك كان فيلما عن صعوبة التواصل بين أم وابنها وبينهما والعالم، إذ تنطلق الأولى لكي تبحث عن القاتل الحقيقي لأجل إنقاذ ابنها من السجن.
لكن الفيلم الجديد يختلف 180 درجة، في مستقبل ليس بالبعيد تجري بعض الدول تجربة لتغيير مناخ العالم، وإنقاذه من حالة الحرارة المرتفعة، فشل هذه التجربة العلمية يؤدي العكس تماما، فإذا بمعظم أهل الأرض يسقطون صرعى. الفيلم، من بطولة كريس إيفانز وتيلدا سوينتون وجايمي بل وإد هاريس، من بين عشرات آخرين، هو عن مجموعة من الناس محتشدة في عربة قطار يخترق الصقاع البعيدة بحثا عن النجاة. ضمن الركـاب من سيحاول إعادة الأمور إلى نصابها الأول؛ الهيمنة والسيطرة وتقسيم الناس إلى عناصر وطبقات.
فيلم الختام أميركي صميم ليس من حيث إنه إنتاج محلـي (هوليوودي) بكامله، وليس لأنه من تحقيق كلينت إيستوود الأميركي مائة في المائة فقط، بل لأنه يتعامل مع سيرة حياة فرقة The Four Seasons التي كانت إحدى أنجح الفرق الغنائية في مطلع الستينات، وقبل أن تغزو الفرق البريطانية السواحل الأميركية في أواخر ذلك العقد. إيستوود يتحدث عن الفترة التي صاحبها شابا ومولعا بالموسيقى بدوره ومانحا الأدوار الأساسية إلى بعض الوجوه الجديدة، منها جون لويد يونغ (في دور المغني فرانكلي فالي) وأشلي ليلاند وفنسنت بياتزا، كما منها أيضا ابنته فرنشيسكا إيستوود.

* شهرزاد في نيويورك

* نيويورك طالما اختلفت عن لوس أنجليس في أوجه نشاطاتها. إنها مدينة للثقافة والفن، وكانت صناعة السينما ذاتها بدأت فيها عند مطلع القرن الـ20، لكن عندما ازداد السفر إلى لوس أنجليس (التي كانت عبارة عن مزارع ليمون وبرتقال تمتد عبرها شوارع لا مبان تحيط بها) بدأت الهجرة الجماعية إليها، كونها أكثر دفئا وشمسا للتصوير في كل ربوع السنة.
مهرجان «هيومان رايتس ووتش» له هدف مختلف تماما ويتولاه «مركز جمعية لينكولن للفيلم» الذي لديه مهرجانه السينمائي الأكبر، في النصف الثاني من كل سنة.
هذا المهرجان للكشف عن الأفلام التي تقصد الترصـد للظواهر التي تمنع الإنسان من التقدم. تحجز حريـته أو تكبـل طموحاته. يمعن النظر في الحروب والظروف الصعبة التي تخلقها للمواطنين بصرف النظر عن المبررات السياسية للحرب، أو من يقترف هذا الإثم أو ذاك.
في العام الماضي، أتاح المهرجان للنيويوركيين مشاهدة «فعل قتل» التسجيلي و«الحرب الخفية» اللذين توجها بعد ذلك لترشيحات الأوسكار. الأول عن القتل العشوائي الذي شهدته إندونيسيا في سابق سنواتها، والثاني حول العنصرية داخل المؤسسة العسكرية الأميركية. هذا العام تحوم الأفلام حول ساحات مختلفة. تذهب إلى بيلاروسيا لتقديم «أفعال خطرة من بطولة عناصر مشاغبة في بيلاروسيا» الذي عدته «ذا نيويورك تايمز» في مقال لها صرخة ضد حكم الرئيس ألكسندر لوكاشينكو الديكتاتوري.
ومن بيلاروسيا إلى مدينة حمص كما يوفرها للناظرين طلال دركي في فيلمه «عودة إلى حمص»، الذي يفحص عن كثب حياة المقاتلين المناوئين للنظام الحالي. الفيلم دار مهرجانات عدة، والأحداث تغيـرت على الأرض أكثر من مرة، لكن لا يزال هناك جديد يمكن اكتشافه لمن لم ير الفيلم بعد.
16 فيلما من الأفلام الـ22 المعروضة من إخراج نساء، من بينها فيلم لجوانا ليبر بعنوان «الثمن الفائق» The Supreme Price حول مقتل الرئيس النيجيري المنتخب شرعيا سنة 1993 موشود أبيولا، الذي لم يتسلم الحكم مطلقا، بل أدخل إلى السجن حيث مات فيه بعد أربع سنوات.
وتحتل حوادث العنف العائلي الشاشة أكثر من مرة في هذا المهرجان، عبر عدة أفلام تسجيلية، من بينها فيلم «عنف شخصي» Private Violence لسينثيا هيل، وإن كانت تتطرق لتجربة واحدة بطلتها امرأة من نورث كارولاينا قررت أن تفعل شيئا من سوء المعاملة التي كانت تتعرض لها من جانب زوجها، فانفصلت عنه، وأسست هيئة للدفاع عن النساء اللواتي يمررن بالتجربة القاسية ذاتها.
لكن وردة الأفلام جميعا، أو العمل الذي يبدو أنه سيؤول إلى الإعجاب الأكبر من قبل مشاهديه، هو الفيلم اللبناني «مفكرة شهرزاد»، الذي أخرجته زينة دكـاش حول مجموعة من النساء السجينات بتهم مختلفة. هذا الفيلم الرائع الذي شوهد سابقا في مهرجان دبي السينمائي ليس كسواه، لا من حيث الفكرة ولا من حيث التنفيذ. حرصت المخرجة لا على تصوير التجارب المختلفة للسجينات عبر لقاءاتها، بل على معايشة الوضع (لا تخرج الكاميرا من السجن إلا في المشهد النهائي) داخل السجن. على عكس ما قد تذهب إليه أفلام أخرى، لا تنشغل برسم ملامح الكآبة وتأطير قصص الأحزان (رغم وجودها)، بل تطلب من شخصياتها التفاعل مع «أفضل ما يمكن لوضع قاس أن يحتويه».
أمامنا، بالتالي، نساء يضحكن ويتسامرن ويلعبن ويسخرن من دون أن تنفي الواحدة عن نفسها مسؤوليتها فيما وصلت إليه. الأكثر من ذلك أن المخرجة مدت يدها إلى داخل كل واحدة، واستخرجت منها موهبة أداء توظـفها في مسرحية تقام داخل السجن تغني فيها بعض السجينات، وتلقي بعضهن الأخريات بالشعر أو تؤدين الأدوار.
هذا الفيلم اختاره المهرجان للختام، ومن يدري، فقد يختاره الأوسكار للترشيحات أو ما بعدها.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)